-
مجموع الأنشطة
2008 -
تاريخ الانضمام
-
آخر نشاط
نوع المحتوي
الاقسام
المدونات
Store
التقويم
التحميلات
مكتبة الصور
المقالات
الأندية
دليل المواقع
الإعلانات
كل منشورات العضو الرسام
-
منها: ما دل عليه أول هذا الحديث من أنه أرسل إلى جهة أخرى لكشفها وكان الالتقاء بعد مضي مكان الميقات.ومنها: أنه قبل توقيت الميقات.والأتان: الأنثى من الحمار وقولهم: (نأكل من لحم صيد ونحن محرمون) ورجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: دليل على أمرين:أحدهما: جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أكلوه باجتهاد.والثاني: وجوب الرجوع إلى النصوص عند تعارض الأشباه والاحتمالات.وقوله صلى الله عليه وسلم: «منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها» فيه دليل على أنهم لو فعلوا ذلك لكان سببا للمنع.وقوله عليه السلام: «فكلوا ما بقي من لحمها» دليل على جواز أكل المحرم لحم الصيد إذا لم يكن من دلالة ولا إشارة وقد اختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد على مذاهب.أحدها: أنه ممنوع مطلقا صيد لأجله أو لا وهذا مذكور عن بعض السلف ودليله: حديث الصعب على ما سنذكره.والثاني: إنه ممنوع إن صاده أو صيد لأجله سواء كان بإذنه أو بغير إذنه وهو مذهب مالك والشافعي.والثالث: إنه إن كان باصطياده أو بإذنه أو بدلالته حرم وإن كان على غير ذلك: لم يحرم.وحديث أبي قتادة- هذا- يدل على جواز أكله في الجملة وهو على خلاف مذهب الأول ويدل ظاهره: على أنه إذا لم يشر المحرم إليه ولا دل عليه: يجوز أكله فإنه ذكر الموانع المانعة من أكله والظاهر: أنه لو كان غيرها مانعا لذكر.وإنما احتج الشافعي على تحريم ما صيد لأجله مطلقا وإن لم يكن بدلالته وإذنه: بأمور أخرى منها: حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لحم الصيد لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم».والذي في الرواية الأخرى: من قوله عليه السلام: «هل معكم منه شيء؟» فيه أمران:أحدهما: تبسط الإنسان إلى صاحبه في طلب مثل هذا.والثاني: زيادة تطييب قلوبهم في موافقتهم في الأكل وقد تقدم لنا قوله عليه السلام: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي» والإشارة إلى أن ذلك لطلب موافقتهم في الحلق فإنه كان أطيب لقلوبهم.2- عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء- أو بودان- فرده عليه فلما رأى ما في وجهي قال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) وفي لفظ لمسلم: «رِجْلُ حِمَارٍ» وفي لفظ: «شق حمار» وفي لفظ: «عجز حمار».ووجه هذا الحديث: أنه ظن أنه صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله.الصعب بالصاد المهملة والعين المهملة أيضا وجثامة بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة وفتح الميم.وقوله: (أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) الأصل: أن يتعدى أهدى بإلى وقد يتعدى باللام ويكون بمعناه وقد يحتمل أن تكون اللام بمعنى أجل وهو ضعيف.وقوله: (حمارا وحشيا) ظاهره: أنه أهداه بجملته وحمل على أنه كان حيا وعليه يدل تبويب البخاري رحمه الله وقيل: إنه تأويل مالك رحمه الله وعلى مقتضاه: يستدل بالحديث على منع وضع المحرم يده على الصيد بطريق التملك بالهدية ويقاس عليها: ما في معناها من البيع.والهبة إلا أنه رد هذا التأويل بالروايات التي ذكرها المصنف عن مسلم من قوله عجز حمار أو شق حمار أو رجل حمار فإنها قوية الدلالة على كون المهدى بعضا وغير حي فيحتمل قوله: (حمارا وحشيا) المجاز وتسمية البعض باسم الكل أو فيه حذف مضاف ولا تبقى فيه دلالة على ما ذكره من تملك الصيد بالهبة على هذا التقدير.وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم»«إنا» الأولى مكسورة الهمزة لأنها ابتدائية والثانية مفتوحة: لأنها حذف منها اللام التي للتعليل وأصله: إلا لأنا.وقوله: «لم نرده» المشهور عند المحدثين: فيه فتح الدال وهو خلاف مذهب المحققين من النحاة ومقتضى مذهب سيبيويه وهم ضم الدال وذلك في كل مضاعف مجزوم أو موقوف اتصل به هاء ضمير المذكر وذلك معلل عندهم بأن الهاء حرف خفي فكأن الواو تالية للدال لعدم الاعتداد بالهاء وما قبل الواو: يضم وعبروا عن ضمتها لما بعدها وهذا بخلاف ضمير المؤنث إذا اتصل بالمضاعف المشدد فإنه يفتح باتفاق وحكى في مثل هذا الأول الموقوف لغتان أخريان إحداهما: الفتح كما يقول المحدثون والثانية: الكسر وأنشد فيه:قال أبو ليلى لحبلى: مده **حتى إذا مددته فشده إن أبا ليلى نسيج وحده وقوله عليه السلام: «إلا أنا حرم» يتمسك به في منع أكل المحرم لحم الصيد مطلقا فإنه علل بمجرد الإحرام والذين أباحوا أكله: لا يكون مجرد الإحرام عندهم علة وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده لأنه صيد لأجله جمعا بينه وبين حديث أبي قتادة والحرم جمع حرام.والأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد وودان فتح الواو وتشديد الدال آخره نون: موضعان معروفان فيما بين مكة والمدينة.ولمسألة أكل المحرم الصيد تعلق بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] وهل المراد بالصيد: نفس الاصطياد أو المصيد؟ وللاستقصاء فيه موضع غير هذا ولكن تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حرم قد يكون إشارة إليه.وفي اعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للصعب: تطييب لقلبه لما عرض له من الكراهة في رد هديته ويؤخذ منه: استحباب مثل ذلك من الاعتذار.وقوله: «فلما رأى ما في وجهي» يريد من الكراهة بسبب الرد..كتاب البيوع: .مدخل: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع».وما في معناه من حديث حكيم بن حزام وهو:2- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا- أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما».الحديث: يتعلق بمسألة إثبات خيار المجلس في البيع وهو يدل عليه وبه قال الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث ونفاه مالك وأبو حنيفة ووافق ابن حبيب- من أصحاب مالك- من أثبته والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عنه والذي يحضرنا الآن من ذلك وجوه:أحدها: أنه حديث خالفه راويه وكل ما كان كذلك: لم يعمل به.أما الأول: فلأن مالكا رواه ولم يقل به.وأما الثاني: فلأن الراوي إذا خالف فإما أن يكون مع علمه بالصحة فيكون فاسقا فلا تقبل روايته وإما أن يكون لا مع علمه بالصحة فهو أعلم بعلل ما روى فيتبع في ذلك.وأجيب عن ذلك بوجهين:أحدهما: منع المقدمة الثانية وهو أن الراوي إذا خالف لم يعمل بروايته وقوله إذا كان مع علمه بالصحة كان فاسقا ممنوع لجواز أن يعلم بالصحة ويخالف لمعارض راجح عنده ولا يلزم تقليده فيه وقوله إن كان لا مع علمه بالصحة وهو أعلم بروايته فيتبع في ذلك ممنوع أيضا لأنه إذا ثبت الحديث بعدالة النقلة وجب العمل به ظاهرا فلا يترك بمجرد الوهم والاحتمال.الوجه الثاني: أن هذا الحديث مروي من طرق فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية مالك لم يتعذر من جهة أخرى وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ- أعني أن مخالفة الراوي لروايته تقدم في العمل بها- فإنه على هذا التقدير: يتوقف العمل برواية مالك ولا يلزم من بطلان مأخذ معين بطلان مأخذ الحكم في نفس الأمر.الوجه الثاني من الاعتذارات: أن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وخبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول فهذا غير مقبول.أما الأول: لأن البياعات مما تتكرر مرات لا تحصى ومثل هذا تعم البلوى بمعرفة حكمه وأما الثاني: فلأن العادة تقتضي أن ما عمت به البلوى يكون معلوما عند الكافة فانفراد الواحد به على خلاف العادة فيرد.وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.أما الأولى- وهو أن البيع بما تعم به البلوى- فالبيع كذلك ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ وليس الفسخ مما تعم به البلوى في البياعات فإن الظاهر من الإقدام على البيع: الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه فالحاجة إلى معرفة حكم الفسخ لا تكون عامة.وأما الثانية: فلأن المعتمد في الرواية على عدالة الراوي وجزمه بالرواية وقد وجد ذلك وعدم نيل غيره لا يصلح معارضا لجواز عدم سماعه للحكم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين وعلى تقدير السماع: فجائز أن يعرض مانع من النقل أعني نقل غير هذا الراوي فإنما يكون ما ذكر إذا اقتضت العادة أن لا يخفى الشيء عن أهل التواتر وليست الأحكام الجزئية من هذا القبيل.الوجه الثالث من الاعتذارات: هذا حديث مخالف للقياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها وما كان كذلك لا يعمل به.أما الأول: فنعني بمخالف الأصول القياسية: ما ثبت الحكم في أصله قطعا وثبت كون الفرع في معنى المنصوص لم يخالف إلا فيما يعلم عروة عن مصلحة تصلح أن تكون مقصودة بشرع الحكم وهاهنا كذلك فإن منع الغير من إبطال حق الغير: ثابت بعد التفرق قطعا وما قبل التفرق في معناه لم يفترقا إلا فيما يقطع بتعريه عن المصلحة.وأما الثاني: فلأن القاطع مقدم على المظنون لا محالة وخبر الواحد مظنون وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.أما الأولى: فلا نسلم عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما لا يعتبر من المصالح وذلك لأن البيع يقع بغتة من غير ترو وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه فيناسب إثبات الخيار لكل.واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته الخيار لكل واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته مطلقا فيما بعد التفرق وقبله فإنه رفع لحكمة العقد والوثوق بالتصرف فجعل مجلس العقد حريما لاعتبار هذه المصلحة وهذا معنى معتبر لا يستوي فيه ما قبل التفرق مع ما بعده.وأما الثانية: فلا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يرد فإن الأصل يثبت بالنصوص والنصوص ثابتة في الفروع المعينة وغاية ما في الباب أن يكون الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها أو تعبدا فيجب اتباعه.الوجه الرابع من الاعتذارات: هذا حديث معارض لإجماع أهل المدينة وعملهم وما كان كذلك يقدم عليه العمل فهذا يقدم عليه العمل.أما الأول: فلأن مالكا قال عقيب روايته وليس لهذا عندنا حد معلوم ولا أمر معمول به فيه.وأما الثاني: فلما اختص به أهل المدينة من سكناهم في مهبط الوحي ووفاة الرسول بين أظهرهم ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ فمخالفتهم لبعض الأخبار تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل به من ناسخ أو دليل راجح ولا تهمة تلحقهم فيتعين اتباعهم وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعملهم.وجوابه من وجهين:أحدهما: منع المقدمة الأولى وهو كون المسألة من إجماع أهل المدينة وبيانه من ثلاثة أوجه:منها: أنا تأملنا لفظ مالك فلم نجده مصرحا بأن المسألة إجماع أهل المدينة ويعرف ذلك بالنظر في ألفاظه.ومنها: أن هذا الإجماع إما أن يراد به إجماع سابق أو لاحق والأول باطل لأن ابن عمر رأس المفتين في المدينة في وقته وقد كان يرى إثبات خيار المجلس.والثاني: أيضا باطل فإن ابن أبي ذئب- من أقران مالك ومعاصريه- وقد أغلظ على مالك لما بلغه مخالفته للحديث.
