-
مجموع الأنشطة
210 -
تاريخ الانضمام
-
آخر نشاط
نوع المحتوي
الاقسام
المدونات
Store
التقويم
التحميلات
مكتبة الصور
المقالات
الأندية
دليل المواقع
الإعلانات
كل منشورات العضو مجهول
-
زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ رضي الله عنها أمٌّ المساكين سُمِّيت بأم المساكين لرحمتها بهم وِرّقتها عليهم ؛ فكانت تطعمهم وتكسوهم، وتقضي حوائجهم، وتقوم على أمرهم. السنن الكبرى للبيهقي 7 / 70 (13805) صحيح تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة للهجرة، بعد زواجه من السيدة حفصة - رضي اللَّه عنها - بوقت قصير، وذلك بعد أن استشهد زوجها عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب - ابن عم رسول اللَّه - إثر جرح أصابه يوم بدر، وتركها بلا عائل؛ فرحم النبي صلى الله عليه وسلم وحدتها، وتقدم إليها يخطبها، فجعلت أمرها إليه؛ فتزوجها صلى الله عليه وسلم. إنها السيدة زينب بنت خزيمة -رضي الله عنها- التي أكرمها اللَّه عز وجل بالزواج من رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجعلها في كنفه وإلى جواره، وكفى بها كرامة. وكانت السيدة زينب -رضى اللَّه عنها- أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث -رضي اللَّه عنها- من أمها، وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة ميمونة سنة سبع من الهجرة لما اعتمر عمرة القضاء، وذلك بعد وفاة أختها السيدة زينب -رضي الله عنها، وهي في الثلاثين من عمرها. عاشت السيدة زينب في بيت النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثة أشهر، ثم ماتت، ولحقت بالسيدة خديجة بنت خويلد لتكون ثاني زوجات النبي صلى الله عليه وسلم موتًا في حياته - ولم يمت في حياته غيرهما - فقام النبي صلى الله عليه وسلم على أمر جنازتها، وصلى عليها، ودفنها في البقيع، فكانت أول زوجة من زوجاته تدفن في هذا المكان المبارك
-
أمُّ المؤمنين.. الحبيبة ( عائشة بنت أبى بكر ) عَنْ أَبِى عُثْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ قَالَ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ أَي النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ « عَائِشَةُ » . قُلْتُ مِنَ الرِّجَالِ قَالَ « أَبُوهَا » . قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ « عُمَرُ » . فَعَدَّ رِجَالاً فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ .صحيح البخاري (4358 ) وعن هِشَامَ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، فَقُلْنَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ ، وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ ، وَإِنَّا نُرِيدُ الْخَيْرَ كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ ، فَمُرِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ ، قَالَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ فَأَعْرَضَ عَنِّى ، فَلَمَّا عَادَ إِلَىَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَاكَ فَأَعْرَضَ عَنِّى ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ « يَا أُمَّ سَلَمَةَ لاَ تُؤْذِينِي في عَائِشَةَ ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَىَّ الْوَحْي وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا » صحيح البخاري (3775 ). وُلدت السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي اللَّه عنها - قبل الهجرة بحوالي ثماني سنوات، في بيت عامر بالإيمان، ممتلئ بنور القرآن، فأبوها الصديق أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأول من آمن من الرجال، وأول خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمها السيدة أم رومان بنت عامر، من أشرف بيوت قريش وأعرقها في المكانة. وقد شاركت السيدة عائشة -رضي اللَّه عنها- منذ صباها في نصرة الإسلام، فكانت تساعد أختها الكبيرة أسماء في تجهيز الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم وأبيها وهما في الغار عند الهجرة. وبعد أن استقر مقام المسلمين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبو بكر الصديق إلى ابنه عبد اللَّه يطلب منه أن يهاجر بأهل بيته: عائشة، وأسماء، وأم رومان، فاستجاب عبد اللَّه بن أبى بكر ومضى بهم مهاجرًا، وفي الطريق هاج بعير عائشة فصاحت أم رومان: وابنتاه وا عروساه. ولكن اللَّه لطف، وأسرع الجميع إلى البعير ليسكن، وكان في ركب الهجرة السيدة فاطمة الزهراء والسيدة أم كلثوم بنتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين السيدة سودة بنت زمعة، ونزلت السيدة عائشة مع أهلها في دار بنى الحارث بن الخزرج، ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم في منزل حارثة بن النعمان (الطبراني في الكبير ). وبدأتْ مرحلة جديدة في حياة أم المؤمنين عائشة - رضي اللَّه عنها - فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ تَزَوَّجَنِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِى بَنِى الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ ، فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي فَوَفَى جُمَيْمَةً ، فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي ، فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا لاَ أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ ، وَإِنِّي لأَنْهَجُ ، حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي ، ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ . فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضُحًى ، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ "البخاري (3894 ) . وكان بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي دخلت فيه أم المؤمنين عائشة -رضي اللَّه عنها- حجرة واحدة من الطوب اللَّبِن - النَّيِّئ - والطين ، ملحق بها حجرة من جريد مستورة بالطين، وكان باب حجرة السيدة عائشة مواجهًا للشام، وكان بمصراع واحد من خشب، سقفه منخفض وأثاثه بسيط: سرير من خشبات مشدودة بحبال من ليف عليه وسادة من جلد حَشْوُها ليف، وقربة للماء، وآنية من فخارٍ للطعام والوضوء. وفى زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة -رضي اللَّه عنها- تقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لَهَا :« أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ ، أَرَى أَنَّكِ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ » البخاري (3895). وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخطب عائشة حتى جاءته خولة زوج صاحبه عثمان بن مظعون ترشحها له. أحبت السيدة عائشة النبي صلى الله عليه وسلم حبَّا كبيرًا، ومن فرط هذا الحب كانت فطرتها - مثل النساء - تغلبها فتغار. ومرت الأيام بالسيدة عائشة هادئة مستقرة حتى جاءت غزوة بني المصطلق، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بين نسائه (أي أجرى القرعة بينهن لتخرج معه واحدة في السفر) وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك مع أزواجه إذا خرج لأمر، فخرج سهمها فخرجت معه صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته، وعاد المسلمون منتصرين، استراح المسلمون لبعض الوقت في الطريق، فغادرت السيدة عائشة هودجها، فانسلّ عِقدها من جيدها (عنقها)، فأخذت تبحث عنه.. ولما عادت كانت القافلة قد رحلت دون أن يشعر الرَّكْبُ بتخلفها عنه، وظلَّت السيدة عائشة وحيدة في ذلك الطريق المقفر الخالي حتى وجدها أحد المسلمين - وهو الصحابي الجليل صفوان بن المعطل - رضي اللَّه عنه - فركبت بعيره، وسار بها، واللَّه ما كلمها ولا كلمته، حتى ألحقها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن أعداء اللَّه من المنافقين تلقفوا الخبر ونسجوا حوله الخزعبلات التي تداعت إلى أُذن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأثَّرت في نفسه، ونزلت كالصاعقة عليه وعلى أبيها"أبي بكر" وأمها "أم رومان" وجميع المسلمين، لكن اللَّه أنزل براءتها من فوق سبع سماوات فنزل في أمرها إحدى عشرة آية؛ لأنه يعلم براءتها وتقواها، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11]. وتقول السيدة عائشة لما علمت بحديث الإفك: وَبَكَيْتُ يَوْمِي لاَ يَرْقَأُ لِى دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَاي ، قَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي - قَالَتْ - فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي إِذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا ، فَجَلَسَتْ تَبْكِى مَعِى ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَلَسَ ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا ، وَقَدْ مَكُثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ - قَالَتْ - فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ « يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ » . فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً وَقُلْتُ لأَبِى أَجِبْ عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقُلْتُ لأُمِّي أَجِيبِي عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا قَالَ . قَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَتْ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ ، وَوَقَرَ فِى أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ . وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّى بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِى شَأْنِي وَحْيًا ، وَلأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي ، وَلَكِنِّى كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ ، فَوَ اللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ ، فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِى « يَا عَائِشَةُ ، احْمَدِى اللَّهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ » . فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ ، لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) الآيَاتِ ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِى بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ) إِلَى قَوْلِهِ ( غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِى ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِى عَلَيْهِ . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي ، فَقَالَ « يَا زَيْنَبُ ، مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ » . فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَحْمِى سَمْعِى وَبَصَرِي ، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ خَيْرًا ، قَالَتْ وَهْىَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ "البخاري (2661 ) . وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى » . قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ « أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ » . قَالَتْ قُلْتُ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ .. البخاري (5228 ) . تلك هي المؤمنة ،لا يخرجها غضبها عن وقارها وأدبها، فلا تخرج منها كلمة نابية، أو لفظة سيئة. ولما اجتمعت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ومعهن السيدة عائشة لطلب الزيادة في النفقة منه رغم علمهن بحاله، قاطعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة وعشرين يومًا حتى أنزل اللَّه تعالى قوله الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا.وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28-29]. فقام النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه فبدأ بعائشة فقال: يَا عَائِشَةُ إِنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِى فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِى أَبَوَيْكِ » قَالَتْ عَائِشَةُ قَدْ عَلِمَ وَاللَّهِ أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ فَقُلْتُ أَوَفِى هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَي فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لاَ تُخْبِرْ نِسَاءَكَ أَنِّى اخْتَرْتُكَ فَقَالَ لَهَا النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي مُبَلِّغًا وَلَمْ يُرْسِلْنِي مُتَعَنِّتًا » مسلم (3769 ).. وكذا فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا. وعاشت السيدة عائشة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حياة إيمانية يملأ كيانها نور التوحيد وسكينة الإيمان، وقد حازت -رضي اللَّه عنها- علمًا غزيرًا صافيًا من نبع النبوة الذي لا ينضب، جعلها من كبار المحدثين والفقهاء، فرُوى عنها من الحديث أكثر من ألفين ومائة حديث، فكانت بحرًا زاخرًا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، وكانت مدرسة قائمة بذاتها، حيثما سارت يسير في ركابها العلم والفضل والتقى، فقد ورد عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلاَّ وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا. الترمذي (4257 ) صحيح. وكان للسيدة عائشة -رضي الله عنها- علم بالشعر والطب، بالإضافة إلى علمها بالفقه وشرائع الدين. وعَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : "مَا رَأَيْت أَحَدًا أَعْلَمَ بِفَرِيضَةٍ ، وَلاَ أَعْلَمَ بِفِقْهٍ ، وَلاَ بِشِعْرٍ مِنْ عَائِشَةَ " مصنف ابن أبي شيبة 11/195 ( 31031 ) صحيح. ومن جميل ما أسدته السيدة عائشة للمسلمين أنها كانت سببًا في نزول آية التيمم، فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِتُرْبَانَ بَلَدٍ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ بَرِيدٌ وَأَمْيَالٌ وَهُوَ بَلَدٌ لاَ مَاءَ بِهِ وَذَلِكَ مِنَ السَّحَرِ - انْسَلَّتْ قِلاَدَةٌ لِى مِنْ عُنُقِي فَوَقَعَتْ فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لاِلْتِمَاسِهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَلَيْسَ مَعَ الْقَوْمِ مَاءٌ - قَالَتْ - فَلَقِيتُ مِنْ أَبِى مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ مِنَ التَّعْنِيفِ وَالتَّأْفِيفِ وَقَالَ فِى كُلِّ سَفَرٍ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْكِ عَنَاءٌ وَبَلاَءٌ. قَالَتْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ بِالتَّيَمُّمِ - قَالَتْ - فَتَيَمَّمَ الْقَوْمُ وَصَلَّوْا قَالَتْ يَقُولُ أَبِى حِينَ جَاءَ مِنَ اللَّهِ مَا جَاءَ مِنَ الرُّخْصَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ يَا بُنَيَّةُ أَنَّكِ لَمُبَارَكَةٌ مَاذَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِى حَبْسِكِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْبَرَكَةِ وَالْيُسْرِ.مسند أحمد 6/273 (27095) صحيح. لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرًا غيرها، فلقد تزوجها بعد أم المؤمنين خديجة وأم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي اللَّه عنهن جميعًا-؛ رغبة منه في زيادة أواصر المحبة والصداقة بينه وبين الصدِّيق -رضي اللَّه عنه-. وكانت منزلتها عنده ( كبيرة، وفاضت روحه الكريمة في حجرها. وعاشت -رضي اللَّه عنها- حتى شهدت الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان بن عفان - رضي اللَّه عنه - وحضرت معركة الجمل، وكانت قد خرجت للإصلاح بين المسلمين. واشتهرت - رضى اللَّه عنها - بحيائها وورعها، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِى فَأَضَعُ ثَوْبِى فَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِى فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَو َاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلاَّ وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَىَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ. مسند أحمد (26408) صحيح. وكانت من فرط حيائها تحتجب من الحسن والحسين، في حين أن دخولهما على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حل لهما. وكانت -رضي الله عنها- كريمة؛ فيُروى أن "أم درة" كانت تزورها، فقالت: بُعث إلى السيدة عائشة بمال في وعاءين كبيرين من الخيش: ثمانين أو مائة ألف، فَدَعت بطبق وهى يومئذ صائمة، فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك المال درهم، فلما أمست قالت: يا جارية هلُمي إفطاري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم درة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا لحمًا بدرهم فنفطر به. فقالت: لا تُعنِّفيني، لو كنتِ ذكَّرتيني لفعلت. الطبقات الكبرى لابن سعد - (ج 8 / ص 67) حسن ومن أقوالها : * لا تطلبوا ما عند اللَّه من عند غير اللَّه بما يسخط اللَّه. * كل شرف دونه لؤم، فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه شرف فالشرف أولى به. * إن للَّه خلقًا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح؛ خفقت معها، فَأفٍّ للجبناء، فأفٍّ للجبناء. * أفضل النساء التي لا تعرف عيب المقال، ولا تهتدي لمكر الرجال، فارغة القلب إلا من الزينة لبعلها، والإبقاء في الصيانة على أهلها. * التمسوا الرزق في خبايا الأرض. * رأت رجًلا متماوتًا فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: زاهد. قالت: كان عمر بن الخطاب زاهدًا ولكنه كان إذا قال أسمع،وإذا مشى أسرع،وإذا ضرب في ذات اللَّه أوجع. * علِّموا أولادكم الشعر تعذُب ألسنتهم. هذه هي السيدة عائشة بنت الصديق -رضي اللَّه عنها- حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتي بلغت منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغًا عظيمًا، فقد رضي الله عنها لرضا رسوله صلى الله عليه وسلم عنها، فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ إِنَّ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا « يَا عَائِشَ ، هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ » . فَقُلْتُ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، تَرَى مَا لاَ أَرَى . تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - البخاري (3768 ) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَقُولُ إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ . فَكَلَّمَتْهُ . فَقَالَ « يَا بُنَيَّةُ ، أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ » . قَالَتْ بَلَى . فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ . فَقُلْنَ ارْجِعِي إِلَيْهِ . فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ ، فَأَتَتْهُ فَأَغْلَظَتْ ، وَقَالَتْ إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِى قُحَافَةَ . فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا ، حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ . وَهْىَ قَاعِدَةٌ ، فَسَبَّتْهَا حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ هَلْ تَكَلَّمُ قَالَ فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ ، حَتَّى أَسْكَتَتْهَا . قَالَتْ فَنَظَرَ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَائِشَةَ ، وَقَالَ « إِنَّهَا بِنْتُ أَبِى بَكْرٍ » .صحيح البخاري (2581 ) وفى ليلة الثلاثاء 17 من رمضان في السنة 57 من الهجرة توفيت أم المؤمنين السيدة عائشة وهى في سن السادسة والستين من عمرها، ودفنت في البقيع، وسارت خلفها الجموع باكية عليها في ليلة مظلمة حزينة، فرضي اللَّه عنها وأرضاها.
-
صاحبةُ سرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم :حفصة بنت عمر لما فرغ زيد بن ثابت -رضى اللَّه عنه- من جمع القرآن بأمر من أبى بكر- رضى اللَّه عنه-، كانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبى بكر، حتى توفاه اللَّه، ثم عند عمر حتى توفاه اللَّه، ثم عند حفصة بنت عمر -رضى اللَّه عنها - ثم أخذها عثمان -رضى اللَّه عنه- فنسخها، ثم ردها إليها فكانت في حوزتها إلى أن ماتت. وُلدت السيدة حفصة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، في بيت شريف كريم، فأبوها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- وأمها السيدة زينب بنت مظعون بن حبيب. أسلمتْ حفصة مبكرًا هي وزوجها خُنيس بن حذافة السهمى القرشي، وهاجرت معه إلى الحبشة فرارًا بدينهما، ثم إلى المدينة بعد أن بدأت الدعوة في الانتشار، وشهد زوجها بدرًا، ومات في غزوة أحد بعد جرح أصابه، وترك حفصة شابة لم تتجاوز عامها الحادى والعشرين . وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِىِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ شَهِدَ بَدْرًا تُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ . قَالَ سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى . فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ، فَقَالَ قَدْ بَدَا لِى أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا . قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ . فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا ، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ ، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ، ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ إِلاَّ أَنِّى قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ذَكَرَهَا ، فَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا .صحيح البخارى. وبنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان من السنة الثالثة للهجرة، وكان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من حفصة ؛ إكرامًا لها ولأبيها وحُبّا فيهما، وذات يوم قالت امرأة عمر له: عجبًا يا بن الخطاب ! ما تريد إلا أن تجادل وابنتك تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان، فذهب عمر ابن الخطاب من فوره إلى حفصة غضبان يقول لها: يا بنيتى إنى أحذرك عقوبة اللَّه وغضب رسوله. البخاري (4913 ) مطولا كانت السيدة حفصة -رضى اللَّه عنها- عابدة خاشعة، تقوم الليل، وتصوم النهار، لذا كرمها اللَّه تعالى بفضله وجعلها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. وشهدت حفصة-رضي اللَّه عنها- انتصارات الإسلام واتساع دولته، وروت 60 حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . توفيت حين بويع الحسن بن علي -رضى اللَّه عنهما- وذلك في جمادى الأولى سنة 41 للهجرة، وقيل توفيت سنة 45هـ.