-
وثانيهما: منع المقدمة الثانية وهو أن إجماع أهل المدينة وعملهم مقدم على خبر الواحد مطلقا فإن الحق الذي لا شك فيه: أن عملهم وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم ولا مستند للعصمة سواه وكيف يمكن أن يقال: بأن من كان بالمدينة من الصحابة رضوان الله عليهم يقبل خلافه باعتبار صفات قائمة به حيث حل فتفرض المسألة فيما اختلف فيه أهل المدينة مع بعض من خرج منها من الصحابة بعد استقرار الوحي وموت الرسول صلى الله عليه وسلم فكل ما قيل من ترجيح لأقوال علماء أهل المدينة وما اجتمع لهم من الأوصاف قد كان حاصلا لهذا الصحابي ولم يزل عنه بخروجه وقد خرج من المدينة أفضل أهل زمانه في ذلك الوقت بالإجماع من أهل السنة وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال أقوالا بالعراق فكيف يمكن إهدارها إذا خالفها أهل المدينة؟ وهو كان رأسهم وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه ومحله من العلم معلوم وغيرهما قد خرجوا وقالوا أقوالا على أن بعض الناس يقول: إن المسائل المختلف فيها خارج المدينة مختلف فيها بالمدينة وادعى العموم في ذلك.الوجه الخامس: ورد في بعض الروايات للحديث: «ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله» فاستدل بهذه الزيادة على عدم ثبوت خيار المجلس من حيث إنه لولا أن العقد لازم لما احتاج إلى الاستقالة ولا طلب الفرار من الاستقالة.وأجيب عنه: بأن المراد بالاستقالة: فسخ البيع بحكم الخيار وغاية ما في الباب: استعمال المجاز في لفظ الاستقالة لكن جاز المصير إليه إذا دل الدليل عليه وقد دل من وجهين.أحدهما: أنه علق ذلك على التفرق فإذا حملناه على خيار الفسخ صح تعليقه على التفرق لأن الخيار يرتفع بالتفرق وإذا حملناه على الاستقالة فالاستقالة لا تتوقف على التفرق ولا اختصاص لها بالمجلس.الثاني: أنا إذا حملناه على خيار الفسخ فالتفرق مبطل له قهرا فيناسب المنع من التفرق المبطل للخيار على صاحبه أما إذا حملناه على الإقالة الحقيقة: فمعلوم أنه لا يحرم على الرجل أن يفارق صاحبه خوف الاستقالة ولا يبقى بعد ذلك إلى النظر فيما دل عليه الحديث من التحريم.الوجه السادس: تأويل الحديث بحمل المتبايعين على المتساومين لمصير حالهما إلى البيع وحمل الحمار على خيار القبول.وأجيب عنه: بأن تسمية المتساومين متبايعين مجاز.واعترض على هذا الجواب: بأن تسميتهما متبايعين بعد الفراغ من البيع مجاز أيضا فلم فلتم: إن الحمل على هذا المجاز أولى؟ فقيل عليه: إنه إذا صدر البيع فقد وجدت الحقيقة فهذا المجاز أقرب إلى الحقيقة من مجاز لم توجد حقيقته أصلا عند إطلاقه وهو الحمل على المتساومين.الوجه السابع: حمل التفرق على التفرق بالأقوال وقد عهد ذلك شرعا قال الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَ} [النساء: 130] أي عن النكاح.وأجيب عنه: بأنه خلاف الظاهر فإن السابق إلى الفهم: التفرق عن المكان وأيضا فقد ورد في بعض الروايات: «ما لم يتفرقا عن مكانهما» وذلك صريح في المقصود.وربما اعترض على الأول بأن حقيقة التفرق: لا تختص بالمكان بل هي عائدة إلى ما كان الاجتماع فيه وإذا كان الاجتماع في الأقوال: كان التفرق فيها وإن كان في غيرها: كان التفرق عنه.وأجيب عنه: بأن حمله على غير المكان بقرينة: يكون مجازا.الوجه الثامن: قال بعضهم: تعذر المكان بظاهر الحديث فإنه أثبت الخيار لكل واحد من المتبايعين على صاحبه فالحال لا تخلوا: إما أن يتفقا في الاختيار أو يختلفا فإن اتفقا لم يثبت لواحد منهما على صاحبه خيار وإن اختلفا- بأن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمضاء- فقد استحال أن يثبت على كل واحد منهما لصاحبه الخيار إذ الجمع بين الفسخ والإمضاء مستحيل فيلزم تأويل الحديث ولا نحتاج إليه ويكفينا صدكم عن الاستدلال بالظاهر.وأجيب عنه بأن قيل: لم يثبت صلى الله عليه وسلم مطلق الخيار بل أثبت الخيار وسكت عما فيه الخيار فنحن نحمله على خيار الفسخ فيثبت لكل واحد منهما خيار الفسخ على صاحبه وإن أبي صاحبه ذلك.الوجه التاسع: ادعاء أنه حديث منسوخ إما لأن علماء المدينة أجمعوا على عدم ثبوت خيار المجلس وذلك يدل على النسخ وإما لحديث اختلاف المتبايعين فإنه يقتضي الحاجة إلى اليمينين وذلك يستلزم لزوم العقد فإنه لو ثبت الخيار لكان كافيا في رفع العقد عند الاختلاف وهو ضعيف جدا.أما النسخ لأجل عمل أهل المدينة: فقد تكلمنا عليه والنسخ لا يثبت بالاحتمال ومجرد المخالفة لا يلزم منه أن يكون للنسخ لجواز أيكون التقديم لدليل آخر راجح في ظنهم عند تعارض الأدلة عندهم.وأما حديث اختلاف المتبايعين فالاستدلال به ضعيف جدا لأنه مطلق أو عام بالنسبة إلى زمن التفرق وزمن المجلس فيحمل على ما بعد التفرق ولا حاجة إلى النسخ والنسخ ولا يصار إليه إلا عند الضرورة.الوجه العاشر: حمل الخيار على خيار الشراء أو خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو المثمن وإذا تردد لم يتعين حمله على ما ذكرتموه.وأجيب عنه: بأن حمله على خيار الفسخ أولى لوجهين:أحدهما: أن لفظة الخيار قد عهد استعمالها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيار الفسخ كما في حديث حبان بن منقذ: «ولك الخيار» بالمراد منه خيار الفسخ وحديث المصراة: «فهو بالخيار ثلاثا» والمراد خيار الفسخ فيحمل الخيار المذكور هاهنا عليه لأنه لما كان معهودا من النبي صلى الله عليه وسلم كان أظهر في الإرادة.الثاني: قيام المانع من إرادة كل واحد من الخيارين أما خيار الشراء: لأن المراد من اسم المتبايعين المتعاقدان والمتعاقدان: من صدر منهما العقد وبعد صدور العقد منهما لا يكون لهما خيار الشراء فضلا عن أن يكون لهما ذلك إلى أوان التفرق.وأما خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو بالمثمن: فلا يمكن الحمل عليه عند من يرى ثبوته مطلقا أو عدمه مطلقا لأن ذلك الخيار: إن لم يكن لهما فلا يكون لهما إلى أوان التفرق وإن كان: فيبقى بعد التفرق عن المجلس فكيفما كان لا يكون ذلك الخيار لهما ثابتا مغيا إلى غاية التفرق والخيار المثبت بالنص ههنا: هو خيار مغيا إلى غاية التفرق ثم الدليل على أن المراد من الخيار هذا ومن المتبايعين ما ذكر: أن مالكا نسب إلى مخالفة الحديث وذلك لايصح إلا إذا حمل الخيار والمتبايعان والافتراق على ما ذكر هكذا قال بعض النظار إلا إنه ضعيف فإن نسبة مالك إلى ذلك ليست من كل الأمة ولا أكثرهم..باب ما نهى عنه في البيوع: 1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن المنابذة- وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه- ونهى عن الملامسة والملامسة: لمس الثوب ولا ينظر إليه».اتفق الناس على منع هذين البيعين واختلفوا في تفسير الملامسة فقيل: هي أن يجعل اللمس بيعا بأن يقول: إذا لمست ثوبي فهو مبيع منك بكذا وكذا وهذا باطل للتعليق في الصيغة وعدوله عن الصيغة الموضوعة للبيع شرعا وقد قيل: هذا من صور المعاطاة وقيل: تفسيرها أن يبيعه على أنه إذا لمس الثوب فقد وجب البيع وانقطع الخيار وهو أيضا فاسد بالشرط الفاسد وفسره الشافعي رحمه الله: بأن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه الراغب ويقول صاحب الثوب: بعتك هذا بشرط أن يقوم لمسك مقام النظر وهذا فاسد إن أبطلنا بيع الغائب وكذا إن صححناه لإقامة اللمس مقام النظر وقيل يتخرج على نفي شرط الخيار.وأما لفظ الحديث الذي ذكره المصنف فإنه يقتضي أن جهة الفساد: عدم النظر والتقليب وقد يستدل به من يمنع بيع الأعيان الغائبة عملا بالعلة ومن يشترط الوصف في بيع الأعيان الغائبة لا يكون الحديث دليلا عليه لأنه هاهنا لم يذكر وصفا.وأما المنابذة فقد ذكر في الحديث: «أنها طرح الرجل ثوبه لا ينظر إليه» والكلام في هذا التعليل كما تقدم.واعلم أن في كلا الموضعين يحتاج إلى الفرق بين المعاطاة وبين هاتين الصورتين فإذا علل بعدم الرؤية المشروطة: فالفرق ظاهر وإذا فسر بأمر لا يعود إلى ذلك: احتيج حينئذ إلى الفرق بينه وبين مسألة المعاطاة عند من يجيزها.2- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولاتصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر» وفي لفظ: «هو بالخيار ثلاثا».تلقي الركبان من البيوع المنهي عنها لما يتعلق به من الضرر وهو أن يتلقى طائفة يحملون متاعا فيشتريه منهم قبل أن يقدموا البلد فيعرفوا الأسعار.والكلام فيه في ثلاثة مواضع:أحدها: التحريم فإن كان عالما بالنهي قاصدا للتلقي: فهو حرام وإن خرج لشغل آخر فرآهم مقبلين فاشتري: ففي إثمه وجهان للشافعية أظهرهما: التأثيم.الموضوع الثاني: صحة البيع أو فساده وهو عند الشافعي: صحيح وإن كان آثما وعند غيره من العلماء: يبطل ومستنده: أن النهي للفساد ومستند الشافعي: أن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان وذلك لا يقدح في نفس البيع.الموضع: الثالث: إثبات الخيار فحيث لا غرور للركبان بحيث يكونون عالمين بالسعر فلا خيار وإن لم يكونوا كذلك فان اشترى منهم بأرخص من السعر فلهم الخيار وما في لفظ بعض المصنفين من: «أنه يخبرهم بالسعر كاذبا» ليس بشرط في إثبات الخيار وإن اشترى منهم بمثل سعر البلد أو أكثر ففي ثبوت الخيار لهم وجهان للشافعية منهم من نظر إلى لفظ حديث ورد بإثبات الخيار لهم فجرى على ظاهره ولم يلتفت إلى المعنى وإذا أثبتنا الخيار: فهل يكون على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي والأظهر: الأول.وأما قوله: «ولا يبع بعضكم على بيع بعض» فقد فسر في مذهب الشافعي بأن يشتري شيئا فيدعوه غيره إلى الفسخ ليبيعه خيرا منه بأرخص وفي معناه: الشراء على الشراء وهو أن يدعوا البائع إلى الفسخ ليشتريه منه بأكثر وهاتان الصورتان إنما تتصوران فيما إذا كان البيع في حالة الجواز وقبل اللزوم وتصرف بعض الفقهاء في هذا النهي وخصصه بما إذا لم يكن في الصورة غبن فاحش فإن كان المشتري مغبونا فيدعوه إلى الفسخ ويشتريه منه أكثر.ومن الفقهاء من فسر البيع على البائع بالسوم على السوم وهو أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له إنسان رده لأبيع منك خيرا منه وأرخص أو يقول لصاحبه: استرده لأشتريه منك بأكثر وللتحريم في ذلك عند أصحاب الشافعي شرطان:أحدهما: استقرار الثمن فأما من يباع فيمن يزيد: فللطالب أن يزيد على الطالب ويدخل عليه.والثاني: أن يحصل التراضي بين المتساومين صريحا فإن وجد ما يدل على الرضا من غير تصريح: فوجهان وليس السكوت بمجرده من دلائل الرضا عند الأكثرين منهم.وأما قوله: «ولا تناجشوا» فهو من المنهيات لأجل الضرر وهو أن يزيد في سلعة تباع ليغر غيره وهو راغب فيها واختلف في اشتقاق اللفظة فقيل: إنها مأخوذة من معنى الإثارة كأن الناجش يثير همة من يسمعه للزيادة وكأنه مأخوذ من إثارة الوحش من مكان إلى مكان وقيل: أصل اللفظة: مدح الشيء وإطراؤه ولا شك أن هذا الفعل حرام لما فيه من الخديعة وقال بعض الفقهاء: بأن البيع باطل ومذهب الشافعي: أن البيع صحيح وأما إثبات الخيار للمشتري الذي غر بالنجش: فإن لم يكن النجش عن مواطاة من البائع فلا خيار عند أصحاب الشافعي.وأما: «بيع الحاضر للبادي» فمن البيوع المنهي عنها لأجل الضرر أيضا وصورته: أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه ويرجع فيأتيه البلدي فيقول: ضع عندي لأبيعه على التدريج بزيادة سعر وذلك إضرار بأهل البلد وحرام إن علم بالنهي وتصرف بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي في ذلك فقالوا: شرطه أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد فإن لم يظهر- لكثرته في البلد أو لقلة الطعام المجلوب-: ففي التحريم وجهان ينظر في أحدهما: إلى ظاهر اللفظ وفي الآخر: إلى المعنى وعدم الإضرار وتفويت الربح أو الرزق على الناس وهذا المعنى منتف وقالوا أيضا: يشترط أن يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه دون ما لا يحتاج إليه إلا نادرا وأن يدعوا البلدي البدوي إلى ذلك فإن التمسه البدوي منه فلا بأس ولو استشاره البدوي فهل يرشده إلى الادخار والبيع على التدريج؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي.
-
وأما الاعتراض الرابع: فإنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكمه وهاهنا هذه الصورة انفردت عن غيرها لأن الغالب: أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الخلقة المجتمع بأصل الخلفة المجتمع بأصل الخلقة واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب.وأما الاعتراض الخامس: فقد قيل فيه: إن الخبر وارد على العادة والعادة: أن لا تباع شاة بصاع وفي هذا ضعف وقيل: إن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم الجمع بين العضو والمعوض.وأما الاعتراض السادس: فقد قيل في الجواب عنه: إن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقاتلا في هذا العقد لجاز أن يفترقا قبل القبض.وأما الاعتراض السابع: فجوابه فيما قيل: إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وأحدهما للبائع والآخر للمشتري وتعذر الرد لا يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو عصب عبدا فأبق فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد.وأما الاعتراض الثامن: فقيل فيه: إن الخيار يثبت بالتدليس كما لو باع رحا دائرة بماء قد جمعه لها ولم يعلم به.وأما المقام الثاني- وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد- فقيل فيه: إن خبر الواحد أصل بنفسه يجب اعتباره لأن الذي أوجب اعتبار الأصول: نص صاحب الشرع عليها وهو موجود في خبر الواحد فيجب اعتباره وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا: فتناول الأصل لمحل خبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محل الخبر من ذلك الأصل.وعندي: أن التمس بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول.ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الاعتذار عن الحديث وهي ادعاء النسخ وأنه يجوز أن يكون ذلك من حيث كانت العقوبة بالمال جائزة وهو ضعيف فإنه إثبات نسخ بالاحتمال والتقدير وهو غير سائغ ومنهم من قال: يحمل الحديث على ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلا وشرط الخيار فالشرط باطل فاسد فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد وإن لم يتفقا بطل وأما رد الصاع: فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت.وأجيب عنه: بأن الحديث يقتضي تعليق الحكم بالتصرية وما ذكر يقتضي تعليقه بفساد الشرط سواء أحدث التصرية أم لا.3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع حبل الحبلة وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها.قيل: إنه كان يبيع الشارف- وهي الكبيرة المسنة- بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته».في تفسير حبل الحبلة وجهان:أحدهما: أن يبيع إلى أن تحمل الناقة وتضع ثم يحمل هذا البطن الثاني وهذا باطل لأنه يبيع إلى أجل مجهول.والثاني: أن يبيع نتاج النتاج وهو باطل أيضا لأنه بيع معدوم وهذا البيع كانت الجاهلية تتبايعه فأبطله الشارع للمفسدة المتعلقة به وهو ما بيناه من أحد الوجهين وكأن السر فيه: أنه يفضي إلى أكل المال بالباطل أو إلى التشاجر والتنازع المتنافي للمصلحة الكلية.4- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول صلى الله عليه وسم: «نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع».أكثر الأمة على أن هذا النهي: نهي تحريم والفقهاء أخرجوا من هذا العموم: بيعها بشرط القطع واختلفوا في بيعها مطلقا من غير شرط ولا إبقاء ولمن يمنعه أن يستدل بهذا الحديث فإنه إذا خرج من عمومه بيعها بشرط القطع يدخل باقي صور البيع تحت النهي ومن جملة صور البيع: بيع الإطلاع وممن قال بالمنع فيه: مالك والشافعي.وقوله: «نهى البائع والمشتري» تأكيد لما فيه من بيان أن البيع- وإن كان لمصلحة الإنسان- فليس له أن يرتكب النهي فيه قائلا: أسقطت حقي من اعتبار المصلحة ألا ترى أن هذا المنع لأجل مصلحة المشتري؟ فإن الثمار قبل بدو الصلاح معرضة للعاهات فإذا طرأ عليها شيء منها حصل الإجحاف بالمشتري في الثمن لأذي بذله ومع هذا: فقد منعه الشرع ونهى المشتري كما نهى البائع وكأنه قطع النزاع والتخاصم ومثل هذا في المعنى: حديث أنس الذي بعده.5- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الثمار حتى تزهي» قيل: وما تزهي؟ قال«حتى تحمر», قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه؟».والإزهاء: تغير لون الثمرة في حالة الطيب والعلة- والله أعلم- ما ذكرناه من تعرضها للجوائح قبل الإزهاء وقد أشار في هذه الرواية بقوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت إن منع الله الثمرة بما يستحل أحدكم مال أخيه؟» والحديث يدل على أنه يكتفى بمسمى الإزهاء وابتدائه من غير اشتراط تكامله لأنه جعل مسمى الإزهاء غاية للنهي وبأوله يحصل المسمى ويحتمل أن يستدل به على العكس لأن الثمرة المبيعة قبل الإزهاء- أعني ما لم يزه من الحائط- إذا دخل تحت اسم الثمرة فيمتنع بيعه قبل الإزهاء فإن قال بهذا أحد فله أن يستدل بذلك.وفيه دليل على أن زهو بعض الثمرة كاف في جواز البيع من حيث إنه ينطلق عليها أنها أزهت بعضها مع حصول المعنى وهو الأمن من العاهة غالبا ولولا وجود المعنى كان تسميتها مزهية بإزهاء بعضها: قد لا يكتفي به لكونه مجازا وقد يستدل بقوله عليه السلام: «أرأيت إن منع الله الثمرة بما يأخذ أحدكم مال أخي؟» على وضع الجوائح كما جاء في حديث آخر.6- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد.قال: فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارا.وقد تقدم الكلام في النهي عن تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي وتفسيرهما والذي زاد هذا الحديث: تفسير بيع الحاضر للبادي وفسر بأن يكون له سمسارا.7- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما: أن يبيعه بزبيب كيلا أو كان زرعا: أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله.المزابنة مأخوذة من الزبن وهو الدفع وحقيقتها: بيع معلوم بمجهول من جنسه وقد ذكر في الحديث لها أمثلة من بيع الثمر بالتمر ومن بيع الكرم بالزبيب ومن بيع الزرع بكيل الطعام وإنما سميت مزابنة من معنى الزبن لما يقع من الاختلاف بين المتبايعين فكل واحد يدفع صاحبه عما يرومه منه.8- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة والمحاقلة وعن المزابنة وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وأن لا تباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا.المحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة.9- عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن).اختلفوا في بيع الكلب المعلم فمن يرى نجاسة الكلب- وهو الشافعي- يمنع من بيعه مطلقا لأن على المنع قائمة في العلم وغيره ومن يرى بطهارته: اختلفوا في بيع المعلم منه لأن علة المنع غير عامة عند هؤلاء وقد ورد في بيع المعلم منه حديث في ثبوته بحث يحال على علم الحديث.وأما مهر البغي فهو ما يعطاها على الزنا.وسمى مهرا على سبيل المجاز أو استعمالا للوضع اللغوي ويجوز أن يكون من مجاز التشبيه إن لم يكن المهر في الوضع: ما يقابل النكاح.وحلوان الكاهن هو ما يعطاه على كهانته والإجماع قائم على تحريم هذين لما في ذلك من بذل الأعواض فيما لا يجوز مقابلته بالعوض أما الزنا: فظاهر وأما الكهانة: فبطلانها وأخذ العوض عنها: من باب أكل المال بالباطل وفي معناها كل ما يمنع منه الشرع من الرجم بالغيب.10- عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث».إطلاق الخبيث على ثمن الكلب يقتضي التعميم في كل كلب فإن ثبت تخصيص شيء منه وإلا وجب إجراؤه على ظاهره والخبيث من حيث هو: لا يدل على الحرمة صريحا ولذلك جاء في كسب الحجام أنه خبيث ولم يحمل على التحريم غير أن ذلك بدليل خارج وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: «احتجم وأعطى الحجام أجره2 ولو كان حراما لم يعطه» فإن ثبت أن لفظة الخبث ظاهرة في الحرام فخروجها عن ذلك في كسب الحجام بدليل: لا يلزم منه خروجها في غيره بغير دليل.وأما الكلب فإذا قيل بثبوت الحديث الذي يدل على جواز بيع كلب الصيد: كان ذلك دليلا على طهارته وليس يدل النهي عن بيعه على نجاسته لأن علة منع البيع: متعددة لا تنحصر في النجاسة..باب العرايا وغير ذلك: 1- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية: أن يبيعها بخرصها).ولمسلم: «بخرصها تمرا يأكلونها رطبا».اختلفوا في تفسير العرية المرخص فيها فعند الشافعي: هو بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله من التمر خرصا فيما دون خمسة أوسق وعند مالك صورته: أن يعري الرجل- أي يهب- ثمرة نخلة أو نخلات ثم يتضرر بمداخلة الموهوب له فيشتريها منه بخصرها تمرا ولا يجوز ذلك لغير رب البستان ويشهد لهذا التأويل أمران:أحدهما: أن العرية مشهورة بين أهل المدينة متداولة فيما بينهم وقد نقلها مالك هكذا.والثاني: قوله لصاحب العربية فإنه يشعر باختصاصه بصفة يتميز بها عن غيره وهي الهبة الواقعة وأنشدوا في تفسير العرايا بالهبة قول الشاعر:وليست بسنهاء ولا رجبية ** ولكن عرايا في السنين الجوائح وقوله في الحديث بخرصها في هذه الرواية تقيد بغيرها وهو بيعها بخرصها تمرا.وقد يستدل بإطلاق هذه الرواية لمن يجوز بيع الرطب على النخل بالرطب على النخل خرصا فيهما وبالرطب على وجه الأرض كيلا وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي والأصح: المنع لأن الرخصة وردت للحاجة إلى تحصيل الرطب وهذه الحاجة لا توجد في حق صاحب الرطب وفيه وجه ثالث: أنه اختلف النوعان جاز لأنه قد يزيد ذلك النوع وإلا فلا ولو باع رطبا على وجه الأرض برطب على وجه الأرض: لم يجز وجها واحدا لأن أحد المعاني في الرخصة أن يأكل الرطب على التدريج طريا وهذا المقصود لا يحصل فيما على وجه الأرض وقد يستدل بإطلاق الحديث من لا يرى اختصاص جواز بيع العرايا لمحاويج الناس.وفي مذهب الشافعي وجه: أنه يختص بهم لحديث ورد عن زيد بن ثابت فيه: أنه سمى رجلا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلونه مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر.2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق».أما تجويز بيع العرايا: فقد تقدم وأما حديث أبي هريرة: فإنه زاد فيه بيان مقدار ما تجوز فيه الرخصة وهو ما دون الخمسة أوسق.ولم يختلف قول الشافعي في أنه لا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق وأنه يجوز فيما دونها وفي خمسة الأوسق قولان والقدر الجائز: إنما يعتبر بالصفقة إن كانت واحدة: اعتبرنا ما زاد على الخمسة فمنعنا وما دونها فأجزنا أما لو كانت صفقات متعددة: فلا منع ولو باع في صفقة واحدة من رجلين ما يكون لكل واحد منهما القدر الجائز: جاز ولو باع رجلان من واحد: فكذلك الحكم في اصح الوجهين لأن تعدد الصفقة بتعدد البائع أظهر من تعددها بتعدد المشتري.