-
المهاجرةُ أرملةُ المهاجر ( سودة بنت زمعة ) لُقِّبت بالمهاجرة أرملة المهاجر، لأنها أسلمت وهاجرت بدينها إلى الحبشة مع زوجها السكران بن عمرو بن عبد شمس، وتحملت مشاق الهجرة ومتاعب الغربة، وتوفي زوجها بعد أن عاد معها من الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة، وأمست سودة وحيدة لا عائل لها ولامعين، فأبوها مازال على كفره وضلاله، ولم يزل أخوها عبد اللَّه بن زمعة على دين آبائه، فخشيت أن يفتناها في دينها. فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ما أصاب السيدة سودة وصبرها والتجاءها إلى الله؛ خشي عليها بطش أهلها، وهم أعداء الإسلام والمسلمين، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يرحمها وينجدها من عذابها، ويعينها على حزنها، ويجزيها على إسلامها وإيمانها خيرًا، فأرسل إليها خولة بنت حكيم -رضي اللَّه عنها- تخطبها له، وكانت السيدة خديجة -رضي الله عنها- قد ماتت، وهو بغير زوجة، وكانت سودة قد بلغت من العمر حينئذٍ الخامسة والخمسين، بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره. وحين دخلت خولة عليها قالت: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة ! قالت: سودة: وماذاك؟ فقالت خولة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلنى إليك لأخطبك إليه. قالت: وددت ذلك. فقالت خولة: دخلت على أبيها وكان شيخًا كبيرًا مازال على جاهليته وحيَّيْتُه بتحية أهل الجاهلية، فقلت: أنعِم صباحًا. فقال: من أنت؟ قلت: خولة بنت حكيم. فرحَّب بي، وقال ما شاء الله أن يقول. فقلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر سودة بنة زمعة. فقال: هو كفء كريم، فما تقول صاحبتك؟ قلت: تُحِبُّ ذلك. قال: ادعوها إلي. ولما جاءت قال: أي سودةُ، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أفتحبين أن أزوجكه؟ قالت: نعم. قال: فادعوه لي. فدعته خولة، فجاء فزوَّجه. أحمد (26517 ) وهو حسن وفى رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبها، فقالت: أمري إليك، فقال لها مُري رجلا من قومك يزوجك. فأمرت حاطب بن عمرو (وهو ابن عمها وأول مهاجر إلى الحبشة) فزوجها. الطبقات الكبرى لابن سعد ج 8 / ص 53 ودخلت السيدة سودة بنت زمعة -رضي الله عنها- بيت النبوة، وأصبحت واحدة من أمهات المؤمنين، وكانت الزوجة الثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم :، وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات. وكانت السيدة سودة مثالا نادرًا في التفاني في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم وابنته أم كلثوم وفاطمة، فكانت تقوم على رعايتهما بكل إخلاص ووفاء، ثم هاجرت مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وكانت السيدة سودة ذات فطرة طيبة ومرح، وكانت ممتلئة الجسم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما رآها تمشي ضحك لمشيتها، فكانت تكثر المشي أمامه كي تضحكه، وتُدخل السرور عليه، وكانت تنتقى من الكلمات ما تظن أنه يضحكه. وكانت السيدة سودة -رضي اللَّه عنها- تحبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حبَّا شديدًا، وكانت تسعى إلى مرضاته دائمًا، فلما كبرت في السن، ولم تعد بها إلى الأزواج حاجَةً، وأحست بعجزها عن الوفاء بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم ، أرادت أن تصنع من أجله شيئًا يعجبه ويرضيه ويرفع مكانتها عنده... فاهتدت إلى أن تهب يومها لعائشة؛ لعلمها أنها حبيبة إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لا تشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرج، وبررت له ما أقدمت عليه بقولها: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا بِي حِرْصُ الأَزْوَاجِ، ولَكِنْ أُحِبُّ أَنْ يَبْعَثَنِي اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَوْجًا لَكَ. مصنف عبد الرزاق (10659) وتفرغت للعبادة والصلاة. وعَنْ سَوْدَةَ بنتِ زَمْعَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا مَشَى صَلَّى لَنَا عُثْمَانُ بن مَظْعُونٍ حَتَّى يَأْتِينَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَوْ تَعْلَمِينَ عَلِمَ الْمَوْتِ يَا ابْنَةَ زَمْعَةَ عَلِمْتِ أَنَّهُ أَشَدَّ مِمَّا تُقَدِّرِينَ. المعجم الكبير للطبراني 17 / 282 (19586 ) صحيح وكانت السيدة عائشة - رضى اللَّه عنها - تغبطها على عبادتها وحسن سيرتها، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَكُونَ فِى مِسْلاَخِهَا ( الجلد والمعنى أن أكون أنا هي ) مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مِنِ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ قَالَتْ فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ.فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ.. مسلم (3702 ) ولما خرجت سودة -رضي الله عنها- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع! قال: "هذه الحجة، ثم ظهور الحُصْر" (أي الْزَمْنَ بيوتكنّ ولا تخرجْنَ منها)(صحيح). فكانت - رضي الله عنها - تقول: حججت واعتمرت فأنا َأَقرُّ في بيتي كما أمرني الله عز وجل، ولا تحركنا دابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ابن سعد] 8/208. وكانت السيدة سودة -رضي الله عنها- زاهدة في الدنيا مقبلة على الآخرة. بعث إليها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خلافته ببعض الدراهم، فوزعتها على الفقراء والمساكين. وظلت كذلك حتى توفيت في آخر خلافة عمر فحضر جنازتها، وصلى عليها، ودفنت بالبقيع. وكان للسيدة سودة نصيب من العلم والرواية، فقد روت -رضي الله عنها- أحاديثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ - وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ - فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبي - صلى الله عليه وسلم - احْجُبْ نِسَاءَكَ . فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي عِشَاءً ، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً ، فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلاَ قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ . حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ . البخارى (146) وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلاَنَةُ. يَعْنِى الشَّاةَ فَقَالَ « فَلَوْلاَ أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا ». فَقَالَتْ نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) فَإِنَّكُمْ لاَ تَطْعَمُونَهُ إِنْ تَدْبُغُوهُ فَتَنْتَفِعُوا بِهِ ». فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا(جلدها) فَدَبَغَتْهُ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا. مسند أحمد (3081) صحيح وعَنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ قَالَتْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنَّ أَبِى شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحُجَّ قَالَ « أَرَأَيْتَكَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ قُبِلَ مِنْكَ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ -صلى الله عليه وسلم- « فَاللَّهُ أَرْحَمُ حُجَّ عَنْ أَبِيكَ »مسند أحمد (28179) صحيح.
-
سيدةُ نساءِ قريش ( خديجة بنت خويلد ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج من البيت حتى يذكرها فيحسن الثناء عليها. هي أم المؤمنين، وخير نساء العالمين، السيدة خديجة بنت خويلد -رضي اللَّه عنها- كانت تدعى في الجاهلية: الطاهرة؛ لطهارة سريرتها وسيرتها، وكان أهل مكة يصفونها بسيدة نساء قريش، وكانت ذات شرف ومال وحزم وعقل، وكان لها تجارة، فاختارت النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم بها، وبرَّرت ذلك الاختيار بقولها له: إنه مما دعاني إليك دون أهل مكة ما بلغني من صدق حديثك، وعظيم أمانتك، وكرم أخلاقك. وقد سمعت من غلامها ميسرة -الذي رافق النبي صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الشام -ما أكد لها صدق حدسها ونظرتها في أمانته وصدقه وحسن سيرته في الناس، فقد روى لها ما رآه في طريق الذهاب والعودة عن الغمامة التي كانت تظلل النبي صلى الله عليه وسلم حين يشتد الحر، وعن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكياته في التجارة، وأخبرها بأنه كان لا يعرض شيئًا عُنْوة على أحد، وأنه كان أمينًا في معاملاته، فأحبه تجَّار الشام وفضَّلوه على غيره. كل هذه الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم جعلت السيدة خديجة - رضي اللَّه عنها - ترغب في الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم ، فعرضت نفسها عليه، وبعثت إليه من يخبره برغبتها في الزواج منه، لما رأت فيه من جميل الخصال وسديد الأفعال. وفكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر، فوجد التي تدعوه إلى الزواج امرأة ذات شرف وكفاءة، من أوسط قريش نسبًا، وأطهرهم قلبًا ويدًا، فلم يتردد. وتزوج محمد الأمين ( (وعمره خمسة وعشرون عامًا) خديجة الطاهرة (وعمرها أربعون عامًا)، فولدت له أولاده كلهم - عدا إبراهيم - وهم: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة الزهراء، والقاسم، وعبد الله. وكانت -رضي الله عنها- مثالا للوفاء والطاعة، تسعى إلى مرضاة زوجها، ولما رأت حبه صلى الله عليه وسلم لخادمها زيد بن حارثة وهبته له. وعندما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أول من آمن به. فقد جاءها الرسول صلى الله عليه وسلم يرتجف، ويقص عليها ما رأى في غار حراء، ويقول: "زمِّلوني زمِّلوني" أى غطُّوني. فغطته حتى ذهب عنه ما به من الخوف والفزع، ثم أخبرها - رضي اللَّه عنها - بما رأى في الغار وبما سمع، حتى قال: "لقد خشيتُ على نفسي". فأجابته بلا تردد وطمأنته في حكمة بكلماتها التي نزلت عليه بردًا وسلامًا فأذابت ما به من خوف وهلع، قائلة: "كلا واللَّه، ما يخزيك اللَّه أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتُكْسِبُ المعدوم، وتَقْرِى الضَّيف، وتُعين على نوائب الحق" ثم سارعت إلى التصديق برسالته والدخول معه في الدين الجديد.. فكان قولها الحكيم تثبيتًا لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه. إنها لحكيمة لبيبة عاقلة، علمت بشفافيتها ونور بصيرتها حقيقة الأمر، وأن اللَّه لا يجزي عن الخير إلا الخير، ولا يجزي عن الإحسان إلا الإحسان، وأنه يزيد المهتدين هدي، ويزيد الصادقين صدقًا على صدقهم، فقالت: أبشر يا بن عم واثبت، فوالى نفسي بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم أرادت أن تؤكد لنفسها ولزوجها صِدْقَ ما ذَهَبَا إليه، فتوجهت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي كان يقرأ في التوراة والإنجيل وعنده علم بالكتاب -فقد تنصر في الجاهلية وترك عبادة الأصنام- فقصت عليه الخبر، فقال ورقة: قدوس قدُّوس، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقْتيني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت. فلما سمعت خديجة -رضي اللَّه عنها- ذلك، أسرعت بالرجوع إلى زوجها وقرة عينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبرته بالنبوة والبشرى فهدَّأت من رَوْعِه. وكانت -رضي الله عنها- تهيئ للنبي صلى الله عليه وسلم الزاد والشراب ليقضى شهر رمضان في غار حراء، وكانت تصحبه أو تزوره أحيانًا، وقد تمكث معه أيامًا تؤنس وحشته وترعاه. ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون شِعْبِ أبى طالب، وحاصرهم كفار قريش لأنهم قالوا ربنا الله ، وتركوا عبادة الأصنام ،(سياسة التجويع) دخلت معهم السيدة خديجة -رضي الله عنها-، وذاقت مرارة الجوع والحرمان، وهى صاحبة الثراء والنعيم. فرضي اللَّه عن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، كانت نعم العون لرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم في رحلة الدعوة الشاقة، آمنت به وصدقته، فكان إيمانها أول البشرى بصدق الدعوة وانتصار الدين. وثبتت إلى جواره وواسته بمالها، وحبها، وحكمتها، وكانت حصنًا له ولدعوته ولأصحابه الأولين، بإيمانها العميق، وعقلها الراجح، وحبها الفياض، وجاهها العريض، فوقفت بجانبه حتى اشتد ساعده، وازداد المسلمون، وانطلقت الدعوة إلى ما قدر اللَّه لها من نصر وظهور، وما هيأ لها من ذيوع وانتشار.. فلا عجب إذن إذا ما نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول اللَّه! هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربِّها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب (من لؤلؤ مجوَّف) لا صَخَب فيه ولانَصَب (لا ضجيج فيه ولا تعب). ولا عجب إذا ما تفانى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حبها، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا. قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ فَيَقُولُ « أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ ». قَالَتْ فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا فَقُلْتُ خَدِيجَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا » وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ ، وَمَا رَأَيْتُهَا ، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ ذِكْرَهَا ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِى صَدَائِقِ خَدِيجَةَ ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلاَّ خَدِيجَةُ . فَيَقُولُ إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ .. لقد كانت مثاًلا للزوجة الصالحة، وللأم الحانية، وللمسلمة الصادقة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: « كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ » وتُوفيت -رضي اللَّه عنها- في رمضان قبل الهجرة بأعوام ثلاثة، في نفس العام الذي تُوفِّي فيه أبو طالب: عام الحزن كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث فقد فيه المعين والسند، إلا رب العالمين. ودفنت بالحجون، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها التي دفنت فيها، وكان موتها قبل أن تشرع صلاة الجنائز.
-
الأمُّ العذراءُ ( مريم ) أنزل الله ملائكة يقولون لها: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 42]. ويقول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بنتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بنتُ مُزَاحِمٍ، وَخَدِيجَةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بنتُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ. ". في جو ساد فيه الظلم والاضطراب، كانت الحياة التي يعيشها بنو إسرائيل بائسة، فقد أفسدوا دينهم وحرّفوا عقيدتهم، وأضحى الواحد منهم لا يأمن على نفسه غدر الآخر، وفى خضم هذا الفساد كان يعيش عمران وزوجته ، يعبدان الله وحده ولا يشركان به شيئًا، وكان الزمان يمر بهما دون ولد يؤنسهما. وفى يوم من الأيام جلست زوجته بين ظلال الأشجار، فرأت عصفورة تطعم صغيرها، فتحركت بداخلها غريزة الأمومة، فدعت اللّه أن يرزقها ولدًا حتى تنذره لخدمة بيت المقدس:( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران: 35] . وتقبل الله منها دعاءها، ولكن حكمته اقتضت أن يكون الجنين أنثى، فكانت السيدة مريم(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[آل عمران: 36]. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « كُلُّ بَنِى آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلاَّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا ». لكن القدر كان يخفي لمريم اليتم، فقد توفي أبوها وهي طفلة صغيرة، وأخذتها أمها إلى الهيكل؛ استجابة لنذرها، ودعت الله أن يتقبلها(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا) [آل عمران: 37]. ولما رآها الأحبار قذف الله في قلوبهم حبها، فتنازعوا على من يكفلها. قال نبي الله زكريا -عليه السلام- وكان أكبرهم سنا: أنا آخذها، وأنا أحق بها؛ لأن خالتها زوجتي - يقصد زوجة أم يحيى، لكن الأحبار أَبَوْا ذلك، فقال لهم زكريا: نقترع عليها، بأن نلقي أقلامنا التي نكتب بها التوراة في نهر الأردن، ومن يستقر قلمه؛ يكفلها، ففعلوا، فأخذ النهر أقلامهم، وظهر قلم زكريا فكفلها. قال تعالي:( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون [آل عمران: 44]. (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) [آل عمران: 37]. وكان عُمْرُ مريم حينئذ لا يتجاوز عامًا، فجعل لها زكريا خادمة في محرابها ظلت معها حتى كبرت، وكان لا يدخل عليها حتى يستأذنها ويسلم عليها، وكان يأتي إليها بالطعام والشراب. غير أنه كلما دخل عليها قدمت له طبقًا ممتلئًا بالفاكهة، فيتعجب زكريا من الفاكهة التي يراها، حيث يرى فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيقول لها في دهشة: يا مريم من أين يأتي لك هذا؟ فتقول: رزقني به اللّه. قال تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران: 37]، فلما رأى زكريا ما رأى من قدرة ربه وعظمته، دعا اللّه أن يعطيه ولدًا يساعده ويكفيه مؤنة الحياة (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء.فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 38 -39]. مرت السنون حتى بلغت سن الشباب، فضربت مريم عندئذ على نفسها الحجاب، فكان يأتيها بحاجتها من الطعام والماء من خلف الستار . وبعد ذلك ابتعدت مريم عن الناس، وأصبح لا يراها أحد ولا ترى أحدًا (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) [مريم : 16-17]. وبينما مريم منشغلة في أمر صلاتها وعبادتها، جاءها جبريل بإذن ربها على هيئة رجل ليبشرها بالمسيح ولدًا لها (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) [مريم: 17]، ففزعت منه، وقالت:(إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَى هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) [مريم:18-21]. يقول المفسرون: إنها خرجت وعليها جلبابها، فأخذ جبريل بكمها، ونفخ في جيب درعها، فحملت حتى إذا ظهر حملها، استحيت، وهربت حياءً من قومها نحو المشرق عند وادٍ هجره الرعاة. فخرج قومها وراءها يبحثون عنها، ولا يخبرهم عنها أحد. فلما أتاها المخاض تساندت إلى جذع نخلة تبكي وتقول:(قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) [مريم :23]. حينئذ أراد الله أن يسكّن خوفها فبعث إليها جبريل(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. فَكُلِى وَاشْرَبِي وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 24 -]. فاطمأنت نفس مريم إلى كلام الله لها على لسان جبريل، وانطلقت إلى قومها. (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) [مريم: 27]، أى جئت بشيء منكرٍ وأمرٍ عظيم(يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا)[مريم: 28- 29]، لكن الله لا ينسى عباده المخلصين، فأنطق بقدرته المسيح وهو وليد لم يتعدّ عمره أيامًا معدودة(قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:30-33]. فَعَلَتِ الدهشةُ وجوهَ القوم، وظهرت علامات براءة مريم، فانشرح صدرها، وحمدت الله على نعمته. لكن أعداء الله - اليهود - خافوا على عرشهم وثرواتهم، فبعث ملكهم جنوده ليقتلوا هذا الوليد المبارك، فهاجرت به مريم إلى مصر، حيث مكثوا بها اثنتي عشرة سنة، تَرَّبى فيها المسيح، ثم عادت إلى فلسطين بعد موت هذا الملك الطاغية، واستقرت ببلدة الناصرة، وظلت فيها حتى بلغ المسيح ثلاثين عامًا فبعثه اللّه برسالته، فشاركته أمه أعباءها، وأعباء اضطهاد اليهود له وكيدهم به، حتى إذا أرادوا قتله، أنقذه الله من بين أيديهم، وألقى شَبَهَهُ على أحد تلاميذه الخائنين وهو يهوذا، فأخذه اليهود فصلبوه حيا. بينما رفع اللَّه عيسى إليه مصداقًا لقوله تعالى:( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم)[النساء: 157]، وقوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[ النساء: 158] . وتوفيت مريم بعد رفع عيسى -عليه السلام- ببضع سنوات، هذه هي قصة السيدة المؤمنة مريم كما حكاها لنا القرآن الكريم، وهو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... وقد بين لنا القرآن الكريم كفرَ اليهود وإلحادهم وإشراك النصارى وادّعاءاتهم. حيث يقول الله تعالى: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) [النساء: 65_] . وقولهم: المسيح هو ابن الله، وعبادتهم له ولأمه مريم ولروح القدس (جبريل) إنما هو قول باطل، يخرج صاحبه من نور التوحيد إلى ظلام الكفر والشرك. ولقد نعى الله عليهم ما هم فيه من الشرك والضلال والكفر، وأوْضَحَ لهم فساد عقيدتهم؛ حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، عسى أن يتوبوا إليه؛ فقال تعالي:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَات وَمَا فِى الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) [النساء:117]. ويوضح الله كُفر مَنْ يزعم أن المسيح ابن الله؛ فالمسيح -عليه السلام- لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرّا. يقول تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (17) سورة المائدة. ويقول تعالى:( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة: 75]. ويبين الله -تعالى- براءة المسيح مما ادعوه عليه من الألوهية والعبادة. يقول سبحانه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) [المائدة/116-120] واذكر إذ قال الله تعالى يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اجعلوني وأمي معبودين من دون الله؟ فأجاب عيسى -منزِّهًا الله تعالى-: ما ينبغي لي أن أقول للناس غير الحق. إن كنتُ قلتُ هذا فقد علمتَه; لأنه لا يخفى عليك شيء، تعلم ما تضمره نفسي، ولا أعلم أنا ما في نفسك. إنك أنت عالمٌ بكل شيء مما ظهر أو خفي. قال عيسى عليه السلام: يا ربِّ ما قلتُ لهم إلا ما أوحيته إليَّ، وأمرتني بتبليغه من إفرادك بالتوحيد والعبادة، وكنتُ على ما يفعلونه -وأنا بين أظهرهم- شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم، فلما وفيتني أجلي على الأرض، ورفعتني إلى السماء حيًّا، كنت أنت المطَّلِع على سرائرهم، وأنت على كل شيء شهيد، لا تخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء. إنك يا ألله إن تعذبهم فإنهم عبادك -وأنت أعلم بأحوالهم-، تفعل بهم ما تشاء بعدلك، وإن تغفر برحمتك لمن أتى منهم بأسباب المغفرة، فإنك أنت العزيز الذي لا يغالَبُ، الحكيم في تدبيره وأمره. وهذه الآية ثناء على الله -تعالى- بحكمته وعدله، وكمال علمه.