-
وفيه وجه آخر أنه لا تجوز الزيادة على خمسة أوسق في هذه الصورة نظرا إلى مشتري.الرطب لأنه محل الرخصة الخارجة عن قياس الربويات فلا ينبغي أن يدخل في ملكه فوق القدر المجوز دفعة واحدة.واعلم أن الظاهر من الحديث: أن يحمل على صفقة واحدة من غير نظر إلى تعدد بائع ومشتر جريا على العادة والغالب.3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع».ولمسلم: «ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع».يقال: أبرت النخلة ابرها وقد يقال بالتشديد والتأبير هو التلقيح وهو أن يشقق أكمه إناث النخل ويذر طلع الذكر فيها ولا يلقح جميع النخيل بل يؤبر البعض ويشقق الباقي بانبثاث ريح الفحول إليه الذي يحصل منه تشقق الطلع وإذا باع الشجرة بعد التأبير فالثمرة للبائع في صورة الإطلاق وقيل: إن بعضهم خالف في هذا وقال تبقى الثمار للبائع أبرت أو لم تؤبر وأما إذا اشترطاها للبائع أو للمشتري: فالشرط متبع.وقوله: «من باع نخلا قد أبرت» حقيقته: اعتبار التأبير في المبيع حقيقة بنفسه وقد أجرى تأبير البعض مجرى تأبير الجميع إذا كان في بستان واحد واتحد النوع وباعها صفقة واحدة وجعل ذلك كالنخلة الواحدة وإن اختلف النوع ففيه وجهان لأصحاب الشافعي وقيل: إن الأصح أن الكل يبقى للبائع كما لو اتحد النوع دفعا لضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.وقد يؤخذ من الحديث: أنه إذا باع ما لم يؤبر مفردا بالعقد بعد تأبيره غيره في البستان: أنه يكون للمشتري لأنه ليس في المبيع شيء مؤبر فيقتضي مفهوم الحديث: أنها ليست للبائع وهذا أصح وجهي الشافعية وكأنه إنما يعتبر عدم التأبير إذا بيع مع المؤبر فيجعل تبعا وفي هذه الصورة ليس هاهنا في المبيع شيئ مؤبر فيجعل غيره تبعا له.وأدخل من هذه الصورة في الحديث ما إذا كان التأبير وعدمه في بستانين مختلفين والأصح هاهنا أن كل واحد منهما ينفرد بحكمه.أما أولا: فلظاهر الحديث.وأما ثانيا: فلأن لاختلاف البقاع تأثيرا في التأبير ولأن في البستان الواحد يلزم ضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.وقوله: «من ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» يستدل به المالكية على أن العبد يملك لإضافة المال إليه باللام وهي ظاهرة في الملك.4- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» وفي لفظ: «حتى يقبضه» وعن ابن عباس مثله.هذا نص في منع بيع الطعام قبل أن يستوفى ومالك خصص الحكم به إذا كان فيه حق التوفية على ما دل عليه الحديث ولا يختص ذلك عند الشافعي بالطعام بل جمي المبيعات لا يجوز بيعها قبل قبضها عنده سواء كانت عقارا أو غيره وأبو حنيفة يجيز بيع العقار قبل القبض ويمنع غيره.وهذا الحديث يقتضي أمرين:أحدهما أن تكون صورة المنع فيما إذا كان الطعام مملوكا بجهة البيع.والثاني: أن يكون الممنوع هو البيع قبل القبض.أما الأول: فقد أخرج عنه ما إذا كان مملوكا بجهة الهبة أو الصدقة مثلا.وأما الثاني: فقد تكلم أصحاب الشافعي في جواز التصرف بعقود غير البيع منها: العتق قبل القبض والأصح: أنه ينفذ إذ لم يكن للبائع حق الحبس بأن أدى المشتري الثمن أو كان مؤجلا فإن كان له حق الحبس فقيل: هو كعتق الراهن وقيل: لا والصحيح: أنه لا فرق.وكذا اختلفوا في الهبة والرهن قبل القبض والأصح عند أصحاب الشافعي: المنع وكذلك في التزويج خلاف والأصح عند أصحاب الشافعي: خلافه ولا يجوز عندهم التولية والشركة وأجازهما مالك مع الإقالة ولا شك أن الشركة والتولية بيع فيدخلان تحت الحديث وإنما استثنى ذلك مالك على خلاف القياس وقد ذكر أصحابه فيها حديثا يقتضي الرخصة الله أعلم.5- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يارسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: «لا هو حرام», ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» قال جملوه أذابوه.أخذ من تحريم بيع الخمر والميتة: نجاستهما لأن الانتفاع بهما لم يعدم فإنه قد ينتفع بالخمر في أمور وينتفع بالميتة في إطعام الجوارح.وأما بيع الأصنام: فلعدم الانتفاع بها على صورتها وعدم الانتفاع يمنع صحة البيع وقد يكون منع بيعها مبالغة في التنفير عنها.وأما قولهم: «أرأيت شحوم الميتة..» الخ فقد استدل به على منع الاستصباح بها وإطلاء السفن بقوله عليه السلام لما سئل عن ذلك؟ قال: «لا هو حرام» وفي هذا الاستدلال احتمال لأن لفظ الحديث ليس فيه تصريح فإنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تحريم بيع الميتة قالوا له: (أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن) الخ قصدا منهم لأن هذه المنافع تقتضي جواز البيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هو حرام» ويعود الضمير في قوله هو على البيع كأنه أعاد تحريم البيع بعدما بين له فيه منفعة إهدارا لتلك المصالح والمنافع التي ذكرت.وقوله عليه السلام: «قاتل الله اليهود...» الخ تنبيه على تعليل تحريم بيع هذه الأشياء فإن العلة تحريمها فإن وجه اللوم على اليهود في تحريم أكل الثمن بتحريم أكل الشحوم استدل المالكية بهذا على تحريم الذرائع من حيث إن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه لكنه لما كان تسببا إلى أكل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم به..باب السلم: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار: السنة والسنتين والثلاث فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كليل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم».فيه دليل على جواز السلم في الجملة وهو متفق عليه لا خلاف فيه بين الأمة وفيه دليل على جواز السلم فيما ينقطع في أثناء المدة إذا كان موجودا عند المحل فإنه إذا أسلم في الثمرة السنة والسنتين فلا محالة ينقطع في أثناء المدة إذا حملت الثمرة على الرطب.وقوله عليه السلام: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم» أي إذا كان المسلم فيه مكيلان وقوله: «ووزن معلوم» أي إذا كان معلوما والواو هاهنا بمعنى أو فإنا لو أخذناها على ظاهرها- من معنى الجمع- لزم أن يجمع في الشيء الواحد بين المسلم فيه كيلا ووزنا وذلك يفضي إلى عزة.الوجود وهو مانع من صحة السلم فتعين أن تحمل على ما ذكرناه من التفصيل وأن المعنى: السلم بالكيل في المكيل وبالوزن في الموزون.وأما قوله عليه السلام: «إلى أجل معلوم» فقد استدل به من منع السلم الحال وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وهذا يوجه الأمر في قوله: «فليسلف» إلى الأجل والعلم معا والذين أجازوا الحال وجهوا الأمر إلى العلم فقط ويكون التقدير: إن أسلم إلى أجل فليسم إلى أجل معلوم لا إلى أجل مجهول كما أشرنا إليه في الكيل والوزن والله أعلم..باب الشروط في البيع: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم وولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني عرضت ذلك على أهلي فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق» ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق».قد أكثر الناس من الكلام على هذا الحديث وأفردوا التصنيف في الكلام عليه وما يتعلق بفوائده وبلغوا بها عددا كثيرا ونذكر من ذلك عيونا إن شاء الله تعالى.والكلام عليه من وجوه:أحدها: كاتبت فاعلت من الكتابة وهو العقد المشهور بين السيد وعبده فإما أن يكون مأخوذا من كتابة الخط لما أنه يصحب هذا العقد الكتابة له فيما بين السيد وعبده وإما أن يكون مأخوذا من معنى الإلزام كما في قوله تعالى: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء والعبد ألزم نفسه الأداء للمال الذي تكاتبا عليه.الثاني: اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب: المنع والجواز والفرق بين أن يشتري للعتق فيجوز أو للاستخدام فلا.فأما من أجاز بيعه فاستدل بهذا الحديث فإنه ثبت أن بريرة كانت مكاتبة وأما من منع فيحتاج إلى العذر عنه فمن العذر عنه ما قيل إنه يجوز بيعه عند العجز عن الأداء أو الضعف عن الكسب فقد يحمل الحديث على ذلك.ومن الاعتذارات أن تكون عائشة اشترت الكتابة لا الرقبة وقد استدل على ذلك بقولها في بعض الروايات: «فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك» فإنه يشعر بأن المشتري هو الكتابة لا الرقبة ومن فرق بين شرائه للعتق وغيره فلا إشكال عنده لأنه يقول أنا أجيز بيعه للعتق والحديث موافق لما أقول.الثالث: بيع العبد بشرط العتق اختلفوا فيه وللشافعي قولان:أحدهما: أنه باطل كما لو باعه بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه وهو باطل.والثاني: وهو الصحيح: أن العقد صحيح لهذا الحديث.ومن منع بيع العبد بشرط العتق فقد قيل إنه يمنع كون عائشة مشترية للرقبة ويحمل على قضاء الكتابة عن بريرة أو على شراء الكتابة خاصة والأول ضعيف مخالف للفظ الوارد في بعض الروايات وهو قوله عليه السلام: «ابتاعي» وأما الثاني: فإنه محتاج فيه إلى أن يكون قد قيل بمنع البيع بشرط العتق مع جواز بيع الكتابة ويكون قد ذهب إلى الجمع بين هذين ذاهب واحد معين وهذا يستمد من مسألة إحداث القول الثالث.الرابع: إذا قلنا بصحة البيع بشرط العتق فهل يصح الشرط أو يفسد؟ فيه قولان للشافعي أصحهما: أن الشرط يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر إلا اشتراط الولاء والعقد تضمن أمرين اشتراط العتق واشتراط الولاء ولم يقع الإنكار إلا للثاني فيبقى الأول مقررا عليه ويؤخذ من لفظ الحديث فإن قوله: «اشترطي لهم الولاء» من ضرورة اشتراط العتق فيكون من لوازم اللفظ لا من مجرد التقرير ومعنى صحة الشرط أنه يلزم الوفاء به من جهة المشتري فإن امتنع فهل يجبر عليه أم لا؟ فيه اختلاف بين أصحاب الشافعي وإذا قلنا لا يجبر أثبتنا الخيار للبائع.الخامس: اشتراط الولاء للبائع هل يفسد العقد؟ فيه خلاف وظاهر الحديث أنه لا يفسده لما قال فيه: «واشترطي لهم الولاء» ولا يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عقد باطل وإذا قلنا إنه صحيح فهل يصح الشرط؟ فيه اختلاف في مذهب الشافعي والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث وسياقه وموافق للقياس أيضا من وجه وهو أن القياس يقتضي أن الأثر مختص بمن صدر منه السبب والولاء من آثار العتق فيختص بمن صدر منه العتق وهو المعتق وهذا.التمسك والتوجيه في حصة البيع والشرط يتعلق بالكلام على معنى قوله: «واشترطي لهم الولاء» وسيأتي.السادس: الكلام على الإشكال العظيم في هذا الحديث وهو أن يقال: كيف يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن حتى يقع البيع على هذا الشرط فيدخل البائع عليه ثم يبطل اشتراطه؟.فاختلف الناس في الكلام على هذا الإشكال فمنهم من صعب عليه فأنكر هذه اللفظة أعني قوله: «واشترطي لهم الولاء» وقد نقل ذلك عن يحيى بن أكثم وبلغني عن الشافعي قريب منه وأنه قال: اشتراط الولاء رواه هشام بن عروة عن أبيه وانفرد به دون غيره من رواة هذا الحديث وغيره من رواته أثبت من هشام والأكثرون على إثبات اللفظة للثقة براويها واختلفوا في التأويل والتخريج وذكر فيه وجوه.