-
الملكةُ ( بلقيس ) استيقظتْ من نومها والظلام يحيط بكل شيء؛ لتستعدَّ للذهاب مع حاشيتها إلى معبد الشمس الكبير بأرض مأرب على بُعْدِ ثلاثة أميال من صنعاء؛ حيث يستقبل شعب سبأ يومًا من الأيام المقدسة التي تشهد نشاطًا كبيرًًا فيقدمون قرابينهم للشمس التي يعبدونها من دون اللَّه. وما إن أشرقت الشمس حتى اخترق نداء الكاهن آذان أهل سبأ يأمرهم بالسجود لها 000 وفى الوقت الذي كان يسجد فيه أهل سبأ للشمس، كان نبي اللَّه سليمان - عليه السلام - وجنوده يسجدون للَّه رب العالمين؛ اعترافًا بحقه -عز وجل- . وقد وهب اللَّه لسليمان ملكًا عظيمًا، وكوَّن سليمان جيشًا عظيمًا، من الإنس والجن والطير، وجعل لكل واحد فى الجيش مكانًا ومهمةً عليه أن ينفذها. واعتاد "سليمان" - عليه السلام - أن يتفقد جنوده حينًا بعد آخر، وذات مرة لم يجد الهدهد، فقال: { فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (20) سورة النمل. فجاء الهدهد بعد أن مكث فترة من الزمن، فقال لسليمان -عليه السلام- : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)[النمل: 22-24]. ثم أخذ الهدهد يصف ما رأى وما سمع وكيف يعبدون الشمس من دون اللَّه . ففكر نبي اللَّه ثم { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (27) سورة النمل. عرف الهدهد بفطرته السليمة أن السجود لا يكون إلا للَّه سبحانه وتعالى، كما عرف أهمية الدعوة إلى اللَّه تعالى، وكيف يتحرك لها حتى وإن لم يكلفه أحد بهذا العمل، وهكذا يكون الداعية دائمًا في كل مكان وزمان. وبعد ذلك كتب نبي اللَّه عليه السلام رسالة، وأمر الهدهد بالذهاب إلى ملكة سبأ وأن يعطيها الرسالة، فقال له: (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُون) [النمل:28] وبينما كانت بلقيس تستريح من عناء يوم طويل في فراشها، دخل عليها الهدهد من النافذة، وألقى عليها الكتاب، فقرأته وعلمت ما فيه، وأنه من نبي اللَّه سليمان - عليه الصلاة والسلام -، فجمعت وزراءها وأعيان قومها وقرأت عليهم خطاب سليمان، وقالت:( قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِي إِلَى كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَى وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 29- 31]، ثم طلبت منهم الرأي والمشورة (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِى أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) [النمل: 32]. وهي في ذلك تعطي صورة طيبة للشورى عند الحاكم. فأجابها القوم (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ)[النمل:33] لكن بلقيس كانت تعلم قوة سليمان، فأرادت أن تصرف قومها عن الحرب، وأن تردهم إلى الرشاد، (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34]. كان يدور في ذهن بلقيس أمر سليمان، ولم تكن تعلم أن الله سخَّر له الريح تجرى بأمره، فقالت بحكمة بالغة وحسن تدبير: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ )[النمل:35] وأخبرتهم أنه إن كان ملكًا قبل الهدية وانصرف، وإن كان نبيا فلن يقبل الهدية، ولن يرضى منا إلا أن نتبعه على دينه. ووافق القوم على ذلك، وانصرفوا. فلما جاءت رُسل بلقيس بالهدية إلى سليمان، قال لهم : ( أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُون) [النمل: 36] وكيف يقبل الهدية وقد أكرمه الله بالنبوة والحكمة، وأعطاه الله ما لم يعط أحداً من العالمين؟! فقال لرئيس الوفد: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُون) [النمل: 37] وأدرك سليمان بحكمته أن إنذاره هذا سينهي الأمر، وستُقبل عليه الملكة مستسلمة طائعة؛ لأنه ظهر من تصرفاتها أنها لا تريد الحرب، وعندما عادوا إليها أخبروها بما حدث، فأرسلت إلى سليمان تخبره أنها سوف تأتي إليه ومعها كبار قومها، وأمرت بلقيس جنودها بحراسة عرشها والحفاظ عليه وإغلاق الأبواب دونه، وخرجت من مُلْكها متجهة ناحية الشمال، وقبيل حضورها، أراد سليمان أن يبين لها قدرة اللَّه وعظمته، وكيف أعطاه ما لم يعط أحدًا من العالمين فأقبل على جنوده قائلا:( قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِى أَمِينٌ )[النمل: 38-39] لكن سليمان استبطأه، فقام رجل مؤمن من بني إسرائيل، وكان صدِّيقًا يعلم اسم الله الأعظم، فقال لسليمان:( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)[النمل: 40] وبالفعل كان عرش بلقيس أمام نبي اللَّه سليمان فخر ساجدًا لعظمة اللَّه، واعترافًا بنعمته، وقال: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِى كَرِيمٌ)[النمل: 40]. ورأت بلقيس مُلكَ سليمان، وبينما قومها يتهامسون فيما بينهم على ما يروَنه، رأت عرشها بعد أن أمر سليمان جنوده أن يغيروا معالمه، وأن يبدلوا أوضاعه بحيث تختلف فيه الرؤية؛ ليعرف مدى ذكائها (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ. فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ )[النمل: 41-42]. فلما دخلت بلقيس الصرح الذي أمر نبي اللَّه سليمان جنوده ببنائه من الزجاج بحيث يجري من تحته جدول صغير من الماء حسبته لجة (أي ماء) فكشفت عن ساقيها بحركة لاشعورية منها:( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِير)[النمل:44]. فلما رأت بلقيس ما وهبه اللَّه لنبيه سليمان قالت:( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) [النمل: 44]. وهكذا كانت بلقيس ملكة سبأ امرأة ذات فراسة وحكمة وذكاء؛ فلم تستبد برأيها في الأمور العظيمة والخطوب الجليلة، بل استشارت قومها، وهذا يدل على فطنتها فلما عرفت الحق آمنت به وأسلمت للَّه طوعًا مع سليمان عليه السلام. تلك هي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، ملكة سبأ، تمكنت من الملك بعد مقتل عمرو ذي الأذعار، فبايعها قومها وولوها الحكم، فأدارت شئون البلاد بشجاعة وحكمة، ورممت سد مأرب الشهير، وشيدت قصرها في مدينة مأرب، وازدهرت على يديها التجارة والزراعة، وزادت ثروات البلاد واستقرت أحوال الناس. كانت تعبد الشمس هي وقومها، ثم أكرمها الله تعالى بالإيمان، فآمن قومها برسالة نبي الله سليمان - عليه السلام- فتزوجها سليمان - عليه السلام- وتوفيت بلقيس في أنطاكية -رضي الله عنها.
-
زوجة أيوب عليه السلام الزوجة الوفية زوجة صابرة أخلصت لزوجها، ووقفت إلى جواره في محنته حين نزل به البلاء، واشتد به المرض الذي طال سنين عديدة، ولم تُظْهِر تأفُّفًا أو ضجرًا، بل كانت متماسكة طائعة. إنها زوجة نبي اللَّه أيوب - عليه السلام - الذي ضُرب به المثل في الصبر الجميل، وقُوَّة الإرادة، واللجوء إلى اللَّه، والارتكان إلى جنابه. وكان أيوب - عليه السلام - مؤمنًا قانتًا ساجدًا عابدًا لله، بسط اللَّه له في رزقه، ومدّ له في ماله، فكانت له ألوف من الغنم والإبل، ومئات من البقر والحمير، وعدد كبير من الثيران، وأرض عريضة، وحقول خصيبة ،وكان له عدد كبير من العبيد يقومون على خدمته، ورعاية أملاكه، ولم يبخل أيوب -عليه السلام- بماله، بل كان ينفقه، ويجود به على الفقراء والمساكين . وأراد اللَّه أن يختبر أيوب في إيمانه، فأنزل به البلاء، فكان أول ما نزل عليه ضياع ماله وجفاف أرضه ؛ حيث احترق الزرع وماتت الأنعام، ولم يبق لأيوب شيء يلوذ به ويحتمي فيه غير إعانة الله له، فصبر واحتسب، ولسان حاله يقول في إيمان ويقين : عارية اللَّه قد استردها، ووديعة كانت عندنا فأخذها، نَعِمْنَا بها دهرًا، فالحمد لله على ما أنعم، وَسَلَبنا إياها اليوم، فله الحمد معطيا وسالبًا، راضيا وساخطًا، نافعًا وضارا، هو مالك الملك يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء . ثم يخرُّ أيوب ساجدًا لله رب العالمين . ونزل الابتلاء الثاني، فمات أولاده، فحمد اللَّه -أيضًا- وخَرّ ساجدًا لله، ثم نزل الابتلاء الثالث بأيوب -فاعتلت صحته، وذهبت عافيته، وأنهكه المرض، لكنه على الرغم من ذلك ما ازداد إلا إيمانًا، وكلما ازداد عليه المرض؛ ازداد شكره لله. وتمر الأعوام على أيوب - عليه السلام - وهو لا يزال مريضًا، فقد هزل جسمه، ووهن عظمه، وأصبح ضامر الجسم، شاحب اللون، لا يقِرُّ على فراشه من الألم. وازداد ألمه حينما بَعُدَ عنه الصديق، وفَرَّ منه الحبيب، ولم يقف بجواره إلا زوجته العطوف تلك المرأة الرحيمة الصالحة التي لم تفارق زوجها، أو تطلب طلاقها، بل كانت نعم الزوجة الصابرة المعينة لزوجها، فأظهرت له من الحنان ما وسع قلبها، واعتنت به ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. لم تشتكِ من هموم آلامه، ولا من مخاوف فراقه وموته. وظلت راضية حامدة صابرةً مؤمنة،ً تعمل بعزم وقوة؛ لتطعمه وتقوم على أمره، وقاست من إيذاء الناس ما قاست . ومع أن الشيطان كان يوسوس لها دائمًا بقوله : لماذا يفعل اللَّه هذا بأيوب، ولم يرتكب ذنبًا أو خطيئة؟ فكانت تدفع عنها وساوس الشيطان وتطلب من الله أن يعينها، وظلت في خدمة زوجها أيام المرض بضع سنين، حتى طلبت منه أن يدعو اللَّه بالشفاء، فقال لها: كم مكثت في الرخاء؟ فقالت: ثمانين . فسألها: كم لبثتُ في البلاء؟ فأجابت: بضع سنين . قال: أستحي أن أطلب من اللَّه رفع بلائي، وما قضيتُ منِه مدة رخائي. ثم أقسم أيوب - حينما شعر بوسوسة الشيطان لها - أن يضربها مائة سوط، إذا شفاه اللَّه، ثم دعا أيوب ربه أن يكفيه بأس الشيطان، ويرفع ما فيه من نصب وعذاب، قال تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}. فلما رأى اللَّه صبره البالغ، رد عليه عافيته، حيث أمره أن يضرب برجله، فتفجر له نبع ماء، فشرب منه واغتسل، فصح جسمه وصلح بدنه، وذهب عنه المرض، قال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِى الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِى الأَلْبَاب). ومن رحمة اللَّه بهذه الزوجة الصابرة الرحيمة أَن أَمَرَ اللَّهُ أيوبَ أن يأخذ حزمة بها مائة عود من القش، ويضربها بها ضربةً خفيفةً رقيقةً مرة واحدة، ليبرّ قسمه، جزاء له ولزوجه على صبرهما على ابتلاء الله صلى الله عليه وسلم ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
-
الماشطةُ عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ وَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً فَقَالَ « يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ قَالَ هَذِهِ رِيحُ قَبْرِ الْمَاشِطَةِ وَابْنَيْهَا وَزَوْجِهَا. ». انتشر أمر موسى- عليه السلام - وكثر أتباعه، وأصبح المؤمنون برسالته خطرًا مستمرّا، يهدد فرعون ومُلكه، وظل فرعون في قصره في حالة غليان مستمر يمشى ذهابًا وإيابًا، يفكر في أمر موسى، وماذا يفعل بشأنه وشأن أتباعه، فأرسل في طلب رئيس وزرائه هامان ؛ ليبحثا معًا ذلك الأمر، وقررا أن يقبض على كل من يؤمن بدعوة موسى، وأن يعذب حتى يرجع عن دينه، فسخَّر فرعون جنوده في البحث عن المؤمنين بدعوة موسى، وأصبح قصر فرعون مقبرة للأحياء من المؤمنين باللَّه الموحدين له، وكانت صيحات المؤمنين وصرخاتهم ترتفع من شدة الألم، ووطأة التعذيب تلعن الظالمين وتشكو إلى ربها صنيعهم. وشمل التعذيب جميع المؤمنين، حتى الطفل الرضيع لم ترحمه يد التعذيب، فزاد البلاء، واشتد الكرب على المؤمنين، فاضطر كثير منهم إلى كتمان إيمانه؛ خوفًا من فرعون وجبروته واستعلائه في الأرض، ولجأ الآخرون إلى الفرار بدينهم بعيدًا عن أعين فرعون . وكان في قصر فرعون امرأة تقوم بتمشيط شعر ابنته وتجميلها، وكانت من الذين آمنوا، وكتموا الإيمان في قلوبهم، وذات مرة كانت المرأة تمشط ابنة فرعون كعادتها كل يوم، فسقط المشط من يدها على الأرض، ولما همَّت بأخذه من الأرض، قالت: بسم اللَّه. فقالت لها ابنة فرعون: أتقصدين أبي؟ قالت:لا. ولكن ربى ورب أبيك اللَّه، فغضبَتْ ابنة فرعون من الماشطة وهددتها بإخبار أبيها بذلك، ولكن الماشطة لم تخف، فأسرعت البنت لتخبر أباها بأن هناك في القصر من يكْفُر به، فلما سمع فرعون ذلك؛ اشتعل غضبه، وأعلن أنه سينتقم منها ومن أولادها، فدعاها، وقال لها : أَوَ لكِ ربٌّ غيري؟! قالت: نعم، ربى وربك اللَّه . وهنا جُنَّ جنونه، فأمر بإحضار وعاء ضخم من نحاس وإيقاد النار فيه، وإلقائها هي وأولادها فيه، فما كان من المرأة إلاَّ أن قالت لفرعون : إن لي إليك حاجة، فقال لها: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدى في ثوب واحد وتدفننا، فقال: ذلك علينا. ثم أمر بإلقاء أولادها واحدًا تِلْوَ الآخر، والأم ترى ما يحدث لفلذات كبدها، وهى صابرة محتسبة، فالأولاد يصرخون أمامها، ثم يموتون حرقًا، وهى لا تستطيع أن تفعل لهم شيئًا، وأوشك الوهن أن يدب في قلبها لما تراه وتسمعه، حتى أنطق اللَّه -عز وجل- آخر أولادها -وهو طفل رضيع- حيث قال لها: يا أماه، اصبري، إنك على الحق. فاقتحمتْ المرأة مع أولادها النار، وهى تدعو اللَّه أن يتقبل منها إسلامها، فضَربتْ بذلك مثالاً طيبًا للمرأة المسلمة التي تعرف اللَّه حق معرفته، وتتمسك بدينها، وتصبر في سبيله، وتمُتَحن بالإرهاب، فلا تخاف، وتبتلى بالعذاب فلا تهن أو تلين، وماتت ماشطة ابنة فرعون وأبناؤها شهداء في سبيل الله، بعدما ضربوا أروع مثال في التضحية والصبر والفداء.