-
وفيه وجه آخر أنه لا تجوز الزيادة على خمسة أوسق في هذه الصورة نظرا إلى مشتري.الرطب لأنه محل الرخصة الخارجة عن قياس الربويات فلا ينبغي أن يدخل في ملكه فوق القدر المجوز دفعة واحدة.واعلم أن الظاهر من الحديث: أن يحمل على صفقة واحدة من غير نظر إلى تعدد بائع ومشتر جريا على العادة والغالب.3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع».ولمسلم: «ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع».يقال: أبرت النخلة ابرها وقد يقال بالتشديد والتأبير هو التلقيح وهو أن يشقق أكمه إناث النخل ويذر طلع الذكر فيها ولا يلقح جميع النخيل بل يؤبر البعض ويشقق الباقي بانبثاث ريح الفحول إليه الذي يحصل منه تشقق الطلع وإذا باع الشجرة بعد التأبير فالثمرة للبائع في صورة الإطلاق وقيل: إن بعضهم خالف في هذا وقال تبقى الثمار للبائع أبرت أو لم تؤبر وأما إذا اشترطاها للبائع أو للمشتري: فالشرط متبع.وقوله: «من باع نخلا قد أبرت» حقيقته: اعتبار التأبير في المبيع حقيقة بنفسه وقد أجرى تأبير البعض مجرى تأبير الجميع إذا كان في بستان واحد واتحد النوع وباعها صفقة واحدة وجعل ذلك كالنخلة الواحدة وإن اختلف النوع ففيه وجهان لأصحاب الشافعي وقيل: إن الأصح أن الكل يبقى للبائع كما لو اتحد النوع دفعا لضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.وقد يؤخذ من الحديث: أنه إذا باع ما لم يؤبر مفردا بالعقد بعد تأبيره غيره في البستان: أنه يكون للمشتري لأنه ليس في المبيع شيء مؤبر فيقتضي مفهوم الحديث: أنها ليست للبائع وهذا أصح وجهي الشافعية وكأنه إنما يعتبر عدم التأبير إذا بيع مع المؤبر فيجعل تبعا وفي هذه الصورة ليس هاهنا في المبيع شيئ مؤبر فيجعل غيره تبعا له.وأدخل من هذه الصورة في الحديث ما إذا كان التأبير وعدمه في بستانين مختلفين والأصح هاهنا أن كل واحد منهما ينفرد بحكمه.أما أولا: فلظاهر الحديث.وأما ثانيا: فلأن لاختلاف البقاع تأثيرا في التأبير ولأن في البستان الواحد يلزم ضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.وقوله: «من ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» يستدل به المالكية على أن العبد يملك لإضافة المال إليه باللام وهي ظاهرة في الملك.4- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» وفي لفظ: «حتى يقبضه» وعن ابن عباس مثله.هذا نص في منع بيع الطعام قبل أن يستوفى ومالك خصص الحكم به إذا كان فيه حق التوفية على ما دل عليه الحديث ولا يختص ذلك عند الشافعي بالطعام بل جمي المبيعات لا يجوز بيعها قبل قبضها عنده سواء كانت عقارا أو غيره وأبو حنيفة يجيز بيع العقار قبل القبض ويمنع غيره.وهذا الحديث يقتضي أمرين:أحدهما أن تكون صورة المنع فيما إذا كان الطعام مملوكا بجهة البيع.والثاني: أن يكون الممنوع هو البيع قبل القبض.أما الأول: فقد أخرج عنه ما إذا كان مملوكا بجهة الهبة أو الصدقة مثلا.وأما الثاني: فقد تكلم أصحاب الشافعي في جواز التصرف بعقود غير البيع منها: العتق قبل القبض والأصح: أنه ينفذ إذ لم يكن للبائع حق الحبس بأن أدى المشتري الثمن أو كان مؤجلا فإن كان له حق الحبس فقيل: هو كعتق الراهن وقيل: لا والصحيح: أنه لا فرق.وكذا اختلفوا في الهبة والرهن قبل القبض والأصح عند أصحاب الشافعي: المنع وكذلك في التزويج خلاف والأصح عند أصحاب الشافعي: خلافه ولا يجوز عندهم التولية والشركة وأجازهما مالك مع الإقالة ولا شك أن الشركة والتولية بيع فيدخلان تحت الحديث وإنما استثنى ذلك مالك على خلاف القياس وقد ذكر أصحابه فيها حديثا يقتضي الرخصة الله أعلم.5- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يارسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: «لا هو حرام», ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» قال جملوه أذابوه.أخذ من تحريم بيع الخمر والميتة: نجاستهما لأن الانتفاع بهما لم يعدم فإنه قد ينتفع بالخمر في أمور وينتفع بالميتة في إطعام الجوارح.وأما بيع الأصنام: فلعدم الانتفاع بها على صورتها وعدم الانتفاع يمنع صحة البيع وقد يكون منع بيعها مبالغة في التنفير عنها.وأما قولهم: «أرأيت شحوم الميتة..» الخ فقد استدل به على منع الاستصباح بها وإطلاء السفن بقوله عليه السلام لما سئل عن ذلك؟ قال: «لا هو حرام» وفي هذا الاستدلال احتمال لأن لفظ الحديث ليس فيه تصريح فإنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تحريم بيع الميتة قالوا له: (أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن) الخ قصدا منهم لأن هذه المنافع تقتضي جواز البيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هو حرام» ويعود الضمير في قوله هو على البيع كأنه أعاد تحريم البيع بعدما بين له فيه منفعة إهدارا لتلك المصالح والمنافع التي ذكرت.وقوله عليه السلام: «قاتل الله اليهود...» الخ تنبيه على تعليل تحريم بيع هذه الأشياء فإن العلة تحريمها فإن وجه اللوم على اليهود في تحريم أكل الثمن بتحريم أكل الشحوم استدل المالكية بهذا على تحريم الذرائع من حيث إن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه لكنه لما كان تسببا إلى أكل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم به..باب السلم: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار: السنة والسنتين والثلاث فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كليل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم».فيه دليل على جواز السلم في الجملة وهو متفق عليه لا خلاف فيه بين الأمة وفيه دليل على جواز السلم فيما ينقطع في أثناء المدة إذا كان موجودا عند المحل فإنه إذا أسلم في الثمرة السنة والسنتين فلا محالة ينقطع في أثناء المدة إذا حملت الثمرة على الرطب.وقوله عليه السلام: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم» أي إذا كان المسلم فيه مكيلان وقوله: «ووزن معلوم» أي إذا كان معلوما والواو هاهنا بمعنى أو فإنا لو أخذناها على ظاهرها- من معنى الجمع- لزم أن يجمع في الشيء الواحد بين المسلم فيه كيلا ووزنا وذلك يفضي إلى عزة.الوجود وهو مانع من صحة السلم فتعين أن تحمل على ما ذكرناه من التفصيل وأن المعنى: السلم بالكيل في المكيل وبالوزن في الموزون.وأما قوله عليه السلام: «إلى أجل معلوم» فقد استدل به من منع السلم الحال وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وهذا يوجه الأمر في قوله: «فليسلف» إلى الأجل والعلم معا والذين أجازوا الحال وجهوا الأمر إلى العلم فقط ويكون التقدير: إن أسلم إلى أجل فليسم إلى أجل معلوم لا إلى أجل مجهول كما أشرنا إليه في الكيل والوزن والله أعلم..باب الشروط في البيع: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم وولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني عرضت ذلك على أهلي فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق» ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق».قد أكثر الناس من الكلام على هذا الحديث وأفردوا التصنيف في الكلام عليه وما يتعلق بفوائده وبلغوا بها عددا كثيرا ونذكر من ذلك عيونا إن شاء الله تعالى.والكلام عليه من وجوه:أحدها: كاتبت فاعلت من الكتابة وهو العقد المشهور بين السيد وعبده فإما أن يكون مأخوذا من كتابة الخط لما أنه يصحب هذا العقد الكتابة له فيما بين السيد وعبده وإما أن يكون مأخوذا من معنى الإلزام كما في قوله تعالى: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء والعبد ألزم نفسه الأداء للمال الذي تكاتبا عليه.الثاني: اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب: المنع والجواز والفرق بين أن يشتري للعتق فيجوز أو للاستخدام فلا.فأما من أجاز بيعه فاستدل بهذا الحديث فإنه ثبت أن بريرة كانت مكاتبة وأما من منع فيحتاج إلى العذر عنه فمن العذر عنه ما قيل إنه يجوز بيعه عند العجز عن الأداء أو الضعف عن الكسب فقد يحمل الحديث على ذلك.ومن الاعتذارات أن تكون عائشة اشترت الكتابة لا الرقبة وقد استدل على ذلك بقولها في بعض الروايات: «فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك» فإنه يشعر بأن المشتري هو الكتابة لا الرقبة ومن فرق بين شرائه للعتق وغيره فلا إشكال عنده لأنه يقول أنا أجيز بيعه للعتق والحديث موافق لما أقول.الثالث: بيع العبد بشرط العتق اختلفوا فيه وللشافعي قولان:أحدهما: أنه باطل كما لو باعه بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه وهو باطل.والثاني: وهو الصحيح: أن العقد صحيح لهذا الحديث.ومن منع بيع العبد بشرط العتق فقد قيل إنه يمنع كون عائشة مشترية للرقبة ويحمل على قضاء الكتابة عن بريرة أو على شراء الكتابة خاصة والأول ضعيف مخالف للفظ الوارد في بعض الروايات وهو قوله عليه السلام: «ابتاعي» وأما الثاني: فإنه محتاج فيه إلى أن يكون قد قيل بمنع البيع بشرط العتق مع جواز بيع الكتابة ويكون قد ذهب إلى الجمع بين هذين ذاهب واحد معين وهذا يستمد من مسألة إحداث القول الثالث.الرابع: إذا قلنا بصحة البيع بشرط العتق فهل يصح الشرط أو يفسد؟ فيه قولان للشافعي أصحهما: أن الشرط يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر إلا اشتراط الولاء والعقد تضمن أمرين اشتراط العتق واشتراط الولاء ولم يقع الإنكار إلا للثاني فيبقى الأول مقررا عليه ويؤخذ من لفظ الحديث فإن قوله: «اشترطي لهم الولاء» من ضرورة اشتراط العتق فيكون من لوازم اللفظ لا من مجرد التقرير ومعنى صحة الشرط أنه يلزم الوفاء به من جهة المشتري فإن امتنع فهل يجبر عليه أم لا؟ فيه اختلاف بين أصحاب الشافعي وإذا قلنا لا يجبر أثبتنا الخيار للبائع.الخامس: اشتراط الولاء للبائع هل يفسد العقد؟ فيه خلاف وظاهر الحديث أنه لا يفسده لما قال فيه: «واشترطي لهم الولاء» ولا يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عقد باطل وإذا قلنا إنه صحيح فهل يصح الشرط؟ فيه اختلاف في مذهب الشافعي والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث وسياقه وموافق للقياس أيضا من وجه وهو أن القياس يقتضي أن الأثر مختص بمن صدر منه السبب والولاء من آثار العتق فيختص بمن صدر منه العتق وهو المعتق وهذا.التمسك والتوجيه في حصة البيع والشرط يتعلق بالكلام على معنى قوله: «واشترطي لهم الولاء» وسيأتي.السادس: الكلام على الإشكال العظيم في هذا الحديث وهو أن يقال: كيف يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن حتى يقع البيع على هذا الشرط فيدخل البائع عليه ثم يبطل اشتراطه؟.فاختلف الناس في الكلام على هذا الإشكال فمنهم من صعب عليه فأنكر هذه اللفظة أعني قوله: «واشترطي لهم الولاء» وقد نقل ذلك عن يحيى بن أكثم وبلغني عن الشافعي قريب منه وأنه قال: اشتراط الولاء رواه هشام بن عروة عن أبيه وانفرد به دون غيره من رواة هذا الحديث وغيره من رواته أثبت من هشام والأكثرون على إثبات اللفظة للثقة براويها واختلفوا في التأويل والتخريج وذكر فيه وجوه.