-
آسيا بنت مزاحم نشأتْ ملكة في القصور، واعتادتْ حياة الملوك، ورأَتْ بطش القوة، وجبروت السلطان، وطاعة الأتباع والرعية، غير أن الإيمان أضاء فؤادها، ونوَّر بصيرتها، فسئمتْ حياة الضلال، واستظلتْ بظلال الإيمان، ودعتْ ربها أن ينقذها من هذه الحياة، فاستجاب ربها دعاءها، وجعلها مثلا للذين آمنوا، فقال : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11]. وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : « أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ». إنها آسية بنت مزاحم -امرأة فرعون- التي كانت نموذجًا خلّده القرآن للمؤمنة الصادقة مع ربها، فهي عندما عرفت طريق الحق اتبعتْه دون خوف من الباطل، وظلم أهله، فلقد آمنت باللَّه إيمانًا لا يتزعزع ولا يلين، ولم تفلح تهديدات فرعون ولا وعيده في ثنيها عن إيمانها، أو إبعادها عن طريق الحق والهدى. لقد تاجرتْ مع اللَّه، فربحَتْ تجارتها، باعتْ الجاه والقصور والخدم، بثمن غال، ببيتٍ في الجنة . وقد جاء ذكر السيدة آسية - رضي اللَّه عنها - في قصة موسى - عليه السلام - حينما أوحى اللَّه إلى أُمِّه أن تُلْقيه في صندوق، ثم تلقى بهذا الصندوق في البحر، وفيه موسى، ويلْقِى به الموج نحو الشاطئ الذي يطلّ عليه قصر فرعون ؛ فأخذته الجواري، ودخلن به القصر، فلما رأت امرأة فرعون ذلك الطفل في الصندوق؛ ألقى الله في قلبها حبه، فأحبته حبَّا شديدًا. وجاء فرعون ليقتله - كما كان يفعل مع سائر الأطفال الذين كانوا يولدون من بني إسرائيل - فإذا بها تطلب منها أن يبقيه حيا؛ ليكون فيه العوض عن حرمانها من الولد. وهكذا مكن اللَّه لموسى أن يعيش في بيت فرعون، قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِ ولا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ. وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُون) [القصص 7-9] . وكانت السيدة آسية ذات فطرة سليمة، وعقل واعٍ، وقلب رحيم، فاستنكرت الجنون الذي يسيطر على عقل زوجها، ولم تصدق ما يدعيه من أنه إله وابن آلهة. وحينما شَبَّ موسى وكبر، ورحل إلى "مدين"، فرارًا من بطش فرعون وجنوده ثم عاد إلى مصر مرة أخرى - بعد أن أرسله اللَّه - كانت امرأة فرعون من أول المؤمنين بدعوته . ولم يخْفَ على فرعون إيمان زوجته باللَّه، فجن جنونه، فكيف تؤمن زوجته التي تشاركه حياته، وتكفر به، فقام بتعذيبها حيث عَزَّ عليه أن تخرج زوجته على عقيدته، وتتبع عدوه، فأمر بإنزال أشد أنواع العذاب عليها؛ حتى تعود إلى ما كانت عليه، لكنها بقيت مؤمنة بالله، واستعذبت الآلام في سبيل اللَّه . وقد أمر فرعون جنوده أن يطرحوها على الأرض، ويربطوها بين أربعة أوتاد، وأخذت السياط تنهال على جسدها، وهى صابرة محتسبة على ما تجد من أليم العذاب، ثم أمر بوضع رحًى على صدرها، وأن تُلقى عليها صخرة عظيمة، لكنها دعتْ ربها أن ينجيها من فرعون وعمله . فاستجاب اللَّه دعاءها، وارتفعت روحها إلى بارئها، تظلِّلُها الملائكة بأجنحتها؛ لتسكن في الجنة، فقد آمنت بربها، وتحملت من أجل إيمانها كل أنواع العذاب، فاستحقت أن تكون من نساء الجنة الخالدات. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: « كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ »
-
زوجة موسى عليه السلام زوجةُ الفراسة والحياء. يقول ابن مسعود: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلاَثَةٌ : أَبُو بَكْرٍ حِين تَفَرَّسَ فِي عُمَرَ فَاسْتَخْلَفَهُ , وَاَلَّتِي ، قَالَتْ : اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الأَمِينُ وَالْعَزِيزُ حِينَ ، قَالَ لاِمْرَأَتِهِ : أَكْرِمِي مَثْوَاهُ. ولكن ما الذي أخرج موسى من مصر إلى أرض مدين في جنوب فلسطين، ليتزوج من ابنة الرجل الصالح، ويرعى له الغنم عشر سنين ؟! كان موسى يعيش في مصر، وبينما هو يسير في طريقه رأى رجلين يقتتلان، أحدهما من قومه "بني إسرائيل"، والآخر من آل فرعون. وكان المصري يريد أن يسخِّر الإسرائيلي في أداء بعض الأعمال، واستغاث الإسرائيلي بموسى، فما كان منه إلا أن دفع المصري بيده فمات على الفور، قال تعالى: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِين)[القصص: 15]. وفى اليوم التالي تشاجر الإسرائيلي مع رجل آخر فاستغاث بموسى -عليه السلام- مرة ثانية فقال له موسى: إنك لَغَوِى مُبين، فخاف الرجل وباح بالسِّرِّ عندما قال: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس، فعلم فرعون وجنوده بخبر قتل موسى للرجل، فجاء رجل من أقصى المدينة يحذر موسى، فأسرع بالخروج من مصر، وهو يستغفر ربه قائلاً: (رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص :16]. وخرج موسى من مصر، وظل ينتقل حتى وصل إلى أرض مَدْين في جنوب فلسطين، وجلس موسى -عليه السلام- بالقرب من بئر، ولكنه رأى منظرًا لم يعجبه، حيث وجد الرعاة يسقون ماشيتهم من تلك البئر، وعلى مقربة منهم تقف امرأتان تمنعان غنمهما عن ورود الماء استحياءً من مزاحمة الرجال، فأثر هذا المنظر في نفس موسى، إذ كان الأولى أن تسقى المرأتان أغنامهما أولاً، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما، فذهب موسى إليهما وسألهما عن أمرهما، فأخبرتاه بأنهما لا تستطيعان السقي إلا بعد أن ينتهي الرجال من سقي ماشيتهم، وأبوهما شيخ كبير لا يستطيع القيام بهذا الأمر، فتقدم ليسقى لهما كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة، فزاحم الرجال وسقى لهما، ثم اتجه نحو شجرة فاستظل بظلها، وأخذ يناجى ربه: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (24) سورة القصص. وعادت الفتاتان إلى أبيهما، فتعجب من عودتهما سريعًا. وكان من عادتهما أن تمكثا وقتًا طويلا حتى تسقيا الأغنام، فسألهما عن السبب في ذلك، فأخبرتاه بقصة الرجل القوى الذي سقى لهما، وأدى لهما معروفًا دون أن يعرفهما، أو يطلب أجرًا مقابل خدمته، وإنما فعل ذلك مروءة منه وفضلا. وهنا يطلب الأب من إحدى ابنتيه أن تذهب لتدعوه، فجاءت إليه إحدى الفتاتين تمشي على استحياء، لتبلغه دعوة أبيها: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (25) سورة القصص. وعندئذ سارعت إحدى الفتاتين -بما لها من فراسة وفطرة سليمة، فأشارت على أبيها بما تراه صالحًا لهم ولموسى -عليه السلام-: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِى الأَمِين)[القصص: 26]. فهي وأختها تعانيان من رعى الغنم، وتريد أن تكون امرأة مستورة، لا تحتكّ بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى، فالمرأة العفيفة الروح لا تستريح لمزاحمة الرجال. وموسى فتى لديه من القوة والأمانة ما يؤهله للقيام بهذه المهمة، والفتاة تعرض رأيها بكل وضوح، ولا تخشى شيئًا، فهي بريئة النفس، لطيفة الحسّ. ويقتنع الشيخ الكبير لما ساقته ابنته من مبررات بأن موسى جدير بالعمل عنده ومصاهرته، فقال له: (إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَى وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)[القصص :27-28]. ولمَّا وَفَّى موسى الأجل وعمل في خدمة صِهْرِه عشر سنين، أراد أن يرحل إلى مصر، فوافق الشيخ ودعا له بالخير، فخرج ومعه امرأته وما أعطاه الشيخ من الأغنام، فسار موسى من مدين إلى مصر. وهكذا كانت زوجة موسى - رضي اللَّه عنها - نموذجًا للمؤمنة، ذات الفراسة والحياء، وكانت قدوة في الاهتمام باختيار الزوج الأمين العفيف.
-
المتوكلةُ (أم موسى) تحت صرخات امرأة ذُبح ابنها، فتحت زوجة عمران الباب، بعد أن ابتعدت أقدام جنود فرعون، واختفت ضحكاتهم الوحشية، ومضت إلى جارتها، التي كانت أقرب إلى الموت منها إلى الحياة، تخفف عنها آلامها، وتواسيها في أحزانها. كان بنو إسرائيل في مصر يمرون بأهوال كثيرة، فقد ضاق بهم "فرعون"، وراح يستعبدهم ويسومهم سوء العذاب؛ نتيجة ما رأى في منامه من رؤيا أفزعته، فدعا المنجِّمين لتأويل رؤياه، فقالوا: سوف يولد في بني إسرائيل غلام يسلبك المُلك، ويغلبك على سلطانك، ويبدل دينك. ولقد أطلَّ زمانه الذي يولد فيه حينئذٍ. ولم يبالِ فرعون بأي شيء سوى ما يتعلق بملكه والحفاظ عليه، فقتل الأطفال دون رحمة أو شفقة، وأرسل جنوده في كل مكان لقتل كل غلام يولد لبني إسرائيل . وتحت غيوم البطش السوداء، ورياح الفزع العاتية، وصرخات الأمهات وهن يندبن أطفالهن الذين قُتِلوا ظلمًا، كان الرعب يسيطر على كيان زوجة عمران، ويستولى الخوف على قلبها، فقد آن وضع جنينها وحان وقته، وسيكون مولده في العام الذي يقتل فرعون فيه الأطفال. واستغرقت في تفكير عميق، يتنازع أطرافه يقين الإيمان ولهفة الأم على وليدها، ووسوسة الشيطان الذي يريد أن يزلزل فيها ثبات الإيمان، لذلك كانت تستعين دائمًا باللَّه، وتستعيذ به من تلك الوساوس الشريرة . ولما أكثر جنود فرعون من قتل ذكور بني إسرائيل قيل لفرعون: إنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم وغلمانهم، ولا يمكن لنسائهم أن يقمن بما يقوم به الرجال من الأعمال الشاقة فتنتهي إلينا، حيث كان بنو إسرائيل يعملون في خدمة المصريين فأمر فرعون بترك الولدان عامًا وقتلهم عامًا، وكان رجال فرعون يدورون على النساء فمن رأوها قد حملت، كتبوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها لا يولِّدها إلا نساء تابعات لفرعون . فإن ولدت جارية تركنها، وإن ولدت غلامًا؛ دخل أولئك الذباحون فقتلوه ومضوا. ولحكمة اللَّه -تعالى وعظمته- لم تظهر على زوجة عمران علامات الحمل كغيرها ولم تفطن لها القابلات ، وما إن وضعت موسى - عليه السلام- حتى تملكها الخوف الشديد من بطش فرعون وجنوده، واستبد بها القلق على ابنها موسى، وراحت تبكي حتى جاءها وحى اللَّه عز وجل آمرًا أن تضعه داخل صندوق وتلقيه في النيل. قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص :7]. وكانت دار أم موسى على شاطئ النيل، فصنعت لوليدها تابوتًا وأخذت ترضعه، فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه، ذهبت فوضعته في التابوت، وسَيرَتْهُ في البحر، وربطته بحبل عندها. وذات يوم، اقترب جنود فرعون، وخافت أم موسى عليه، فأسرعت ووضعته في التابوت، وأرسلته في البحر، لكنها نسيت في هذه المرة أن تربط التابوت، فذهب مع الماء الذي احتمله حتى مرَّ به على قصر فرعون. وأمام القصر توقف التابوت، فأسرعت الجواري وأحضرنه، وذهبن به إلى امرأة فرعون، فلما كشفت عن وجهه أوقع اللَّه محبته في قلبها، فقد كانت عاقرًا لا تلد. وذاع الخبر في القصر، وانتشر نبأ الرضيع حتى وصل إلى فرعون، فأسرع فرعون نحوه هو وجنوده وهمّ أن يقتله، فناشدته امرأته أن يتركه، وقالت له: ( قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [القصص: 9]. كاد قلب أم موسى أن يتوقف، فهي ترى ابنها عائمًا في صندوق وسط النهر، ولكنَّ الله صبرها، وثبتها، وقالت لابنتها: اتبعيه، وانظري أمره، ولا تجعلي أحدًا يشعر بك. وكان قلبها ينفطر حزنًا على مصير وليدها الرضيع الذي جرفه النهر بعيدًا عنها (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُون) [القصص: 10-11]. فرحت امرأة فرعون بموسى فرحًا شديدًا، ولكنه كان دائم البكاء، فهو جائع، ولكنه لا يريد أن يرضع من أية مرضعة، فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته أخته بأيديهم عرفته، ولم تُُظِْْهِْر ذلك، ولم يشعروا بها، فقالت لهم: أعرف من يرضعه. وأخذته إلى أمه.( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[القصص: 12-13]. هذا هو القدر الإلهي يظهر منه ومضات ليتيقن الناس أن خالق السَّماوات والأرض قادر على كل شيء: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21]. وما إن وصل موسى -عليه السلام- إلى أمه حتى أقبل على ثديها، ففرحت الجواري بذلك فرحًا شديدًا، وذهب البشير إلى امرأة فرعون، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها مالا كثيرًا - وهى لا تعرف أنها أمه-، ثم طلبتْ منها أن تُقيم عندها لترضعه فرفضتْ، وقالت : إن لي بعلا وأولادًا، ولا أقدر على المقام عندك، فأخذته أم موسى إلى بيتها، وتكفلت امرأة فرعون بنفقات موسى. وبذلك رجعت أم موسى بابنها راضية مطمئنة، وعاش موسى وأمه في حماية فرعون وجنوده، وتبدل حالهما بفضل صبر أم موسى وإيمانها. ولم يكن بين الشدة والفرج إلا يوم وليلة، فسبحان من بيده الأمر، يجعل لمن اتقاه من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.
-
المهاجرةُ (سارة) خرجتْ مهاجرة في سبيل الله مع زوجها وابن أخيه لوط -عليهما السلام- إلى فلسطين. ولما اشتد الجفاف في فلسطين هاجرت مع زوجها مرة أخرى إلى مصر. وسرعان ما انتشر خبرهما عند فرعون مصر الذي كان يأمر حراسه بأن يخبروه بأي امرأة جميلة تدخل مصر. وذات يوم، أخبره الجنود أن امرأة جميلة حضرتْ إلى مصر، فلما علم إبراهيم بالأمر قال لها: "إنه لو علم أنك زوجتي يغلبني عليكِ، فإن سألك فأخبريه بأنك أختي، وأنت أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في هذه الأرض مسلمًا غيرك وغيري". وطلب فرعون من جنوده أن يحضروا هذه المرأة، ولما وصلت إلى قصر فرعون دعت اللَّه ألا يخذلها، وأن يحيطها بعنايته، وأن يحفظها من شره، وأقبلت تتوضأ وتصلي وتقول: "اللهم إن كنتَ تعلم أنى آمنتُ بك وبرسولك، وأحصنتُ فرجى إلا على زوجي، فلا تسلط عليَّ هذا الكافر".فاستجاب اللَّه دعاء عابدته المؤمنة فشَلّ يده عنها -حين أراد أن يمدها إليها بسوء- فقال لها : ادعى ربك أن يطلق يدي ولا أضرك. فدعت سارة ربها؛ فاستجاب الله دعاءها، فعادت يده كما كانت، ولكنه بعد أن أطلق اللَّه يده أراد أن يمدها إليها مرة ثانية؛ فَشُلّت، فطلب منها أن تدعو له حتى تُطْلق يده ولا يمسها بسوء، ففعلت، فاستجاب الله دعاءها، لكنه نكث بالعهد فشُلّت مرة ثالثة. فقال لها : ادعى ربك أن يطلق يدي، وعهدٌ لا نكث فيه ألا أمسّك بسوء، فدعت اللَّه فعادت سليمة، فقال لمن أتى بها: اذهب بها فإنك لم تأتِ بإنسان، وأمر لها بجارية، وهى "هاجر" -رضي الله عنها- وتركها تهاجر من أرضه بسلام.( البخاري برقم(2217 ) بنحوه ) ورجع إبراهيم وزوجه إلى فلسطين مرة أخرى، ومضى "لوط" -عليه السلام- فى طريقه إلى قوم سدوم وعمورة (الأردن الحالية) يدعوهم إلى عبادة اللَّه، ويحذرهم من الفسوق والعصيان. ومرت الأيام والسنون ولم تنجب سارة بعد ابنًا لإبراهيم، يكون لهما فرحة وسندًا، فكان يؤرقها أنها عاقر لا تلد، فجاءتها جاريتها هاجر ذات مرة؛ لتقدم الماء لها، فأدامت النظر إليها، فوجدتها صالحة لأن تهبها إبراهيم، لكن التردد كان ينازعها؛ خوفًا من أن يبتعد عنها ويقبل على زوجته الجديدة، لكن بمرور الأيام تراجعت عنها تلك الوساوس، وخفَّت؛ لأنها تدرك أنّ إبراهيم - عليه السلام - رجل مؤمن، طيب الصحبة والعشرة، ولن يغير ذلك من أمره شيئًا. وتزوَّج إبراهيم -عليه السلام- "هاجر"، وبدأ شيء من الغيرة يتحرك في نفس سارة، بعد أن ظهرت علامات الحمل على هاجر، فلمّا وضعت هاجر طفلها إسماعيل - عليه السلام - طلبت سارة من إبراهيم أن يبعدها وابنها، ولأمر أراده اللَّه أخذ إبراهيم هاجر وابنها الرضيع إلى وادٍ غير ذي زرع من أرض مكة عند بيت الله الحرام، فوضعهما هناك مستودعًا إياهما اللَّه، وداعيا لهما بأن يحفظهما الله ويبارك فيهما، فدعا إبراهيم -عليه السلام- ربه بهذا الدعاء: (رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاس تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم :37] . لكن آيات الله لا تنفد، فأراد أن يظهر آية أخرى معها. وذات يوم، جاء نفرٌ لزيارة إبراهيم عليه السلام؛ فأمر بذبح عجل سمين، وقدمه إليهم، لكنه دهش لما وجدهم لا يأكلون، وكان هؤلاء النفر ملائكة جاءوا إلى إبراهيم -عليه السلام- في هيئة تجار، ألقوا عليه السلام فرده عليهم . قال تعالى: (وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ. فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوط) [هود: 69-70] . قال تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) [هود : 47-48] وأخبرت الملائكة إبراهيم - عليه السلام- أنهم ذاهبون إلى قوم لوط؛ لأنهم عصوا نبي الله لوطًا، ولم يتبعوه. وقبل أن تترك الملائكة إبراهيم -عليه السلام- بشروه بأن زوجته سارة سوف تلد ولدًا اسمه إسحاق، وأن هذا الولد سيكبر ويتزوج، ويولد له ولد يسميه يعقوب. ولما سمعت سارة كلامهم، لم تستطع أن تصبر على هول المفاجأة، فعبَّرت عن فرحتها، ودهشتها كما تعبر النساء؛ فصرخت تعجبًا مما سمعت، وقالت: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ)[هود: 72-73] . وحملت سارة بإسحاق - عليه السلام - ووضعته، فبارك اللَّه لها ولزوجها فيه ؛ ومن إسحاق انحدر نسل بني إسرائيل . هذه هي سارة زوجة نبي اللَّه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- التي كانت أول من آمن بأبي الأنبياء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - حين بعثه اللَّه لقومه يهديهم إلى الرشد، ثم آمن به لوط ابن أخيه - عليه السلام -، فكان هؤلاء الثلاثة هم الذين آمنوا على الأرض في ذلك الوقت.