-
أحدها: أن لهم بمعنى عليهم واستشهدوا لذلك بقوله تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] بمعنى عليهم: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7] بمعنى عليها وفي هذا ضعف.أما أولا: فلأن سياق الحديث وكثيرا من ألفاظه ينفيه وأما ثانيا: فلأن اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع بل تدل على مطلق الاختصاص فقد يكون في اللفظ ما يدل على الاختصاص النافع وقد لا يكون.وثانيهما: ما فهمته من كلام بعض المتأخرين وتلخيصه أن يكون هذا الاشتراط بمعنى ترك المخالفة لما شرطه البائعون وعدم إظهاره النزاع فيما دعوا إليه وقد يعبر عن التخلية والترك بصيغة تدل على الفعل ألا ترى أنه قد أطلق لفظ الإذن من الله تعالى على التمكين من الفعل والتخلية بين العبد وبينه وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي الإباحة والتجويز؟ وهذا موجود في كتاب الله تعالى على ما يذكره المفسرون كما في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] وليس المراد بالإذن هاهنا إباحة الله تعالى للإضرار بالسحر ولكنه لما خلى بينهم وبين ذلك الإضرار أطلق عليه لفظة الإذن مجازا وهذا وإن كان محتملا إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة ظاهرة على المجاز من حيث اللفظ.وثالثهما: أن لفظة الاشتراط والشرط وما تصرف منها تدل على الإعلام والإظهار ومنه أشراط الساعة والشرط اللغوي والشرعي ومنه قول أويس بن حجر بفتح الحاء والجيم «فأشرط فيها نفسه» أي أعلمها وأظهرها وإذا كان كذلك فيحمل «اشترطي» على معنى: أظهري حكم الولاء وبينيه واعلمي أنه لمن أعتق على عكس ما أورده السائل وفهمه من الحديث.ورابعها: ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أخبرهم: «أن الولاء لمن أعتق» ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه فورد هذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ والتنكيل لمخالفتهم الحكم الشرعي وغاية ما في الباب: إخراج لفظة الأمر عن ظاهرها وقد وردت خارجة عن ظاهرها في مواضع يمتنع إجراؤها على ظاهرها كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وعلى هذا الوجه والتقدير الذي ذكر لا يبقى غرور.وخامسها: أن يكون إبطال هذا الشرط عقوبة لمخالفتهم حكم الشرع فإن إبطال الشرط يقتضي تغريم ما قوبل به الشرط من المالية المسامح بها لأجل الشرط ويكون هذا من باب العقوبة بالمال كحرمان القاتل الميراث.وسادسها: أن يكون ذلك خاصا بهذه القضية لا عاما في سائر الصور ويكون سبب التخصيص بإبطال هذا الشرط: المبالغة في زجرهم عن هذا الاشتراط المخالف للشرع كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الواقعة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج وهذا الوجه ذكره بعض أصحاب الشافعي وجعله بعض المتأخرين منهم الأصح في تأويل الحديث.الوجه السابع: من الكلام على الحديث يدل على أن كلمة «إنما» للحصر لأنها لو لم تكن للحصر لما لزم من إثبات الولاء لمن أعتق نفيه عمن لم يعتق لكن هذه الكلمة ذكرت في الحديث لبيان نفيه عمن لم يعتق فدل على أن مقتضاها الحصر.الوجه الثامن: لا خلاف في ثبوت الولاء للمعتق عن نفسه بالحديث المذكور واختلفوا فيمن أعتق على أن لا ولاء له وهو المسمى بالسائبة ومذهب الشافعي بطلان هذا الشرط وثبوت الولاء للمعتق والحديث يتمسك به في ذلك.الوجه التاسع: قالوا: يدل على ثبوت الولاء في سائر وجوه العتق كالكتابة والتعليق بالصفة وغير ذلك.الوجه العاشر: يقتضي حصر الولاء للمعتق ويستلزم حصر السببية في العتق فيقتضي ذلك أن لا ولاء بالحلف ولا بالموالاة ولا بإسلام الرجل على يد الرجل ولا بالتقاطه للقيط وكل هذه الصور فيها خلاف بين الفقهاء ومذهب الشافعي أن لا ولاء في شيء منها للحديث.الحادي عشر: الحديث دليل على جواز الكتابة وجواز كتابة الأمة المزوجة.الثاني عشر: فيه دليل على تنجيم الكتابة لقولها: (كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية) وليس فيه تعرض للكتابة الحالة فيتكلم عليه.الثالث عشر: قوله عليه السلام: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟» يحتمل أن يريد بكتاب الله حكم الله أو يراد بذلك نفي كونها في كتاب الله بواسطة أو بغير واسطة فإن الشريعة كلها في كتاب الله إما بغير واسطة كالمنصوصات في القرآن من الأحكام وإما بواسطة قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] و{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59].وقوله صلى الله عليه وسلم: «قضاء الله أحق» أي بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الشرع و(شرط الله أوثق) أي باتباع حدوده وفي هذا اللفظ دليل على جواز السجع الغير المتكلف.2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه كان يسير على جمل فأعيى فأراد أن يسيبه فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله ثم قال: «بعنيه بأوقية» قلت: لا, ثم قال: «بعنيه» فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في إثري فقال: «أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك».في الحديث علم من أعلام النبوة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأما بيعه واستثناء حملانه إلى المدينة فقد أجاز مالك مثله في المدة اليسيرة وظاهر مذهب الشافعي المنع وقيل: بالجواز تفريعا على جواز بيع الدار المستأجرة فإن المنفعة تكون مستثناه ومذهب الشافعي الأول والذي يعتذر به عن الحديث على هذا المذهب أن لا يجعل استثناؤه على حقيقة الشرط في العقد بل على سبيل تبرع الرسول صلى الله عليه وسلم بالجمل عليه أو يكون الشرط سابقا على العقد والشروط المفسدة ما تكون مقارنة للعقد وممزوجة به على ظاهر مذهب الشافعي وقد أشار بعض الناس إلى أن اختلاف الرواة في ألفاظ الحديث مما يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب فإن بعض الألفاظ صريح في الاشتراط وبعضها لا فيقول: إذا اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج.فنقول: هذا صحيح لكن بشرط تكافؤ الروايات أو تقاربها أما إذا كان الترجيح واقعا لبعضها إما لأن رواته أكثر أو أحفظ فينبغي العمل بها إذ الأضعف لا يكون مانعا من العمل بالأقوى والمرجوح لا يدفع التمسك بالراجح فتمسك بهذا الأصل فإنه نافع في مواضع عديدة.منها: أن المحدثين يعللون الحديث بالاضطراب ويجمعون الروايات العديدة فيقوم في الذهن منها صورة توجب التضعيف والواجب أن ينظر إلى تلك الطرق فما كان منها ضعيفا.اسقط عن درجة الاعتبار ولم يجعل مانعا من التمسك بالصحيح القوي ولتمام هذا موضع آخر ومذهب مالك وإن قال بظاهر الحديث فهو يخصصه باستثناء الزمن اليسير وربما قيل: إنه ورد ما يقتضي ذلك.وقد يؤخذ من الحديث جواز بيع الدار المستأجرة بأن يجعل هذا الاستثناء المذكور في الحديث أصلا ويجعل بيع الدار المستأجرة مساويا له في المعنى فيثبت الحكم إلا أن في كون مثل هذا معدودا فيما يؤخذ من الحديث وفائدة من فوائده نظرا.3- عن أبي هريرة رضي لله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها).أما النهي عن بيع الحاضر للبادي والنجش وبيع الرجل على بيع أخيه: فقد مر الكلام عليه.وأما النهي عن الخطبة فقد تصرف في إطلاقه الفقهاء بوجهين.أحدهما: أنهم خصوه بحالة التراكن والتوافق بين الخاطب والمخطوب إليه وتصدى نظرهم بعد ذلك فيما به يحصل تحريم الخطبة وذكروا أمورا لا تستنبط من الحديث وأما الخطبة قبل التراكن فلا تمتنع نظرا إلى المعنى الذي لأجله حرمت الخطبة وهو وقوع العداوة والبغضاء وإيحاش النفوس.الوجه الثاني: وهو للمالكية أن ذلك في المتقاربين أما إذا كان الخاطب الأول فاسقا والآخر صالحا فلا تندرج تحت النهي ومذهب الشافعي رحمه الله: أنه إذا ارتكب النهي وخطب على خطبة أخيه لم يفسد العقد ولم يفسخ لأن النهي مجانب لأجل وقوع العداوة والبغضاء وذلك لا يعود على أركان العقد وشروطه بالاختلال ومثل هذا لا يقتضي فساد العقد.وأما نهي المرأة عن سؤال طلاق أختها فقد استعمل فيه ألفاظ مجازية فجعل طلاق المرأة بعقد النكاح بمثابة تفريغ الصحفة بعد امتلائها وفيه معنى آخر وهو الإشارة إلى الرزق لما يوجبه النكاح من النفقة فإن الصحفة وملأها من باب الأرزاق وكفاؤها قلبها..باب الربا والصرف: 1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء1 والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء».الحديث يدخل على وجوب الحلول وتحريم النساء في بيع الذهب بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير إلا هاء وهاء واللفظة موضوعة للتقابض وهي ممدودة مفتوحة وقد أنشد بعض أهل اللغة في ذلك:لما رأت في قامتي انحناء ** والمشي بعد قعس أجناء أجلت وكان حبها إجلاء ** وجعلت نصف غبوقي ماء تمزج لي من بغضها السقاء ** ثم تقول من بعيد هاء دحرجة إن شئت أو إلقاء ** ثم تمنى أن يكون داء لا يجعل الله له شفاء ثم اختلف العلماء بعد ذلك ف الشافعي يعتبر الحلول والتقابض في المجلس فإذا حصل ذلك لم يعتبر غيره ولا يضر عنده طول المجلس إذا وقع العقد حالا وشدد مالك أكثر من هذا ولم يسامح بالطول في المجلس وإن وقع القبض فيه وهو أقرب إلى حقيقة اللفظ فيه والأول أدخل في المجاز وهذا الشرط لا يختص باتحاد الجنس بل إذا جمع المبيعين علة واحدة كالنقدية في الذهب والفضة والطعم في الأشياء الأربعة أو غيره مما قيل به اقتضى ذلك تحريم النساء وقد اشتمل الحديث على الأمرين معا حيث منع ذلك بين الذهب بالورق وبين البر بالبر والشعير بالشعير فإن هذين في الجنس الواحد والأول في جنسين جمعتهما علة واحدة.2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وفي لفظ: «إلا يدا بيد» وفي لفظ: «إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء».في الحديث أمران:أحدهما: تحريم التفاضل في الأموال الربوية عند اتحاد الجنس ونصفه في الذهب بالذهب من قوله: «إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض».الثاني: تحريم النساء من قوله: «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وبقية الأموال الربوية ما كان منها منصوصا عليه في غير هذا الحديث أخذ فيه بالنص وما لا قاسه القائسون.وقوله: «إلا يدا بيد» في الرواية الأخرى: يقتضي منع النساء.وقوله: «وزنا بوزن» يقتضي اعتبار التساوي ويوجب أن يكون التساوي في هذا بالوزن لا بالكيل والفقهاء قرروا أنه يجب التماثل بمعيار الشرع فما كان موزونا فبالوزن وما كان مكيلا فبالكيل.3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى رسول الله بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا؟» قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به».هو نص في تحريم ربا الفضل في التمر وجمهور الأمة على ذلك وكان ابن عباس يخالف ربا الفضل وكلم في ذلك فقيل: إنه رجع عنه وأخذ قوم من الحديث: تجويز الذرائع من حيث قوله: «بع التمر ببيع آخر ثم اشتر به» فإنه أجاز بيعه والشراء على الإطلاق ولم يفصل بين أن يبيعه ممن باعه أو من غيره ولا بين أن يقصد التوصل إلى شراء الأكثر أو لا.