-
أمُّ الذبيح (هاجر) هناك.. فى صحراء مكة القاحلة.. حيث لا زرع ولا ماء.. ولا أنيس ولا رفيق.. تركها زوجها هي ووليدها.. ثم مضى في طريق عودته، وترك لهم تمرًا وماءً. فنادته زوجته وهى تقول: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي، الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فلم يلتفت إليها الزوج، وكأنه على يقين من وعد الله الذي لا يتخلف ولا يخيب. فقالت الزوجة -وكأنها أدركت أن أمرًا ما يمنع زوجها من الرد عليها-: الله أمرك بهذا؟ فيرد الزوج: نعم. فتقول الزوجة التي آمنت بربها، وعرفت معنى اليقين بصِدْقِ وَعْدِ الله، وفهمت كيف تكون معينة لزوجها على طاعة ربها، تقول في غير تردد ولا قلق: إذن لا يضيعنا. وانصرف إبراهيم -عليه السلام- وهو يدعو ربه ويقول: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) [إبراهيم/37-39]). ونفد الماء والزاد، والأم لا تجد ما تروى به ظمأ طفلها، وقد جفّ لبنها فلا تجد ما ترضعه. فيتلوى الطفل جوعًا وعطشًا، ويصرخ، ويتردد في الصحراء والجبال صراخه الذي يدمي قلب الأم الحنون. وتسرع الأم وتصعد على جبل الصفا، لتنظر أحدًا ينقذها هي وطفلها من الهلاك، أو تجد بعض الطعام أو الشراب. ولكنها لا تجد فتنزل مسرعة وتصعد جبل المروة، وتفعل ذلك سبع مرات حتى تمكن منها التعب، وأوشك اليأس أن يسيطر عليها، فيبعث الله جبريل -عليه السلام- فيضرب الأرض بجناحه؛ لِتَخْرُجَ عينُ ماءٍ بجانب الصغير، فتهرول الأم نحوها وقلبها ينطلق بحمد الله على نعمته، وجعلت تغرف من مائها، وتحاول جاهدة إنقاذ فلذة كبدها، وتقول لعين الماء: زُمّي زُمّي، فسميت هذه العين زمزم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ - لَكَانَتْ عَيْنًا مَعِينًا » " [البخاري برقم (2368 )]. إنها هاجر، أم إسماعيل، وزوجة إبراهيم خليل الله - رضي الله عنها -. عُرِفَتْ في التاريخ بأمِّ العَرَب العدنانيين. وَهَبَهَا ملكُ مِصرَ إلى السيدة سارة -زوج إبراهيم الأولى-، عندما هاجرا إلى مصر. ولما أدركت سارة أنها كبرت في السن، ولم تنجب، وهبت هاجر لزوجها ليتزوجها، عسى الله أن يرزقه منها الولد. وتزوج إبراهيم -عليه السلام- السيدة هاجر، وبدت عليها علامات الحمل، ثم وضعت إسماعيل -عليه السلام- ووجدت الغيرة طريقها إلى قلب السيدة سارة، فكأنها أحست أنها فقدت المكانة التي كانت لها في قلب زوجها من قبل، فطلبت منه أن يأخذ السيدة هاجر بعيدًا عنها، فأخذها سيدنا إبراهيم -عليه السلام- إلى صحراء مكة، بأمرٍ من الله، ولحكمة يريدها عز وجل، وحدث ما حدث لها ولوليدها. ومرت الأيام بطيئة ثقيلة، حتى نزل على هاجر وابنها إسماعيل بعض أناس من قبيلة "جُرْهُم" وأرادوا البقاء في هذا المكان؛ لما رأوا عندها الماء، فسمحت لهم بالسكن بجانبها، ومشاركتها في الشرب من ماء زمزم، واستأنست بهم، وشبَّ الطفل الرضيع بينهم، وتعلم اللغة العربية منهم، ولما كبر تزوج امرأة منهم. هذه هي هاجر أم الذبيح وأم العرب العدنانيين، رحلت عنا بعدما تركت لنا مثالا رائعًا للزوجة المطيعة، والأم الحانية، والمؤمنة القوية ؛ فقد أخلصت النية للَّه تعالى، فرعاها في وحشتها، وأمَّنها في غيبة زوجها، ورزقها وطفلها من حيث لا تحتسب. وقد جعل الله - سبحانه - ما فعلته السيدة هاجر - رضي الله عنها- من الصعود والسعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج. و توفيت ، ودفنها إسماعيل -عليه السلام- بجانب بيت الله الحرام.
-
امرأة فى الظل (هند بنت عتبة) وَعَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَهَبٍّ الطَّائِيِّ قَالَ : كَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ عِنْدَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ ، وَكَانَ الْفَاكِهُ مِنْ فِتْيَانِ قُرَيْشٍ ، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ لِلضِّيَافَةِ يَغْشَاهُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ ، فَخَلَّى ذَلِكَ الْبَيْتَ يَوْمًا ، وَاضْطَجَعَ الْفَاكِهُ وَهِنْدُ وَقْتَ الْقَائِلَةِ ، ثُمَّ خَرَجَ الْفَاكِهُ فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ ، وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَغْشَاهُ ، فَوَلَجَ الْبَيْتَ ، فَلَمَّا رَأَى الْمَرْأَةَ وَلَّى هَارِبًا ، فَأَبْصَرَهُ الْفَاكِهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْبَيْتِ ، فَأَقْبَلَ إِلَى هِنْدٍ فَضَرَبَهَا بِرِجْلِهِ ، وَقَالَ : مَنْ هَذَا الَّذِي كَانَ عِنْدَكِ ؟ قَالَتْ : مَا كَانَ عِنْدِي أَحَدٌ وَمَا انْتَبَهْتُ حَتَّى أَنْبَهْتَنِي . قَالَ : الْحَقِي بِأَبِيكِ ، وَتَكَلَّمَ فِيهَا النَّاسُ ، فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا : يَا بُنَيَّةُ ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيكِ فَنَبِّئِينِي نَبَأَكِ ، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ عَلَيْكِ صَادِقًا دَسَسْتُ لَهُ مَنْ يَقْتُلُهُ ; فَيَنْقَطِعُ عَنْكِ الْفَاكِهُ ، وَإِنْ يَكْ كَاذِبًا حَاكَمْتُهُ إِلَى بَعْضِ كُهَّانِ الْيَمَنِ ، فَحَلَفَتْ لَهُ بِمَا كَانُوا يَحْلِفُونَ بِهِ أَنَّهُ لَكَاذِبٌ عَلَيْهَا . فَقَالَ لِلْفَاكِهِ : يَا هَذَا ، إِنَّكَ رَمَيْتَ ابْنَتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ ، فَحَاكِمْنِي إِلَى بَعْضِ كُهَّانِ الْيَمَنِ . فَخَرَجَ عُتْبَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، وَخَرَجَ الْفَاكِهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمْ هِنْدٌ فِي نِسْوَةٍ مَعَهَا . فَلَمَّا شَارَفُوا الْبِلَادَ قَالُوا : نَرِدُ عَلَى الْكَاهِنِ فَتَنَكَّرَ حَالُ هِنْدٍ ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهَا ، فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا : إِنِّي أَرَى مَا بِكِ مِنْ تَنَكُّرِ الْحَالِ ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَكْرُوهٍ عِنْدَكِ ، أَفَلَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ النَّاسُ مَسِيرَنَا ؟ فَقَالَتْ : لَا وَاللَّهِ يَا أَبَتَاهُ ، مَا ذَاكَ لِمَكْرُوهٍ ، وَلَكِنْ أَعْرِفُ أَنَّكُمْ تَأْتُونَ بَشَرًا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ ، وَلَا آمَنُ أَنْ يَسِمَنِي بِسِمَةٍ تَكُونُ عَلَيَّ سُبَّةً فِي الْعَرَبِ . فَقَالَ : إِنِّي أَخْتَبِرُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِكِ . فَصَفَّرَ بِفَرَسِهِ حَتَّى أَدْلَى ، ثُمَّ أَخَذَ حَبَّةً مِنْ بُرٍّ فَأَدْخَلَهَا فِي إِحْلِيلِهِ وَأَوْكَأَ عَلَيْهَا بِسَيْرٍ ، فَلَمَّا صَبَّحُوا الْكَاهِنَ أَكْرَمَهُمْ وَنَحَرَ لَهُمْ ، فَلَمَّا تَغَدَّوْا قَالَ لَهُ عُتْبَةُ : إِنَّا قَدْ جِئْنَاكَ فِي أَمْرٍ ، وَإِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئًا أَخْتَبِرُكَ بِهِ ، فَانْظُرْ مَا هُوَ . قَالَ : تَمْرَةٌ فِي كَمَرَةٍ . قَالَ : أُرِيدُ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا . قَالَ : حَبَّةٌ مِنْ بُرٍّ فِي إِحْلِيلِ مُهْرٍ . قَالَ : صَدَقْتَ ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ . فَجَعَلَ يَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ وَيَضْرِبُ كَتِفَهَا ، وَقَالَ : قُومِي غَيْرَ وَحْشَاءَ وَلَا زَانِيَةٍ ، وَلَتَلِدَنَّ غُلَامًا يُقَالُ لَهُ : مُعَاوِيَةُ ، فَقَامَ إِلَيْهَا الْفَاكِهُ فَأَخَذَ بِيَدِهَا ، فَنَثَرَتْ يَدَهَا مِنْ يَدِهِ وَقَالَتْ : إِلَيْكَ ، فَوَاللَّهِ لَأَحْرِصَنَّ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِكَ . فَتَزَوَّجَهَا أَبُو سُفْيَانَ فَجَاءَتْ بِمُعَاوِيَةَ . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ(18483) وعن زينب رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: بَيْنَمَا أَنَا أَتَجَهَّزُ بِمَكَّةَ لِلُّحُوقِ بِأَبِي لَقِيَتْنِي هِنْدُ بنتُ عُتْبَةَ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَةَ عَمِّي، إِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ بِمَتَاعٍ مِمَّا يُرْفَقُ بِكِ فِي سَفَرِكِ، أَوْ مَالٍ تَبْلُغِينَ بِهِ إِلَى أَبِيكِ، فَإِنَّ عِنْدِي حَاجَتَكِ، فَلا تَضْطَنِي مِنِّي فَإِنَّهُ لا يَدْخُلُ بَيْنَ النِّسَاءِ مَا يَدْخُلُ بَيْنَ الرِّجَالِ، قَالَتْ: وَوَاللَّهِ مَا أُرَاهَا قَالَتْ ذَلِكَ إِلا لِتَفْعَلَ، وَلَكِنْ خِفْتُهَا فَأَنْكَرْتُ أَنْ أَكُونَ أُرِيدُ ذَلِكَ،.. أخرجه ابن إسحاق وقالت هند وهي تذكر أيامها الماضية: " لَقَدْ كُنْت أَرَى فِي النّوْمِ أَنّي فِي الشّمْسِ أَبَدًا قَائِمَةً وَالظّلّ مِنّي قَرِيبٌ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَمّا دَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنّا رَأَيْت كَأَنّي دَخَلْت الظّلّ ". بهذه الكلمات الطيبة أرَّخت هند بنت عتبة لحياتها. لقد أسلمت يوم فتح مكة بعد أن أسلم زوجها أبو سفيان، ويروى ابنها معاوية - رضى اللَّه عنهم- قصة إسلامها، فيقول: سمعتُ أمي هند بنت عتبة، وهي تذْكُرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: فعلتُ يوم أُحُد ما فعلتُ من المُثْلَة بعمِّه وأصحابه (أي تقطيع جثثهم بعد موتهم). كلما سارت قريش مسيرًا فأنا معها بنفسي، حتى رأيت في النوم ثلاث ليال كأني في ظلمة لا أُبصر سهلا ولا جبلا، وأرى تلك الظلمة قد انفرجت عني بضوء مكانه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني. ثم رأيت في الليلة الثانية كأني على طريق، فإذا بهُبل (أعظم أصنام قريش) عن يمينى يدعوني، وإذا إساف (أحد أصنام قريش، كانت تنحر عنده الذبائح) يدعوني عن يساري، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي، يقول: " تعالَي، هلمي إلى الطريق". ثم رأيت فى الليلة الثالثة كأني واقفة على شفير جهنم، يريدون أن يدفعوني فيها، وإذا أنا بِهُبل يقول: ادخلي فيها. فالتفتُّ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائي، آخذ بثيابي، فتباعدتُ عن شفير جهنم، وفزعت فقلتُ: هذا شيء قد بُيِّن لي، فعدوتُ إلى صنم في بيتنا، فجعلت أضربه وأقول: طالما كنت منك في غرور! وأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسلمتُ وبايعته. السيرة الشامية5/255 وقبل أن تذهب هند لتبايع النبي صلى الله عليه وسلم أتت زوجها أبا سفيان، وقالت له: إنما أريد أن أتبع محمدًا. فقال: قد رأيتك تكرهين هذا الحديث أمس. قالت: إني واللَّه ما رأيت أن عُبِدَ اللَّه حق عبادته فى هذا المسجد قبل الليلة، واللَّه إن باتوا إلا مصلين قيامًا وركوعًا وسجودًا. قال: فإنك قد فعلت ما فعلتِ، فاذهبى مع رجل من قومك. فذهبت إلى عثمان بن عفان -رضى الله عنه- فذهب معها، واستأذن له النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض النسوة اللاتى ذهبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جالسًا على الصَّفا ومعه عمر بن الخطاب -رضى اللَّه عنه- فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم "أبايعكن على ألا تشركن باللَّه شيئًا". فرفعتْ هند رأسها، وقالت: واللَّه إنك لتأخذ علينا أمرًا ما رأيتك أخذته على الرجال، وقد أعطيناكه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ولا تسرقن". فقالت: واللَّه إني لأصبت من مال أبى سفيان هنات (بعض المال القليل)، فما أدري أيحلُّهنَّ لي أم لا. فقال أبو سفيان: نعم، ما أصبت من شيء فيما مضى فهو لك حلال. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "وإنكِ لهند بنت عتبة؟". قالت: نعم، فاعف عمَّا سلف؛ عفا اللَّه عنك. قال: "ولا تزنين". قالت: فهل تزني الحُرَّة؟! ثم قال: "ولا تقتلن أولادكن". قالت: قد ربيناهم صغارًا وقتلتَهم ببدر كبارًا. فتبسم عمر -رضي اللَّه عنه- ضاحكًا من قولها، (ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك من قولها أيضًا). ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم "قتلهم اللَّه يا هند". ثم تلا قوله:(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 17]. ثم قال: "ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن" (والبهتان أن تدخل المرأة ولدًا من غير زوجها، على زوجها، وتقول له: هو منك، وليس منه). قالت: واللَّه إنّ البهتان لشيء قبيح، وما أمرتنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. قال: "ولا تعصيننى فى معروف". فقالت: ما جلسنا فى هذا المجلس، ونحن نحب أن نعصي اللَّه ورسوله فى شيء؟ فأقرّ النساء بما أخذ عليهن، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر -رضي اللَّه عنه- فبايعهن، واستغفر لهن النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان منهن قبل ذلك. فذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (12) سورة الممتحنة. معرفة الصحابة(7225 ) وَاحِدَة" مغازي الواقدي 1/850 وعَنْ أَبِي حُصَيْنٍ الْهُذَلِيّ قَالَ لَمّا أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ أَرْسَلَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَدِيّةٍ - وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ - مَعَ مَوْلَاةٍ لَهَا ، بِجَدْيَيْنِ مَرْضُوفَيْنِ وَقَدّ . فَانْتَهَتْ الْجَارِيَةُ إلَى خَيْمَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَلّمَتْ وَاسْتَأْذَنَتْ فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بَيْنَ نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجَتِهِ وَمَيْمُونَةَ ، وَنِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَتْ :إنّ مَوْلَاتِي أَرْسَلَتْ إلَيْك بِهَذِهِ الْهَدِيّةِ وَهِيَ مُعْتَذِرَةٌ إلَيْك وَتَقُولُ :إنّ غَنَمَنَا الْيَوْمَ قَلِيلَةُ الْوَالِدَةِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ :بَارَكَ اللّهُ لَكُمْ فِي غَنَمِكُمْ وَأَكْثَرَ وَالِدَتَهَا فَرَجَعَتْ الْمَوْلَاةُ إلَى هِنْدٍ فَأَخْبَرَتْهَا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسُرّتْ بِذَلِكَ فَكَانَتْ الْمَوْلَاةُ تَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ كَثْرَةِ غَنَمِنَا وَوَالِدَتِنَا مَا لَمْ نَكُنْ نَرَى قَبْلُ وَلَا قَرِيبًا ، فَتَقُولُ هِنْدٌ : هَذَا دُعَاءُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَرَكَتُهُ فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ" مغازي الواقدي1/869 هذه هي أخلاق هند فى إسلامها بعد أن فتح اللَّه قلبها للإيمان من بعد أن أغلقه الكفر، وجمده الشرك، فجعلها تُمثل بسيد الشهداء -حمزة بن عبد المطلب- ثأرًا منه لأنه قتل يوم بدر أباها عتبة وعمها شيبة، وكانا كافرين. إنها جاءت يوم أُحد مع جيش المشركين، وقد نذرتْ لئن قدرت على حمزة لتأكلنّ من كبده، فلما استشهد حمزة -رضى الله عنه- أمسكت بقطعة من كبده، وأخذتْ تمضغها لتأكلها فلم تستطع أن تبتلعها فلفظتها. وعَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَىَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ ، ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ . قَالَ وَأَيْضًا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ ، فَهَلْ عَلَىَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا قَالَ « لاَ أُرَاهُ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ »البخارى(3825) وقد حاولت هند أن تكفِّر عمّا سبق منها أيام الجاهلية، فاشتركت في الجهاد ضد أعداء اللَّه فى موقعة اليرموك، وروَتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى عنها ابنها معاوية، والسيدة عائشة أم المؤمنين. هذه هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَي، وأمها صفية بنت أمية بن حارثة بن مرة . وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ، وَلَيْسَ يُعْطِينِى مَا يَكْفِينِى وَوَلَدِى ، إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهْوَ لاَ يَعْلَمُ فَقَالَ :« خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ » البخارى(5364 )
-
قاتلةُ السبعة (أم حكيم) كانت يوم أحد حربًا على الإسلام والمسلمين، وكانت يوم اليرموك حربًا على الكفر والكافرين.. أسلمت يوم فتح مكة ولم يسلم زوجها "عِكرمة بن أبي جهل" عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ لَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ ، وَأَسْلَمَتْ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ، وَأَسْلَمَتْ امْرَأَةُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ ؟ الْبَغُومُ بِنْتُ الْمُعَذّلِ مِنْ كِنَانَةَ ، وَأَسْلَمَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَأَسْلَمَتْ هِنْدُ بِنْتُ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ ، وَهِيَ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فِي عَشْرِ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ . فَأَتَيْنَ رَسُولَ اللّهِ بِالْأَبْطَحِ فَبَايَعْنَهُ فَدَخَلْنَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ زَوْجَتُهُ وَابْنَتُهُ فَاطِمَةُ وَنِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَتَكَلّمَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَظْهَرَ الدّينَ [ الّذِي ] ، اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ لِتَمَسّنِي رَحْمَتُك يَا مُحَمّدُ إنّي امْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ بِاَللّهِ مُصَدّقَةٌ . ثُمّ كَشَفَتْ عَنْ نِقَابِهَا فَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْحَبًا بِك . فَقَالَتْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبّ إلَيّ أَنْ يَذِلّوا مِنْ [ أَهْلِ ] خِبَائِك ، وَلَقَدْ أَصْبَحْت وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبّ إلَيّ أَنْ يَعِزّوا مِنْ [ أَهْلِ ] خِبَائِك . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ وَزِيَادَةً أَيْضًا ثُمّ قَرَأَ رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِنّ الْقُرْآنَ وَبَايَعَهُنّ فَقَالَتْ هِنْدٌ مِنْ بَيْنِهِنّ يَا رَسُولَ اللّهِ نُمَاسِحُك . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي لَا أُصَافِحُ النّسَاءَ إنّ قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ مِثْلُ قَوْلِي لِامْرَأَةِ وَاحِدَة .. ثُمّ قَالَتْ أُمّ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ هَرَبَ عِكْرِمَةُ مِنْك إلَى الْيَمَنِ ، وَخَافَ أَنْ تَقْتُلَهُ فَأَمّنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ آمِنٌ . فَخَرَجَتْ أُمّ حَكِيمٍ فِي طَلَبِهِ وَمَعَهَا غُلَامٌ لَهَا رُومِيّ ، فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا ، فَجَعَلَتْ تُمَنّيهِ حَتّى قَدِمَتْ عَلَى حَيّ مِنْ عَكّ فَاسْتَغَاثَتْهُمْ عَلَيْهِ فَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا ، وَأَدْرَكَتْ عِكْرِمَةَ وَقَدْ انْتَهَى إلَى سَاحِلٍ مِنْ سَوَاحِلِ تِهَامَةَ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَجَعَلَ نُوَتِي السّفِينَةَ يَقُولُ لَهُ أَخْلِصْ فَقَالَ أَيّ شَيْءٍ أَقُولُ ؟ قَالَ قُلْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ . قَالَ عِكْرِمَةُ : مَا هَرَبْت إلّا مِنْ هَذَا . فَجَاءَتْ أُمّ حَكِيمٍ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ فَجَعَلَتْ تُلِحّ إلَيْهِ وَتَقُولُ يَا ابْنَ عَمّ جِئْتُك مِنْ عِنْدِ أَوْصَلِ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ وَخَيْرِ النّاسِ لَا تُهْلِكْ نَفْسَك . فَوَقَفَ لَهَا حَتّى أَدْرَكَتْهُ فَقَالَتْ إنّي قَدْ اسْتَأْمَنْت لَك مُحَمّدًا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ أَنْتِ فَعَلْت ؟ قَالَتْ نَعَمْ أَنَا كَلّمْته فَأَمّنَك . فَرَجَعَ مَعَهَا وَقَالَ مَا لَقِيت مِنْ غُلَامِك الرّومِيّ ؟ فَخَبّرَتْهُ خَبَرَهُ فَقَتَلَهُ عِكْرِمَةُ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُسْلِمْ . فَلَمّا دَنَا مِنْ مَكّةَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَصْحَابِهِ يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا ، فَلَا تَسُبّوا أَبَاهُ فَإِنّ سَبّ الْمَيّتِ يُؤْذِي الْحَيّ وَلَا يَبْلُغُ الْمَيّت قَالَ وَجَعَلَ عِكْرِمَةُ يَطْلُبُ امْرَأَتَهُ يُجَامِعَهَا ، فَتَأْبَى عَلَيْهِ وَتَقُولُ إنّك كَافِرٌ وَأَنَا مُسْلِمَةٌ . فَيَقُولُ إنّ أَمْرًا مَنَعَك مِنّي لَأَمْرٌ كَبِيرٌ . فَلَمّا رَأَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِكْرِمَةَ وَثَبَ إلَيْهِ - وَمَا عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رِدَاءٌ - فَرَحًا بِعِكْرِمَةَ ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَزَوْجَتُهُ مُنْتَقِبَةٌ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ إنّ هَذِهِ أَخْبَرَتْنِي أَنّك أَمّنْتنِي . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَتْ فَأَنْتَ آمِنٌ فَقَالَ عِكْرِمَةُ : فَإِلَى مَا تَدْعُو يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ أَدْعُوك إلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ وَأَنْ تُقِيمَ الصّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزّكَاةَ - وَتَفْعَلَ وَتَفْعَلَ حَتّى عَدّ خِصَالَ الْإِسْلَامِ . فَقَالَ عِكْرِمَةُ : وَاَللّهِ مَا دَعَوْت إلّا إلَى الْحَقّ وَأَمْرٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ ; قَدْ كُنْت وَاَللّهِ فِينَا قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَ إلَى مَا دَعَوْت إلَيْهِ وَأَنْتَ أَصْدَقُنَا حَدِيثًا وَأَبَرّنَا بِرّا . ثُمّ قَالَ عِكْرِمَةُ : فَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . فَسُرّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ عَلّمْنِي خَيْرَ شَيْءٍ أَقُولُهُ . قَالَ تَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . قَالَ عِكْرِمَةُ : ثُمّ مَاذَا ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَقُولُ أُشْهِدُ اللّهَ وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنّي مُسْلِمٌ مُهَاجِرٌ مُجَاهِدٌ . فَقَالَ عِكْرِمَةُ ذَلِكَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا أُعْطِيهِ أَحَدًا إلّا أَعْطَيْتُكَهُ . فَقَالَ عِكْرِمَةُ : فَإِنّي أَسْأَلُك أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِي كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَيْتُكَهَا ، أَوْ مَسِيرٍ وَضَعْت فِيهِ أَوْ مَقَامٍ لَقِيتُك فِيهِ أَوْ كَلَامٍ قُلْته فِي وَجْهِك أَوْ وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنْهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اغْفِرْ لَهُ كُلّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا ، وَكُلّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إلَى مَوْضِعٍ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْمَسِيرِ إطْفَاءَ نُورِك ، فَاغْفِرْ لَهُ مَا نَالَ مِنّي مِنْ عِرْضٍ فِي وَجْهِي أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ فَقَالَ عِكْرِمَةُ : رَضِيت يَا رَسُولَ اللّهِ . ثُمّ قَالَ عِكْرِمَةُ : أَمَا وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَا أَدَعُ نَفَقَةً كُنْت أُنْفِقُهَا فِي صَدّ [ عَنْ ] سَبِيلِ اللّهِ إلّا أَنْفَقْت ضِعْفَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا قِتَالًا كُنْت أُقَاتِلُ فِي صَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إلّا أَبْلَيْت ضِعْفَهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ . ثُمّ اجْتَهَدَ فِي الْقِتَالِ حَتّى قُتِلَ شَهِيدًا فَرَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ امْرَأَتَهُ بِذَلِكَ النّكَاحِ الْأَوّلِ .مغازي الواقدي 1/850. إنها أم حكيم بنت الحارث -رضي اللَّه عنها-، ذات الوفاء النادر للزوج، والمعرفة الصحيحة بملكاته. فأحبتْ له الخير، وسعتْ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأمن له، فأمّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبذلك كانت سببًا فى إسلام زوجها، فحسن إسلامه، وجاهد في اللَّه حتى رزقه اللَّه الشهادة في موقعة أجنادين . تزوجت السيدة أم حكيم -رضي اللَّه عنها- بعد ذلك الصحابي الجليل خالد بن سعيد بن العاص -رضي اللَّه عنه- وقبل أن يدخل بها نادى منادي الجهاد أن استعدوا لقتال الروم ولكن فراسة خالد حدثته أنه مقتول غدًا -وفراسة المؤمن لا تخطئ، فإنه يرى بنور اللَّه- فعرض على امرأته أن يدخل بها فقالت: لو تأخرت حتى يهزم اللَّه هذه الجموع. فقال: إن نفسي تحدثنى أني أقتل. قالت: فدونك. فأعرس بها عند القنطرة التي عُرفت بعد ذلك بقنطرة أم حكيم، ثم أصبح فأولموا عليهما. فما فرغوا من الطعام حتى وافتهم الروم، ووقع القتال فاستشهد خالد أمام عينيها، فشدَّت أم حكيم عليها ثيابها وخرجت إلى القتال؛ انتصارًا للدين وانتقامًا لمقتل زوجيها عكرمة وخالد وقتلى المسلمين، واستطاعت أن تقتل بعمود الخيمة التي بنى بها خالد فيها سبعة من الروم. الإستيعاب 2/127 ثم واصلت كفاحها، فسطَّر التاريخ حياتها بأحرف من نور، فرضي اللَّه عنها وأرضاها
-
أختُ النبي صلى الله عليه وسلم (الشيماء) كانت تلاعب النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وتقول له: يا ربَّنَا أبْقِ لَنَا مُحَمَّدًا حتى أرَاهُ يَافِعًا وأمْرَدَا ثُمَّ أَراهُ سَيِّدًا مُسَوَّدَا واكْبِتْ أعَادِيهِ مَعًا وَالْحُسَّدَا وَأعْطِهِ عِزّا يَدُومُ أبدًا وكان أبو عروة الأزدي إذا أنشد هذا يقول: ما أحسن ما أجاب اللَّه دعاءها! إنها الشيماء "حذافة بنت الحارث" -رضي اللَّه عنها- أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة... وحاضنته مع أمها حليمة السعدية -رضي اللَّه عنها-. أحبتْ الشيماء أخاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتابعتْ أخباره أولا بأول، وسمعتْ بدعوته حين بُعث فصدقتْه وناصرتْه. رأتْ في دعوته السلام والأمن والحب والتسامح والإخاء... ولما أغارت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على هوازن (قبيلة الشيماء)، وهزم بنو سعد، كانت فيمن أخذ من السبي، وكانت قد كبر سنَّها، وضعف جسمها وتغيرت ملامحها كثيرًا، فقالت لمن أسرها من المسلمين: أنا أخت صاحبكم. فلما قدموا بها، قالت: يا رسول الله إني لأختك من الرضاعة. قال: " وما علامة ذلك؟ " قالت: عضة عضضتها في ظهري وأنا متوركتك. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فبسط لها رداءه ثم قال لها: " هاهنا " فأجلسها عليه وخيرها فقال: " إن أحببت فأقيمي عندي محببةً مكرمةً وإن أحببت أن أمتعك فارجعي إلى قومك " . فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي. فمتعها وردها إلى قومها فزعم بنو سعد بن بكر أنه أعطاها غلاماً يقال له مكحول وجارية فزوجت إحداهما الآخر فلم يزل فيهم من نسلهم بقية. [السيرة الشامية 5 / 333]. ولما توفي رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم ارتد قومها (بنو سعد) عن الإسلام، فوقفتْ موقفًا شجاعًا، تدافع عن الإسلام بكل جهدها؛ حتى أذهب الله الفتنة عن قومها. وكانت -رضي اللَّه عنها- كثيرة العبادة والتنسُّك، واشتهرت بشِعرها الذي ناصرت فيه الإسلام ورسوله، وظلت تساند المسلمين وتشد من أزرهم حتى أتاها اليقين، فرضي اللَّه عنها
-
امرأةٌ من أهل الجنة (أم زمر) عَنْ عِمْرَانَ أَبِى بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنِى عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى . قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ إِنِّى أُصْرَعُ ، وَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِى . قَالَ « إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ » . فَقَالَتْ أَصْبِرُ . فَقَالَتْ إِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ ، فَدَعَا لَهَا . البخاري(5652 ) . فحقق الله رجاءها، فكانت نوبة الصرع لا تنتابها إلا وهي نائمة متمكنة، فلا تتكشَّف. إنها الصحابية الجليلة سُعَيْرَة الأسدية، من الحبشة، عرفت بأم زُفَر -رضي الله عنها-. كانت ترعى حق اللَّه في نفسها، وتحرص على تعاليم دينها، ومع أنها كانت مريضة بالصرع فإنها لم تيأس أبدًا من رحمة اللَّه -سبحانه-، فهي تصبر على ما أصابها وتعلم أن ذلك من عزم الأمور، وأنه ما من شيء يُبْتَلى به المؤمن الصابر إلا كان في ميزان حسناته يوم القيامة، وفي ابتلاء اللَّه للإنسان حكمة عظيمة يريد اللَّه بها تنقيته من الذنوب.لذا آثرت الآخرة على الدنيا؛ لأن ما عند اللَّه خير وأبقى، حين خُيِّرت بين الدعاء لها بالشفاء وبين الجنة؛ فاختارت الجنة، ولكنها طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تتكشف؛ لأنها ربيت فى مدرسة العفة والطهارة؛ مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وراعت حق اللَّه -تبارك وتعالى- حين قال:( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)[النور: 31]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليها، فرضي الله عنها وأرضاها.