-
والمانعون من الذرائع يجيبون بأنه مطلق لا عام فيحمل على بيعه من غير البائع أو على غير الصورة التي يمنعونها فإن المطلق يكتفي في العمل به بصورة واحدة وفي هذا الجواب نظر لأنا نفرق بين العمل بالمطلق فعلا كما إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه يصدق بالدخول مرة واحدة وبين العمل بالمطلق حملا على المقيد فإنه يخرج اللفظ من الإطلاق إلى التقييد.وفيه دليل على أن التفاضل في الصفات لا اعتبار به في تجويز الزيادة.قوله: «ببيع آخر» يحتمل أن يريد به بمبيع آخر ويراد به التمر ويحتمل أن يراد بيع على صفة أخرى على معنى زيادة الباء كأنه قال: بعه بيعا آخر ويقوي الأول قوله: «ثم اشتر به».4- عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف؟ فكل واحد يقول: هذا خير مني وكلاهما يقول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا».في الحديث دليل على التواضع والاعتراف بحقوق الأكابر وهو نص في تحريم ربا النسيئة فيما ذكر فيه- وهو الذهب بالورق- لاجتماعهما في علة واحدة وهي النقدية وكذلك الأجناس الأربعة أعني البر وما ذكر معه باجتماعهما في علة واحدة أخرى فلا يباع بعضها ببعض نسيئة والواجب فيما يمنع النساء أمران:أحدهما: التناجز في البيع أعني أن لا يكون مؤجلا.والثاني: التقابض في المجلس وهو الذي يؤخذ من قوله: «يدا بيد».5- عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا قال: فسأله رجل فقال: يدا بيد؟ فقال: هكذا سمعت».قوله: «نشتري الذهب بالفضة كيف شئنا» يعني بالنسبة إلى الحلول والتأجيل وقد ورد ذلك مبينا في حديث آخر حيث قيل: «فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد»..باب الرهن وغيره: 1- عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعا من حديد».اللفظة مأخوذة من الحبس والإقامة رهن بالمكان إذا أقام به.والحديث دليل على جواز الرهن مع ما نطق به الكتاب العزيز ودليل على جواز معاملة الكفار وعدم اعتبار الفساد في معاملاتهم ووقع في غير هذه الرواية ما استدل به على جواز الرهن في الحصر.وفيه دليل على جواز الشراء بالثمن المؤخر قبل قبضه لأن الرهن إنما يحتاج إليه حيث لا يتأتى الإقباض في الحال غالبا وقد يستدل به على جواز الشراء لمن لا يقدر على الثمن في وقته لما ذكرناه.2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع».فيه دليل على تحريم المطل بالحق ولا خلاف فيه مع القدرة بعد الطلب واختلفوا في مذهب الشافعي هل يجب الأداء مع القدرة من غير طلب صاحب الحق؟ وذكر فيه وجهان ولا ينبغي أن يؤخذ الوجوب من الحديث لأن لفظة المطل تشعر بتقديم الطلب فيكون مأخذ الوجوب دليلا آخر.وقوله: «الغني» يخرج عن العاجز الأداء.وقوله: «فإذا أتبع» مضموم الهمزة ساكن التاء مكسور الباء.وقوله: «فليتبع» مفتوح الياء ساكن التاء مفتوح الباء الموحدة مأخوذ من قولنا: أتبعت فلانا: جعلته تابعا للغير والمراد هاهنا تبعيته في طلب الحق بالحوالة.وقد قال الظاهرية بوجوب قبول الحوالة على المليء لظاهر الأمر وجمهور الفقهاء على أنه أمر ندب لما فيه من الإحسان إلى المحيل بتحصيل مقصوده من تحويل الحق عنه وترك تكليفه التحصيل بالطلب.وفي الحديث إشعار بأن الأمر بقبول الحوالة على المليء معلل بكون مطل الغني ظلما ولعل السبب فيه أنه إذا تعين كونه ظلما والظاهر من حال المسلم الاحتراز عنه فيكون ذلك سببا للأمر بقبول الحوالة عليه لحصول المقصود منه من غير ضرر المطل ويحتمل أن يكون ذلك لأن المليء لا يتعذر استيفاء الحق منه عند الامتناع بل يأخذه الحكم قهرا ويوفيه ففي قبول الحوالة عليه: تحصيل الغرض من غير مفسدة تواء الحق والمعنى الأول أرجح لما فيه من بقاء معنى التعليل بكون المطل ظلما وعلى هذا المعنى الثاني تكون العلة عدم تواء الحق لا الظلم.3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره».فيه مسائل:الأولى: رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن بالفلس أو الموت فيه ثلاثة مذاهب:الأول: أنه لا يرجع إليه في الموت الفلس وهذا مذهب الشافعي.والثاني: أنه لا يرجع إليه لا في الموت ولا في الفلس وهو مذهب أبي حنيفة.والثالث: يرجع إليه في الفلس دون الموت ويكون في الموت أسوة الغرماء وهو مذهب مالك.وهذا الحديث دليل على الرجوع في الفلس ودلالته قوية جدا حتى قيل: إنه لا تأويل له وقال الاصطخري من أصحاب الشافعي لو قضى القاضي بخلافه نقض حكمه.ورأيت في تأويله وجهين ضعفين:أحدهما أن يحمل على الغضب والوديعة لما فيه من اعتبار حقيقة المالية وهو ضعيف جدا لأنه يبطل فائدة تعليل الحكم بالفلس.الثاني: أن يحمل على ما قبل القبض وقد استضعف بقوله صلى الله عليه وسلم: «أدرك ماله أو وجد متاعه» فإن ذلك يقتضي إمكان العقد وذلك بعد خروج السلعة من يده.المسألة الثانية: الذي يسبق إلى الفهم من الحديث أن الرجل المدرك هاهنا هو البائع وأن الحكم يتناول البيع لكن اللفظ أعم من أن يحمل على البائع فيمكن أن يدخل تحته ما إذا أقرض رجل مالا وأفلس المستقرض والمال باق فإن المقرض يرجع فيه وقد علله الفقهاء بالقياس على المبيع بعد التفريع على أنه يملك بالقبض وقيل في القياس: مملوك ببدل تعذر تحصيله فأشبه المبيع وإدراجه تحت اللفظ ممكن إذا اعتبرناه من حيث الوضع فلا حاجة إلى القياس فيه.المسألة الثالثة: لابد في الحديث من إضمار أمور يحمل عليها وإن لم تذكر لفظا مثل: كون الثمن غير مقبوض ومثل: كون السلعة موجودة عند المشتري دون غيره ومثل: كون المال لا يفي بالديون احترازا عما إذا كان مساويا وقلنا: يحجر على المفلس في هذه الصورة.المسألة الرابعة: إذا أجر دارا أو دابة فأفلس المستأجر قبل تسليم الأجرة ومضي المدة فللمؤجر الفسخ على الصحيح من مذهب الشافعي وإدراجه تحت لفظ الحديث متوقف على أن المنافع هل ينطلق عليها اسم المتاع أو المال؟ وانطلاق اسم المال عليها أقوى.وقد علل منع الرجوع: بأن المنافع لا تتنزل منزلة الأعيان القائمة إذ ليس لها وجود مستقر فإذا ثبت انطلاق اسم المال أو المتاع عليها فقد اندرجت تحت اللفظ وإن نوزع في ذلك فالطريق أن يقال: إن اقتضى الحديث أن يكون أحق بالعين ومن لوازم ذلك: الرجوع في المنافع فيثبت بطريق اللازم لا بطريق الأصالة وإنما قلنا: إنه يتوقف عن كون اسم المنافع ينطلق عليها اسم المال أو المتاع لأن الحكم في اللفظ معلق بذلك في الأحاديث.ونقول أيضا: الرجوع إنما هو في المنافع فإنها المعقود عليه والرجوع إنما يكون فيما يتناوله العقد والعين لم يتناولها عقد الإجارة.المسألة الخامسة: إذا التزم في ذمته نقل متاع من مكان إلى مكان ثم أفلس والأجرة بيده.قائمة: ثبت حق الفسخ والرجوع إلى الأجرة وإندراجه تحت الحديث ظاهر إن أخذنا باللفظ ولم تخصصه بالبائع فإن خص به فالحكم ثابت بالقياس لا بالحديث.المسألة السادسة: قد يمكن أن يستدل بالحديث على أن الديون المؤجلة تحل بالحجر ووجه: أنه يندرج تحت كونه أدراك ماله فيكون أحق به ومن لوازم ذلك: أن يحل إذ لا مطالبة بالمؤجل قبل الحلول.المسألة السابعة: يمكن أن يستدل به على أن الغرماء إذا قدموا البائع بالثمن لم يسقط حقه من الرجوع لاندراجه تحت اللفظ والفقهاء عللوه بالمنة.المسألة الثامنة: قيل: إن هذا الخيار في الرجوع يستبد به البائع وقيل: لابد من الحاكم والحديث يقتضي ثبوت الأحقية بالمال وأما كيفية الأخذ: فهو غير متعرض له وقد يكن أن يستدل به على الاستبداد إلا أن فيه ما ذكرناه.المسألة التاسعة: الحكم في الحديث معلق بالفلس ولا يتناول غيره ومن أثبت من الفقهاء الرجوع بامتناع المشتري من التسليم مع اليسار أو هربه أو امتناع الوارث من التسليم بعد موته- فإنما يثبته بالقياس على الفلس ومن يقول بالمفهوم في مثل هذا: فله أن ينفي هذا الحكم بدلالة المفهوم من لفظ الحديث.المسألة العاشرة: شرط رجوع البائع: بقاء العين في ملك المفلس فلو هلكت لم يرجع لقوله عليه الصلاة والسلام: «فوجد متاعه أو أدرك ماله» فشرط في الأحقية: إدارك المال بعينه وبعد الهلاك: فات الشرط وهذا ظاهر في الهلاك الحسي والفقهاء نزلوا التصرفات الشرعية منزلة الهلاك الحسي كالبيع والهبة والعتق والوقف ولم ينقضوا هذه التصرفات بخلاف تصرفات المشتري في حق الشفيع بها فإذ تبين أنها كالهلكة شرعا: دخلت تحت اللفظ فإن البائع حينئذ لا يكون مدركا لماله.واختلفوا فيما إذا وجد متاعه عند المشتري بعد أن خرج عنه ثم رجع إليه بغير عوض فقيل: يرجع فيه لأنه وجد ماله بعينه فيدخل تحت اللفظ وقيل: لا يرجع لأن هذا الملك متلقى من غيره لأنه لو تخللت حالة وصادفها الإفلاس والحجر لما رجع فيستصحب حكمها وهذا تصرف في اللفظ بالتخصيص بسبب معنى مفهوم منه وهو الرجوع إلى العين لتعذر العوض من تلك الجهة كما يفهم منه ما قدمنا ذكره أو تخصيص بالمعنى وإن سلم باقتضاء اللفظ له.المسألة الحادية عشرة: إذا باع عبدين- مثلا- فتلف أحدهما ووجد الثاني بعينه رجع فيه عند الشافعي والمذهب: أنه يرج بحصته من الثمن ويضارب بحصة ثمن التلف وقيل: يرجع في الباقي بكل الثمن فأما رجوعه في الباقي فقد يندرج تحت قوله: «فوجد متاعه أو ماله» فإن الباقي متاعه أو ماله وأما كيفية الرجوع: فلا تعلق للفظ به.المسألة الثانية عشرة: إذا تغير المبيع في صفته بحدوث عيب فأثبت الشافعي الرجوع إن شاءه البائع بغير شيء يأخذه وإن شاء ضارب بالثمن وهذا يمكن أن يدرج تحت اللفظ فإنه وجده بعينه والتغير حادث في الصفة لا في العين.المسألة الثالثة عشرة: إطلاق الحديث يقتضي: الرجوع في العين وإن كان قد قبض بعض الثمن وللشافعي قول قدم: أنه لا يرجع في العين إذا قبض بعض الثمن لحديث ورد فيه.المسألة الرابعة عشرة: الحديث يقتضي الرجوع في متاعه ومفهومه: أنه لا يرجع في غير متاعه فيتعلق بذلك الكلام في الزوائد المنفصلة فإنها تحدث ملك المشتري فليست بمتاع للبائع فلا رجوع له فيها.المسألة الخامسة عشرة: لا يثبت الرجوع إلا إذا تقدم سبب لزوم الثمن على المفلس بصيغة الشروط فإن المشروط مع الشرط أو عقيبه ومن ضرورة ذلك: تقدم سبب اللزوم على الفلس.4- جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جعل- وفي لفظ قضى- النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق: فلا شفعة.استدل بالحديث على سقوط الشفعة للجار من وجهين:أحدهما: المفهوم فإن قوله: «جعل الشفعة فيما لم يقسم» يقتضي: أن لا شفعة فيما قسم وقد ورد في بعض الروايات: «إنما الشفعة» وهو أقوى في الدلالة لاسيما إذا جعلنا إنما دالة على الحصر بالوضع دون المفهوم.والوجه الثاني: قوله: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» وهذا اللفظ الثاني: يقتضي ترتيب الحكم على مجموع أمرين: وقوع الحدود وصرق الطرق وقد يقول قائل ممن يثبت الشفعة للجار: إن المرتب على أمرين لا يلزم ترتبه على أحدهما وتبقى دلالة المفهوم الأول مطلقة وهو قوله: «إنما الشفعة فيما لم يقسم» فمن قال بعدم ثبوت الشفعة: تمسك بها ومن خالفه: يحتاج إلى إضمار قيد آخر يقتضي اشتراط أمر زائد وهو صرف الطرق مثلا وهذا الحديث يستدل به ويجعل مفهومه مخالفة الحكم عند انتفاء الأمرين معا: وقوع الحدود وصرف الطرق.