-
صاحبةُ القرآن (زبيدة زوجة الرشيد) أنصتْ.. استمعْ جيدًا.. تُرَى ما هذا الصوت الغريب القادم من قصر أمير المؤمنين هارون الرشيد، إنه صوتٌ يشبه دَوِىَّ النحل، تعالَ نقترب من القصر، ها قد اتضح الصوت: إنهن جواري زبيدة زوجة الخليفة يحفظْنَ ويرتلْنَ القرآن الكريم. كانت زبيدة تتمنى بينها وبين نفسها أن تتزوج من ذلك الشاب اليافع، وها قد تحقق حلمها الذي كانت تحلم به، فقد عاد ابن عمها هارون الرشيد مع أبيه الخليفة "المهدى" من ميدان المعركة بعد أن حققا النصر على الروم، وستكون الفرحة فرحتين، فرحة النصر، وفرحة الزواج من هارون، نصبت الزينات وأقيمت الولائم التي لم يشهدها أحد من قبل فى بلاد العرب وازينت زبيدة بالحلي والجواهر، والمسك والعنبر والروائح الطيبة تنتشر في مكان العرس، والناس مسرورون بهذا الزواج المبارك. وتزوجت زبيدة من هارون الرشيد، فملأ الحب قلبيهما، واستطاعت بذكائها ولباقتها أن تزيد من حبه لها حتى أصبح لايطيق فراقها ولا يملُّ صحبتها، ولا يرفض لها طلبًا. ومرت الأيام، وأنجبت زبيدة من هارون الرشيد ابنها "محمدًا" الأمين وقد أحبته كثيرًا، وكانت شديدة العطف عليه والرفق به لدرجة أنها بعثت ذات يوم جاريتها إلى الكسائي مؤدبه ومعلمه، وكان شديدًا عليه، تقول له : "ترفق بالأمين فهو ثمرة فؤادي وقرة عيني". وتولَّى هارون الرشيد الخلافة، فازداد الخير في البلاد، واتسع ملكه، لدرجة جعلته يقول للغمامة حين تمر فوقه : "اذهبي فأمطري أَنَّى شئت، فإن خراجك سوف يأتى إلىَّ". مجلة البيان - (ج 61 / ص 104) ورأت "زبيدة" زوجة خليفة المسلمين أن تساهم في الخير، وفي إعمار بلاد الإسلام، فحين حجت إلى بيت الله الحرام سنة 186هـ ، وأدركت ما يتحمله أهل مكة من المشاق والصعوبات في الحصول على ماء الشرب، دعت خازن أموالها، وأمرته أن يجمع المهندسين والعمال من أنحاء البلاد، وقالت له : اعمل ولو تكلَّفتْ ضَرْبةُ الفأس دينارًا. وحُفر البئر ليشرب منه أهل مكة والحجاج وعرف بعد ذلك ببئر زبيدة. ولم تكتفِ زبيدة بذلك، بل بَنَتْ العديد من المساجد والمبانى المفيدة للمسلمين، وأقامتْ الكثير من الآبار والمنازل على طريق بغداد، حتى يستريح المسافرون، وأرادت زبيدة أن تولى ابنها الأمين الخلافة بعد أبيه، لكن هارون الرشيد كان يرى أن المأمون وهو ابنه من زوجة أخرى أحق بالخلافة لذكائه وحلمه، رغم أنه أصغر من الأمين؛ فدخلت زبيدة على الرشيد تعاتبه وتؤاخذه، فقال لها الرشيد : ويحك، إنما هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورعاية من استرعاني طوقًا بعنقي، وقد عرفت ما بين ابني، وابنك يا زبيدة، ابنك ليس أهلا للخلافة؛ فقد زينه في عينيك ما يزين الولد في عين الأبوين، فاتَّقي الله ؛ فوالله إن ابنك لأحب إلىّ، إلا أنها الخلافة لا تصلح إلا لمن كان أهلا لها، ونحن مسئولون عن هذا الخلق ؛ فما أغنانا أنا نلقى الله بوِزْرِهِمْ، وننقلبَ إليه بإثمهم ؛ فدعيني حتى أنظر في أمري. وعلى الرغم من ذلك فقد عهد بولاية العهد لابنه "محمد الأمين"، ثم للمأمون من بعده. وحين دخل المأمون بغداد بعد مقتل الأمين، وكان صراع قد شب بينهما حول منصب الخلافة استقبلتْهُ، وقالت له: أهنيكَ بخلافة قد هنأتُ نفسي بها عنكَ، قبل أن أراكَ، ولئن كنتُ قد فقدتُ ابنًا خليفةً؛ لقد عُوِّضْتُ ابنًا خليفة لم ألِدْه، وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل الله أجرًا على ما أخذ، وإمتاعًا بما عوض . فقال المأمون: ما تلد النساء مثل هذه. وماذا أبقت فى هذا الكلام لبلغاء الرجال. المنتظم 4 / 250 ونهاية الأرب 2 / 69 وتُوُفِّيت السيدة زبيدة فى بغداد سنة 216هـ بعد حياة حافلة بالخير والبر، فرحمة الله عليها.(موسوعة الأسرة المسلمة )
-
نفيسةُ العلم (نفيسة بنت الحسن) كانت من العابدات الزاهدات القانتات لله، كما كانت مصباحًا أضاء الطريق للسالكين الحيارى، وقدوة احتذاها أهل التقوى والإيمان. في مكة المكرمة، ولدت نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان ذلك اليوم السعيد بعد مائة وخمسة وأربعين عامًا من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم عام 145هـ. وفى البلد الحرام عاشت نفيسة مع أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم :، فتأثرت بهم، وسارت على منهجهم؛ فحفظت القرآن الكريم، وأقبلت على فهم آياته وكلماته، كما حفظت كثيرًا من أحاديث جدها صلى الله عليه وسلم. نظرت نفيسة إلى الدنيا، فوجدتها فانية زائلة، فأعرضت عنها، وزهدت فيها، وأقبلت بوجهها إلى الله، تستغفره، وتتوسل إليه، وتطلب منه العفو والغفران، ولما بلغت نفيسة مبلغ الشابات؛ تقدم لخطبتها ابن عمها إسحق المؤتمن بن الإمام جعفر الصادق، فرضيته زوجًا لها. وفى المدينة المنورة، عاشت نفيسة آمنة مطمئنة، وفتحت بيتها لطلاب العلم، تروي لهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :، وتفتيهم في أمور دينهم ودنياهم، حتى أطلقوا عليها اسم: "نفيسة العلم والمعرفة". وفى عام مائة وثلاثة وتسعين من الهجرة (193هـ)، وصلت السيدة نفيسة إلى مصر بصحبة والدها وزوجها، واستقرت فى الفسطاط بدار ابن الجصاص وهو من أعيان مصر، وقد اُستقبلت استقبالا حافلا، وسر أهل البلاد بقدوم حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم . واستمرت نفيسة فى حياة الزهد والعبادة، تقوم الليل، وتصوم النهار، حتى طلب منها زوجها ذات يوم أن ترفق بنفسها، فقالت: "من استقام مع الله، كان الكون بيده وفي طاعته". وكانت تعرف أنها لكي تفوز بجنة الخلد، فلابد لها أن تجتهد في العبادة، وأن تبتعد عن ملذات الدنيا، تقول: "لا مناص من الشوك في طريق السعادة، فمن تخطاه وصل". وداومت السيدة نفيسة على زيارة بيت الله الحرام، وقيل: إنها أدت شعائر الحج ثلاثين مرة، تذهب إلى هناك تتطهر من ذنوبها، وتجدد العهد مع الله على الطاعة، والاستجابة لأوامره، والابتعاد عن كل ما يغضبه، ثم تعود إلى مصر. وكانت -رضي الله عنها- تجير المظلوم، ولا تستريح حتى ترفع الظلم عنه، فقد استجار بها رجل ثري من ظلم بعض أولي الأمر، فساعدته فى رفع الظلم عنه، ودعت له، وعاد مكرمًا معززًا؛ فأهداها مائة ألف درهم شكرًا لها واعترافًا بفضلها، فوزعتها على الفقراء والمساكين، وهي لا تملك ما يكفيها من طعام يومها. ولما ظلم أحمد بن طولون قبل أن يعدل استغاثه الناس من ظلمه، توجهوا إلى السيدة نفيسة، فشكوه إليها، فقالت لهم: متى يركب؟ فقالوا: في غد فكتبت رقعة ووقفت في طريقه، وقالت: يا أحمد بن طولون فلما رآها عرفها وترجل عن فرسه وأخذ الرقعة منها وقرأها، فإذا فيها مكتوب أما بعد: فإنكم ملكتم فأسرتم، وقدِرتم فأشرتم، ووسع عليكم فضيّقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء فاحذروا سهام السحر؛ فإنها أنفذ من وخز الإبر، لا سيما وقد جرحتم قلوبًا قد أوجعتموها، وأكبادًا أجعتموها، وأحشاء أنكيتموها، ومقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلِّمون، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]". " قال: فعدل من وقته وساعته."المستطرف في كل فن مستظرف - (ج 1 / ص 109) وموسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4870) والكشكول - (ج 1 / ص 152) وبعد سبع سنوات من الإقامة فى مصر، مرضت السيدة نفيسة، فصبرت ورضيت، وكانت تقول: "الصبر يلازم المؤمن بقدر ما فى قلبه من إيمان، وحسب الصابر أن الله معه، وعلى المؤمن أن يستبشر بالمشاق التي تعترضه، فإنها سبيل لرفع درجته عند الله، وقد جعل الأجر على قدر المشقة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم". ولما أحست السيدة نفيسة أن النهاية قد اقتربت، أرسلت إلى زوجها إسحاق المؤتمن، تطلب منه الحضور وكان بعيدًا عنها. وفي صحن دارها، حفرت قبرها بيدها، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرًا، حتى إنها قرأت فيه المصحف مائة وتسعين مرة وهي تبكي بكاء شديدًا. وكانت السيدة نفيسة صائمة كعادتها، فألحوا عليها أن تفطر رفقًا بها، وهي في لحظاتها الأخيرة، لكنها صممت على الصوم برغم أنها كانت على وشك لقاء الله، وقالت: واعجبًا، منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة، أأفطر الآن؟! هذا لا يكون. ثم راحت تقرأ بخشوع من سورة الأنعام، حتى وصلت إلى قوله تعالى {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (127) سورة الأنعام. ففارقت الحياة، وفاضت روحها إلى الله، فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزنًا شديدًا، وحينما حضر زوجها أراد أن ينقل جثمانها إلى المدينة، لكن الناس منعوه، ودفنت فى مصر. فرحمة الله عليها هكذا تكون الحياة يا رجال، وهكذا يكون الممات، نساء عابدات زاهدات، آمرات بالمعروف ناهيات عن المنكر، باذلات للنفس في سبيل الله. وقال الإمام الذهبي في السير في آخر ترجمتها (10/108): وَقِيْلَ: كَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ العَوَابِدِ، وَالدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرِهَا، بَلْ وَعِنْدَ قُبُوْرِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِيْنَ، وَفِي المَسَاجِدِ، وَعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، وَفِي السَّفَرِ المُبَاحِ، وَفِي الصَّلاَةِ، وَفِي السَّحَرِ، وَمِنَ الأَبَوَيْنِ، وَمِنَ الغَائِبِ لأَخِيْهِ، وَمِنَ المُضْطَّرِ، وَعِنْدَ قُبُوْرِ المُعَذَّبِيْنَ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِيْنٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر. وَلاَ يُنْهَى الدَّاعِي عَنِ الدُّعَاءِ فِي وَقْتٍ إِلاَّ وَقْتَ الحَاجَةِ، وَفِي الجِمَاعِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ.وَيَتَأَكَّدُ الدُّعَاءُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَدُبُرَ المَكْتُوْبَاتِ، وَبَعْدَ الأَذَانِ.
-
العابدةُ (رابعة العدوية) قامت في جوف الليل تدعو اللَّه ضارعة وتقول: إلهي، أنارتْ النجوم، ونامتْ العيون، وغلقتْ الملوك أبوابها، وهذا مقامي بين يديك، إلهي.. ما أصغيت إلى صوت حيوان، ولا حفيف شجر، ولا خرير ماء، ولا ترنُّم طائر، ولا تنعم ظل، ولا دوِي ريح، ولا قعقعة رعد... إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك، دالة على أنه ليس كمثلك شيء. سَيدِي بك تقرّب المتقربون فى الخلوات، ولعظمتك سَبَّحَتِ الحيتان فى البحار الزاخرات، ولجلال قدسك تصافقت الأمواج المتلاطمات. أنت الذي سبح لك سواد الليل، وضوء النهار، والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، والنجم الزهار، وكل شيء عندك بمقدار؛ لأنك اللّه العلي القهار. صفة الصفوة 2 / 15 وذات مرة قالت لأبيها: يا أبتِ، لستُ أجعلك في حلٍّ من حرام تطعمنيه. فقال لها: أرأيت إن لم أجد إلاحرامًا؟ قالت: نصبر في الدنيا على الجوع، خير من أن نصبر في الآخرة على النار. رَابِعَةُ العَدَوِيَّةُ أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ إِسْمَاعِيْلَ العَتَكِيَّةُ البَصْرِيَّةُ، الزَّاهِدَةُ، العَابِدَةُ، الخَاشعَةُ، أُمُّ عَمْرٍو رَابِعَةُ بِنْتُ إِسْمَاعِيْلَ. قَالَ خَالِدُ بنُ خِدَاشٍ: سَمِعَتْ رَابِعَةُ صَالِحاً المُرِّيَّ يَذْكُرُ الدُّنْيَا فِي قَصَصِهِ، فَنَادَتْهُ: يَا صَالِحُ، مَنْ أَحَبَّ شَيْئاً، أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ البُرْجُلاَنِيُّ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بنُ صَالِحٍ العَتَكِيُّ، قَالَ:اسْتَأْذَنَ نَاسٌ عَلَى رَابِعَةَ وَمَعَهُم سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فَتَذَاكَرُوا عِنْدَهَا سَاعَةً، وَذَكَرُوا شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا قَامُوا، قَالَتْ لِخَادِمَتِهَا:إِذَا جَاءَ هَذَا الشَّيْخُ وَأَصْحَابُهُ، فَلاَ تَأْذَنِي لَهُم، فَإِنِّي رَأَيتُهُم يُحِبُّونَ الدُّنْيَا. وَعَنْ أَبِي يَسَارٍ مِسْمَعٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَابِعَةَ، فَقَالَتْ:جِئْتَنِي وَأَنَا أَطبُخُ أَرْزاً، فَآثَرتُ حَدِيْثَكَ عَلَى طَبِيْخِ الأَرْزِ، فَرَجَعتْ إِلَى القِدْرِ وَقَدْ طُبِخَتْ. ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ، حَدَّثَنِي عُبَيْسُ بنُ مَيْمُوْنٍ العَطَّارُ، حَدَّثَتْنِي عَبْدَةُ بِنْتُ أَبِي شَوَّالٍ - وَكَانَتْ تَخْدُمُ رَابِعَةَ العَدَوِيَّةَ - قَالَتْ:كَانَتْ رَابِعَةُ تُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ، فَإِذَا طَلَعَ الفَجْرُ، هَجَعَتْ هَجْعَةً حَتَّى يُسْفِرَ الفَجْرُ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهَا تَقُوْلُ:يَا نَفْسُ كَمْ تَنَامِيْنَ، وَإِلَى كَمْ تَقُوْمِيْنَ، يُوْشِكُ أَنْ تَنَامِي نَوْمَةً لاَ تَقُوْمِيْنَ مِنْهَا إِلاَّ لِيَوْمِ النُّشُورِ. قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ الأَعْرَابِيِّ: أَمَّا رَابِعَةُ، فَقَدْ حَمَلَ النَّاسُ عَنْهَا حِكْمَةً كَثِيْرَةً، وَحَكَى عَنْهَا: سُفْيَانُ، وَشُعْبَةُ، وَغَيْرُهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلاَنِ مَا قِيْلَ عَنْهَا، وَقَدْ تَمَثَّلَتْهُ بِهَذَا: وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ فِي الفُؤَادِ مُحَدِّثِي * وَأَبَحْتُ جِسْمِيَ مَنْ أَرَادَ جُلُوْسِي فَنَسَبَهَا بَعْضُهُم إِلَى الحُلُوْلِ بِنِصْفِ البَيْتِ، وَإِلَى الإِبَاحَةِ بِتَمَامِهِ. قُلْتُ: فَهَذَا غُلُوٌّ وَجَهْلٌ، وَلَعَلَّ مَنْ نَسَبَهَا إِلَى ذَلِكَ مُبَاحِيٌّ حُلُوْلِيٌّ، لِيَحْتَجَّ بِهَا عَلَى كُفْرِهِ، كَاحْتِجَاجِهِم بِخَبَرِ: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ). السير(8/242) و تاريخ الإسلام للذهبي 3 / 293 عن عبد الله بن عيسى قال: دخلت على رابعة العدوية بيتها فرأيت على وجهها النور وكانت كثيرة البكاء فقرأ رجل عندها آية من القرآن فيها ذكر النار فصاحت ثم سقطت. ودخلت عليها وهي جالسة على قطعة بوري خلق فتكلم رجل عندها بشيء فجعلت أسمع وقع دموعها على البوري مثل الوكف، ثم اضطربت وصاحت فقمنا وخرجنا." صفة الصفوة 1 / 405 عن جعفر بن سليمان قال: أخذ بيدي سفيان الثوري وقال: مر بنا إلى المؤدبة التي لا أجد من أستريح إليه إذا فارقتها. فلما دخلنا عليها رفع سفيان يده وقال: اللهم إني أسألك السلامة فبكت رابعة. فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: أنت عرضتني للبكاء. فقال: وكيف؟ قالت: أما علمت أن السلامة من الدنيا ترك ما فيها فكيف وأنت متلطخ بها؟ صفة الصفوة 1 / 405 وجاء أحد التجار يطلبها للزواج، فقال لها: إنني أربح فى اليوم ثمانين ألف درهم وأنا أخطبك لنفسي. فقالت له: إن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن. صُم دهرك ، واجعل الموت فطرك، فما يَسُرُّني أن اللّه خولني أضعاف ما خولك، فيشغلني به عنه طرفة عين، والسلام. إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 303) وعندما أتى رجل إليها ليعطيها أربعين دينارًا وقال لها: تستعينين بها على بعض حوائجك. بكت، ثم رفعت رأسها إلى السماء وقالت: هو يعلم أني أستحي منه أن أسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف أريد أن آخذها ممن لا يملكها؟ صفة الصفوة - (ج 1 / ص 405) . وقالت رابعة لسفيان: "يا سفيان، إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل" صفة الصفوة 1 / 405 كانت رابعة العدوية تصلي الليل، فإذا طلع الفجر هجعت في مُصَلاها هَجْعَة خفيفة حتى يسفر الفجر، فتثب من مرقدها وهي فزعة وتقول: يَا نَفْسُ كَمْ تَنَامِيْنَ، وَإِلَى كَمْ تَقُوْمِيْنَ، يُوْشِكُ أَنْ تَنَامِي نَوْمَةً لاَ تَقُوْمِيْنَ مِنْهَا إِلاَّ لِيَوْمِ النُّشُورِ. صفة الصفوة 1 / 405 ثم تبكي وهي ساجدة فإذا رفعت رأسها يُرى موضع سجودها مبلل من دموعها. قال لها رجل ذات يوم: يا رابعة ادع لي ! فقالت: من أنا، يرحمك اللّه؟!أطع ربك وادعه؛ فإنه يجيب المضطرين. وقالت لها امرأة: يا رابعة، إني أحبك في اللّه. فقالت لها: فلا تعصي وأطيعي من أحببتني فيه، فسألتها: أترين من تعبدينه؟ فقالت: لو كنت لا أراه ما عبدته. عاشت رابعة حتى صارت عجوزًا كبيرة لها ثمانون سنة، وكانت من زهدها في الحياة أن بدت ضعيفة تكاد تسقط على الأرض وهي تمشي. وكانت تضع أكفانها أمامها، فإذا ذُكر الموت انتفضت وأصابتها رعدة. وحين قرب موتها قالت لخادمتها عبدة: يا عبدة لا تُؤْذِنِى بموتى أحدًا (أي لا تُخبريه)، وكَفِّنِينِي في جُبَّتي هذه وفي خماري الصوف؛ ليكمل لي بهما ثوابي يوم القيامة . قالت: فكفناها في تلك الجبة وخمار صوف كانت تلبسه. صفة الصفوة 1 / 405 وتوفيت فى سنة مائة وخمس وثلاثين من الهجرة وعمرها ثمانون عامًا. وقبرها يقع بظاهر القدس
-
الصامدةُ (نائلةُ بنت الفرافصة) أخوها ضب وهو الذي حملها إلى عثمان، وكان ضب مسلما وكان أبوها نصرانيا فأمر ابنه ضبا بذلك ، وفي ذلك تقول نائلة بنت الفرافصة لأخيها ضب : أحقا تراه اليوم يا ضب إنني * مرافقة نحو المدينة أركبا لقد كان في فتيان حصن بن ضمضم * وجدك ما يغني الخباء المحجبا وكان سعيد بن العاص تزوج أخت نائلة بنت الفرافصة وهو أمير على الكوفة فبلغ ذلك عثمان بن عفان فكتب إليه : بلغني أنك تزوجت امرأة فأخبرني عن حسبها وجمالها فكتب إليه أما عن حسبها فإنها ابنة الفرافصة وأما جمالها فإنها بيضاء وكتب إليه إن كان لها أخت فزوجنيها فدعا الفرافصة فقال له زوج أمير المؤمنين فقال الفرافصة لابنه ضب - وكان مسلما والفرافصة نصراني زوج أختك أمير المؤمنين فزوجه نائلة وحملها إليه فلما دخلت على عثمان وضع القلنسوة عن رأسه وبدا الصلع فقال لا يغمنك ما ترين فإن من ورائه ما تحبين قالت له أما ما ذكرت من صلعك فإني من نسوة أحب أزواجهن إليهن السادة الصلع ثم قال لها إما أن تتحولي إلي أو أتحول إليك قالت ما قطعت من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك فتحولت إليه فكانت من أحظى النساء عنده قالوا وتزوجها وهي نصرانية على نسائه ثم أسلمت على يديه ولما قتل عثمان قالت نائلة فيه : ألا إن خير الناس بعد ثلاثة * قتيل التجيبي الذي جاء من مصر ومالي لا أبكي وأبكي قرابتي * وقد غيبت عني فضول أبي عمرو وقالت نائلة لما حصر عثمان ظل اليوم الذي كان قبل قتله بيوم صائما فلما كان عند إفطاره سألهم الماء العذب فأبوا عليه وقالوا دونك الركي وركي في الدار التي يلقى فيها النتن قال فلم يفطر فأتيت جارات لنا على أجاجير متواصلة وذلك في السحر فسألتهم الماء العذب فأعطوني كوزا من ماء فأتيته فقلت هذا ماء عذب أتيتك به قالت فنظر فإذا الفجر قد طلع فقال إني أصبحت صائما [ قالت : ] فقلت من أين ولم أر أحدا أتاك بطعام ولا شراب فقال إني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اطلع علي من هذا السقف ومعه دلو من ماء فقال اشرب يا عثمان فشربت حتى رويت ثم قال ازدد فشربت حتى ثملت أو نهلت ثم قال أما إن القوم سيبكرون عليك فإن قاتلتهم ظفرت وإن تركتهم أفطرت عندنا فدخلوا عليه من يومه فقتلوه" تاريخ دمشق 70 /136 عن ابن الجراح مولى أم حبيبة قال: كنت مع عثمان رضي الله عنه في الدار.فما شعرت وقد خرج محمد بن أبي بكر ونحن نقول همَّ في الصلح، إذا بالناس قد دخلوا من الخوخة وتدلوا بأمراس الحبال من سور الدار ومعهم السيوف، فرميت بسيفي وجلست عليه، وسمعت صياحهم، فإني لأنظر إلى مصحف في يد عثمان رضي الله عنه: إلى حمرة أديمه، ونشرت نائلة بنت الفرافصة شعرها، فقال لها عثمان رضي الله عنه: خذي خمارك فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شعرك، وأهوى الرجل لعثمان بالسيف، فاتقته بيدها، فقطع إصبعين من أصابعها، ثم قتلوه وخرجوا يكبرون.. تاريخ المدينة 4 / 1300 وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها لما في الدار من الجلبة، فصعدت امرأته إلى الناس فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل. فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان رضي الله عنه مذبوحا (فانكبوا ) عليه يبكون، وخرجوا، ودخل الناس فوجدوه مقتولا، وبلغ عليا الخبر وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة، فخرجوا، وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم، حتى دخلوا عليه فوجدوه مذبوحا، فاسترجعوا.(تاريخ دمشق) عَنْ نَائِلَةَ بِنْتِ الْفَرَافِصَةَ امْرَأَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَتْ نَعَسَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ فَأَغْفَى فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ لَيَقْتُلَنَّنِى الْقَوْمُ قُلْتُ كَلاَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَبْلُغْ ذَاكَ إِنَّ رَعِيَّتَكَ اسْتَعْتَبُوكَ. قَالَ إِنِّى رَأَيْتُ رَسُو لَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى مَنَامِى وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالُوا « تُفْطِرُ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ». مسند أحمد (546) حسن لغيره وعن شداد الأعمى عن بعض أشياخه من بني راسب قال : كنت أطوف بالبيت فإذا رجل أعمى يطوف بالبيت وهو يقول اللهم اغفر لي وما أراك تفعل قال فقلت أما تتقي الله قال إن لي شأنا آليت أنا وصاحب لي لئن قتل عثمان لنلطمن حر وجهه فدخلنا عليه وإذا رأسه في حجر امرأته ابنة الفرافصة فقال لها صاحبي اكشفي عن وجهه قالت لم قال ألطم حر وجهه فقالت أما ترضى ما قال فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال فيه كذا وقال فيه كذا قال فاستحى صاحبي فرجع فقلت لها اكشفي عن وجهه فقال فذهبت تعدو علي فلطمت وجهه فقالت ما لك يبس الله يدك وأعمى بصرك ولا غفر لك ذنبك قال فوالله ما خرجت من الباب حتى يبست يدي وعمي بصري وما أرى الله يغفر لي ذنبي " تاريخ دمشق - (ج 70 / ص 141) وتُركت جثة عثمان فى مكانها دون أن يجرؤ أحد على تجهيزه ودفنه، فأرسلت إلى حويطب بن عبد العزى وجبير بن مطعم، وأبى جهم بن حذيفة، وحكيم بن حزام، ليُجَهِّزُوا عثمان، فقالوا: لا نقدر أن نخرج به نهارًا. وحين حلّ الظلام خرجوا به بين المغرب والعشاء نحو البقيع، وهى تتقدمهم بسراج ينير لهم وحشة الظلام حتى تم دفنه بعد أن صلَّى عليه جبير بن مطعم وجماعة من المسلمين. ثم قالت ترثيه: ومالى لا أَبْكى وأُبكى قرابتى وقد ذهبتْ عنا فضول أبى عَمْرِو ولم تكتف نائلة بذلك بل أرسلت إلى معاوية بكتاب مرفق معه قميص عثمان ممزقًا مليئًا بالدماء، وعقدت في زر القميص خصلة من شعر لحيته، قطعها أحد قاتليه من ذقنه، وخمسة أصابع من أصابعها المقطوعة. وأوصت إليه أن يعلق كل أولئك فى المسجد الجامع فى دمشق، وأن يقرأ على المجتمعين ذلك الكتاب، وكان بعض ما جاء فيه: إلى معاوية بن أبى سفيان، أما بعد: فإنى أدعوكم إلى اللَّه الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وأنشدكم اللَّه وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم اللَّه عليكم، فإنه قال:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات: 9]. وقد اجتمع لسماعه خمسون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وأصابعها. وعاشت نائلة حافظة لذكرى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وظلتْ وفية له، فلم تتزوج وكانت من أجمل النساء. وكلما جاءها خاطب رَدَّتْه، ولما تقدم معاوية -رضي الله عنه- لخطبتها أَبَتْ، وسألت النساء عما يعجب الخطاب فيها، فقلن: ثناياك (وكانت مليحة وأملح ما فيها ثغرها) فخلعت ثناياها، وأرسلت بهن إلى معاوية، وحين سُئلت عما صنعتْ، قالت: حتى لا يطمع فيَّ الرجال بعد عثمان-رضي الله عنه-. تلك هي "نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص"رمز الشجاعة والصبر والصمود، ذات الأدب والبلاغة والفصاحة، تزوجها عثمان بن عفان-رضي اللَّه عنه- فكانت له زوجة مخلصة وفية ومطيعة، وكان عثمان يستشيرها دائمًا لسداد رأيها، وقد حظيت في بيته بمكانة كبيرة. وقد زوجّها له أخوها ضب، وحملها إلى عثمان في المدينة، وكان مسلمًا وكان أبوها نصرانيَّا، وقد تزوجها عثمان وهي نصرانية، وقبيلتها - قبيلة كلب - كلها يومئذ نصارى. وقد أسلمت نائلة على يديه، وأنجبت له من الولد ثلاثًا: أم خالد، وأروى، وأم أبان الصغرى. وقد روت السيدة نائلة عن عائشة -رضي اللَّه عنها- بعضًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توفيت بعد جهاد عظيم لخدمة الإسلام.
-
المحسنةُ (أم عمارة بنت سفيان) كان بعضُ بائعي اللبن يخلط اللبن بالماء، واشتكى المسلمون من ذلك، فأرسل الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أحد رجاله ينادي فى بائعي اللبن بعدم الغش، فدخل المنادي إلى السوق ونادى: يا بائعي اللبن لا تَشُوبوا اللبن بالماء، فتغُشّوا المسلمين، وإن من يفعل ذلك؛ فسوف يعاقبه أمير المؤمنين عقابًا شديدًا. وذات ليلة خرج عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- مع خادمه أسلم ليتفقد أحوال المسلمين في جوف الليل، وفي أحد الطرق استراح من التجوال بجانب جدار ، فإذا به يسمع امرأة تقول: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه (اخلطيه) بالماء . فقالت الابنة: يا أُمَّتَاه، وما علمتِ ما كان من عَزْمَة أمير المؤمنين اليوم؟! قالت الأم: وما كان من عزمته؟ قالت: إنه أمر مناديًا فنادي: لا يُشَابُ اللبن بالماء. فقالت الأم: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامْذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر. فقالت الصبيّة: واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن كان عمر لا يرانا، فرب أمير المؤمنين يرانا. فلما سمع عمر بن الخطاب ذلك، أعجب بالفتاة لورعها ومراقبتها لله رب العالمين. وقال: يا أسلم، علِّم الباب، واعرف الموضع. ثم مضى. فلما أصبح قال: يا أسلم، امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة؟ ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل (زوج). فذهب أسلم إلى المكان، فوجد امرأة عجوزًا، وابنتها أم عمارة، وعلم أنْ ليس لهما رجل، ثم عاد فأخبر عمر. فدعا عمر أولاده، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوّجه، ولو كان بأبيكم حَركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية. فقال عبد اللَّه بن عمر: لي زوجة. وقال أخوه عبد الرحمن: لي زوجة. وقال ثالثهما عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوِّجني. فبعث إلى الجارية فزوّجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتًا، ولدت هذه البنت ابنة صارت أمَّا لعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس -رضي اللَّه عنه-.إنها أم عمارة بنت سفيان بن عبد اللَّه بن ربيعة الثقفي، التي خَلَّدت اسمَها في التاريخ، بأمانتها وخوفها من اللَّه تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي أكرمها في الدنيا بزواجها من ابن أمير المؤمنين عمر، وجعل من نسلها أميرًا للمؤمنين هو عمر بن عبد العزيز. تاريخ دمشق 70 / 252 -254
-
المحسنةُ (أم عمارة بنت سفيان) كان بعضُ بائعي اللبن يخلط اللبن بالماء، واشتكى المسلمون من ذلك، فأرسل الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أحد رجاله ينادي فى بائعي اللبن بعدم الغش، فدخل المنادي إلى السوق ونادى: يا بائعي اللبن لا تَشُوبوا اللبن بالماء، فتغُشّوا المسلمين، وإن من يفعل ذلك؛ فسوف يعاقبه أمير المؤمنين عقابًا شديدًا. وذات ليلة خرج عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- مع خادمه أسلم ليتفقد أحوال المسلمين في جوف الليل، وفي أحد الطرق استراح من التجوال بجانب جدار ، فإذا به يسمع امرأة تقول: قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه (اخلطيه) بالماء . فقالت الابنة: يا أُمَّتَاه، وما علمتِ ما كان من عَزْمَة أمير المؤمنين اليوم؟! قالت الأم: وما كان من عزمته؟ قالت: إنه أمر مناديًا فنادي: لا يُشَابُ اللبن بالماء. فقالت الأم: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامْذقيه بالماء فإنك في موضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر. فقالت الصبيّة: واللَّه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن كان عمر لا يرانا، فرب أمير المؤمنين يرانا. فلما سمع عمر بن الخطاب ذلك، أعجب بالفتاة لورعها ومراقبتها لله رب العالمين. وقال: يا أسلم، علِّم الباب، واعرف الموضع. ثم مضى. فلما أصبح قال: يا أسلم، امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة؟ ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل (زوج). فذهب أسلم إلى المكان، فوجد امرأة عجوزًا، وابنتها أم عمارة، وعلم أنْ ليس لهما رجل، ثم عاد فأخبر عمر. فدعا عمر أولاده، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوّجه، ولو كان بأبيكم حَركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية. فقال عبد اللَّه بن عمر: لي زوجة. وقال أخوه عبد الرحمن: لي زوجة. وقال ثالثهما عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوِّجني. فبعث إلى الجارية فزوّجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتًا، ولدت هذه البنت ابنة صارت أمَّا لعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس -رضي اللَّه عنه-.إنها أم عمارة بنت سفيان بن عبد اللَّه بن ربيعة الثقفي، التي خَلَّدت اسمَها في التاريخ، بأمانتها وخوفها من اللَّه تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي أكرمها في الدنيا بزواجها من ابن أمير المؤمنين عمر، وجعل من نسلها أميرًا للمؤمنين هو عمر بن عبد العزيز. تاريخ دمشق 70 / 252 -254
-
صاحبةُ الكفنِ (حفصة بنت سيرين) كان ذِكْرُ الموت لايفارقها، فهي تعلم أن الدنيا أيام معدودة، فإذا ذهب يوم فقد ذهب بعضها؛ لذا كانت تتوقع الموت في كل لحظة، حتى روِى أنها كانت تحتفظ بكفن دائم لها هو جزء من ملابسها فإذا حجت وأحرمت لبسته، وإذا جاءت الأيام العشرة الأخيرة من رمضان لبستْه تقيم فيه. إنها حَفْصَة بنت سيرين، المحدِّثة الزاهدة، التي أمضت شبابها في عبادة وتقوى، وكانت تقول: يا معشر الشباب! خذوا من أنفسكم وأنتم شباب، فإنى رأيت العمل فى الشباب. صفة الصفوة 1 / 404 قَرَأَتْ القرآن الكريم، وتدبرتْ معانيه وعمرها اثنتا عشرة سنة، وكان أخوها "محمد بن سيرين" إذا استشكَل عليه شيء من القرآن الكريم قال: اذهبوا إلى حفصة، واسألوها كيف تقرأ؟ واشتهرت حفصة بالزهد، والصبر الجميل على طاعة اللَّه وعبادته، وكانت كثيرة الصيام، طويلة القيام، تدخل مسجدها تصلي فيه، وتتعبد بقراءة القرآن، ولا تخرج من بيتها إلا لحاجة أو لمقابلة من يأتون ليستفتونها، ويتعلمون منها. وكانت محدثِّة جليلة، نشأت في بيت علم، وكان لها ستة إخوة غيرها، كلهم يقرءون القرآن، ويشتغلون بالحديث. وكانت حفصة تحب العلم، وتبذل فى سبيله كل غالٍ ونفيس؛ لأنها تَعْلَم أن العلماء ورثة الأنبياء، كما عُرِفتْ حفصة بشدة تمسكها بتعاليم الإسلام الحقة، وطاعتها للَّه ولرسوله؛ فعَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ قَالَ : كُنَّا نَدْخُلُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ وَقَدْ جَعَلَتِ الْجِلْبَابَ هَكَذَا وَتَنَقَّبَتْ بِهِ فَنَقُولُ لَهَا رَحِمَكِ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (60) سورة النور، هُوَ الْجِلْبَابُ قَالَ فَتَقُولُ لَنَا : أَىُّ شَىْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَنَقُولُ ( وَأَنْ يَسْتَعْفِفنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) فَتَقُولُ هُوَ إِثْبَاتُ الْجِلْبَابِ.السنن الكبرى للبيهقي (13918) صحيح. عن هشام بن حسان. قال كان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصيف فيقشره ويأخذ القصب. فيفلقه قالت حفصة: وكنت أجد قرة فكان إذا جاء الشتاء جاء بالكانون فيضعه خلفي وأنا في مصلاي ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر وذاك القصب المفلق وقوداً لا يؤذي دخانه ويدفئني. نمكث بذلك ما شاء الله. قالت: وعند من يكفيه لو أراد ذلك.قالت: وربما أردت أنصرف إليه فأقول: يا بني ارجع إلى أهلك ثم أذكر ما يريد فأدعه.قالت حفصة: فلما مات رزق الله عليه من الصبر ما شاء أن يرزق غير أني كنت أجد غصة لا تذهب، قالت: فبينا أنا ذات ليلة أقرأ سورة النحل إذ أتيت على هذه الآية "وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) [النحل/95-97] قالت: فأعدتها فأذهب الله ما كنت أجد.قال هشام: وكانت له لقحة. قالت حفصة: كان يبعث إلى بحلبة بالغداة فأقول: يا بني إنك لتعلم أني لا أشربه، أنا صائمة. فيقول: يا أم الهذيل إن أطيب اللبن ما بات في ضروع الإبل، اسقيه من شئت..صفة الصفوة 1 / 404 ولها باع كبير فى رواية الحديث النبوي، فقد رَوَتْ عن أخيها يحيى وعن غيره، وروي عنها الكثير. وتُوُفيت "حفصة" -رضي اللَّه عنها- وهي ابنة تسعين