-
.باب اللقطة: 1- عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب أو الورق؟ فقال: «اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر: فأدها إليه». وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: «مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها», وسأله عن الشاة؟ فقال: «خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب».اللقطة: هي المال المتلقط وقد استعمله الفقهاء كثيرا بفتح القاف وقياس هذا: أن يكون لمن يكثر منه الالتقاط كالهزأة والضحكة وأمثاله.والوكاء: ما يربط به الشيء.والعفاص: الوعاء الذي تجعل فيه النفقة ثم يربط عليه والأمر بمعرفة ذلك: ليكون وسيلة إلى معرفة المال تذكرة لما عرفه الملتقط.وفي الحديث: دليل على وجوب التعريف سنة وإطلاقه: يدخل فيه القليل والكثير وقد اختلف في تعريف القليل ومدة تعريفه.وقوله: «فإن لم تعرف فاستنفقها» ليس الأمر فيه على الوجوب وإنما هو للإباحة.وقوله: «ولتكن وديعة عندك» يحتمل أن يراد بذلك: بعد الاستنفاق ويكون قوله: «ولتكن عندك وديعة» فيه مجاز في لفظ الوديعة فإنها تدل على الأعيان وإذا استنفق اللقطة لم تكن عينا فتجوز بلفظة الوديعة عن كون الشيء بحيث يؤد إذا جاء ربه ويحتمل أن يكون قوله: «ولتكن» الواو فيه بمعنى أو فيكون حكمها حكم الأمانات والودائع فإنه إذا لم يتملكها بقيت عنده على حكم الأمانة فهي كالوديعة.وقوله: «فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه» فيه دليل على وجوب الرد على المالك, إذا بين كونه صاحبها واختلف الفقهاء: هل يتوقف وجوب الرد على إقامة البينة أم يكتفى بوصفه بإماراتها التي عرفها المتلقط أولا؟.وقوله: وسأله عن ضالة الإبل الخ.فيه دليل على امتناع التقاطها وقد نبه على العلة فيه وهي استغناؤها عن الحافظ والمتفقد والحذاء والسقاء هاهنا مجازان كأنه لما استغنت بوقتها وما ركب في طبعها من الجلادة عن الماء: كأنها أعطيت الحذاء والسقاء.وقوله: وسأله عن الشاة- إلى آخر الحديث يريد الشاة الضالة والحديث يدل على التقاطها وقد نبه فيه على العلة وهي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها والتساوي بين هذا الرجل وبين غيره من الناس إذا وجدها فإن هذا التساوي تقتضي الألفاظ: بأنه لابد منه: إما لهذا الواجد وإما لغيره من الناس والله أعلم..باب الوصايا: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماحق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبين ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده».زاد مسلم: قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ذلك إلا وعندي وصيتي».الوصية على وجهين:أحدهما: الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان وذلك واجب وتلك بعضهم في الشيء اليسير الذي جرت العادة بتداينه ورده مع القرب: هل تجب الوصية به على التضييق والفور؟ وكأنه روعي في ذلك المشقة.والوجه الثاني: الوصية بالتطوعات في القربات وذلك مستحب وكأن الحديث إنما يحمل على النوع الأول.والترخيص في الليلتين أو الثلاث دفع للحرج والعسر وربما استدل به قوم على العمل بالخط والكتابة لقوله: «وصية مكتوبة» ولم يذكر أمرا زائدا ولولا أن ذلك كاف لما كان لكتابته فائدة والمخالفون يقولون: المراد وصيته مكتوبة بشروطها ويأخذون الشروط من الخارج.والحديث دليل على فضل ابن عمر لمبادرته في امتثال الأمر ومواظبته على ذلك.2- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا», قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: «لا», قلت: فالثلث, قال: «الثلث والثلث كثيير إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك» قال: قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تخلف فتعمل علما تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على اعقابهم», لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.فيه دليل على عيادة الإمام أصحابه ودليل على ذكر شدة المرض لا في معرض الشكوى وفيه دليل على استحباب الصدقة لذوي الأموال.وفيه دليل على مبادرة الصحابة وشدة رغبتهم في الخيرات لطلب سعد التصدق بالأكثر وفيه دليل على تخصيص الوصية بالثلث.وفيه دليل على أن الثلث في حد الكثرة في باب الوصية.وقد اختلف مذهب مالك في الثلث بالنسبة إلى مسائل متعددة ففي بعضها جعل في حد الكثرة وفي بعضها جعل في حد القلة فإذا جعل في حد الكثرة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «والثلث كثير» إلا أن هذا يحتاج إلى أمرين:أحدهما: أن لا يعتبر السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصية بل يؤخذ لفظا عاما.والثاني: أن يدل دليل على اعتبار مسمى الكثرة في ذلك الحكم فحينئذ يحصل المقصود بأن يقال: الكثرة معتبرة في هذا الحكم والثلث كثير فالثلث معتبر ومتى لم تلمح كل واحدة من هاتين المقدمتين: لم يحصل المقصود.مثال من ذلك: ذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه مسح ثلث رأسه في الوضوء: أجزأه لأنه كثير للحديث فيقال له: لم قلت إن مسمى الكثيرة معتبر في المسح؟ فإذا أثبته قيل له: لم قلت إن مطلق الثلث كثير وإن كل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم؟ وعلى هذا فقس سائر المسائل فيطلب فيها تصحيح كل واحدة من المقدمتين.وفيه دليل على أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم فقراء عالة يتكففون الناس ومن هذا: أخذ بعضهم استحباب الغض من الثلث وقالوا أيضا: ينظر إلى قدر المال في القلة والكثرة فتكون الوصية بحسب ذلك اتباعا للمعنى المذكور في الحديث من ترك الورثة أغنياء.وفيه دليل على أن الثواب في الإنفاق: مشروط بصحة النية في ابتغاء وجه الله وهذا دقيق عسر إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله ويشق تخليص هذا المقصود مما يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة.وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات المالية إذا أديت على قصد الواجب وابتغاء وجه الله: أثيب عليها فإنه قوله: «حتى ما تجعل في امرأتك» لا تخصيص له بغير الواجب ولفظة حتى هاهنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المغني كما يقال: جاء الحاج حتى المشاة ومات الناس حتى الأنبياء فيمكن أن يقال: سبب هذا: ما أشرنا إليه من توهم أن أداء الواجب قد يشعر بأنه لا يقتضي غيره وأن لا يزيد على تحصيل براءة الذمة ويحتمل أن يكون ذلك دفعا لما عساه يتوهم من أن إنفاق الزوج على الزوجة وإطعامه إياها واجبا أو غير واجب: لا يعارض تحصيل الثواب إذا ابتغى بذلك وجه الله كما جاء في حديث زينب الثقفية لما أرادت الإنفاق من عندنا وقال لست بتاركتهم وتوهمت أن ذلك مما يمنع الصدقة عليهم فرفع ذلك عنها وأزيل الوهم.نعم في مثل هذا يحتاج إلى النظر في أنه هل يحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات أم تكفي نية عامة؟ وقد دل الشرع على الاكتفاء بأصل النية وعمومها في باب الجهاد حيث قال: «لو مر بنهر ولا يريد أن يسقي به فشربت: كان له أجر» أو كما قال: فيمكن أن يعدي إلى سائر الأشياء فيكتفي بنية مجملة أو عامة ولا يحتاج في الجزئيات إلى ذلك.وقوله عليه السلام: «ولعلك أن تخلف» الخ تسلية لسعد على كراهيته للتخلف بسبب المرض الذي وقع له وفيه إشارة إلى تلمح هذا المعنى حيث تقع بالإنسان المكاره حتى تمنعه مقاصد له ويرجو المصلحة فيما يفعله الله تعالى.وقوله عليه السلام: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم» لعله يراد به: إتمام العمل على وجه لا يدخله نقض ولا نقض لما ابتدئ به.وفيه دليل على تعظيم أمر الهجرة وأن ترك إتمامها مما يدخل تحت قوله: «ولا تردهم على أعقابهم».3- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير».قول ابن عباس: قد مرت الإشارة إلي سببه وقد استنبطه ابن عباس من لفظ كثير وإن كان القول الذي أقر صلى الله عليه وسلم عليه وأشار لفظه إلى الأمر به- وهو الثلث- يقتضي الوصية به ولكن ابن عباس قد أشار إلى اعتبار هذا بقوله لو أن الناس فإنها صيغة فيها ضعف ما بالنسبة إلى طلب الغض إلى مادون الثلث والله أعلم..باب الفرائض: 1- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر».وفي رواية: «اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت: فلأولى رجل ذكر».الفرائض: جمع فريضة وهي الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى: النصف ونصفه وهو الربع ونصف نصفه وهو الثمن والثلثان ونصفهما وهو الثلث ونصف نصفهما وهو السدس.وفي الحديث: دليل على أن قسمة الفرائض تكون بالبداءة بأهل الفرض وبعد ذلك: ما بقي للعصبة.وقوله: «فما بقي فلأولى رجل ذكر» أو «عصبة ذكر» قد يورد هاهنا إشكاله وهو أن الأخوات عصبات البنات والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي وجوابه: أنه من طريق المفهوم وأقصى درجاته: أن يكون له عموم فيخص بالحديث الدال على ذلك الحكم أعني: أن الأخوات عصبات البنات.2- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع؟», ثم قال: «لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر».الحديث دليل على انقطاع التوارث بين المسلم والكافر.ومن المتقدمين من قال: يرث المسلم الكافر والكافر لا يرث المسلم وكأن ذلك تشبيه بالنكاح حيث ينكح المسلم الكافرة الكتابية بخلاف العكس والحديث المذكور يدل على ما قاله الجمهور.وقوله صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل من دار؟» سببه: أن أبا طالب لما مات: لم يرثه علي ولا جعفر وورثه عقيل وطالب لأن عليا وجعفرا كانا مسلمين حينئذ فلم يرثا أبا طالب: وقد تعلق بهذا الحديث في مسألة دور مكة وهل يجوز بيعها أم لا؟.3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته).الولاء حق ثبت بوصف وهو الاعتاق فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه لأن ما ثبت بوصف يدوم بدوامه ولا يستحقه إلا من قام به ذلك الوصف وقد شبه الولاء بالنسب قال عليه السلام: «الولاء لحمة كلحمة النسب» فكما لا يقبل النسب النقل بالبيع والهبة فكذلك الولاء.4- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت وأهدي لها لحم فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال: «ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟» قالوا: بلى يا رسول الله ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه فقال: «هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية», وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: «إنما الولاء لمن أعتق».حديث بريرة: قد استنبط منه أحكام كثيرة وجمع في ذلك غير ما تصنيف وقد اشرنا إلى أشياء منها في مواضع فيما مضى وقد صرح هاهنا بثبوت الخيار لها وهي أمة عتقت تحت عبد فيثبت ذلك لكل من هو في حالها.وفيه دليل على أن الفقير إذا ملك شيئا على وجه الصدقة: لم يمتنع على غيره ممن لا تحل له الصدقة أكله إذا وجد سبب شرعي من جهة الفقير يبيحه له.وفيه دليل على تبسط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه لطلبه من أهله مثل ذلك.وفيه دليل على حصر الولاء للمعتق وقد تكلمنا عليه فيما مضى.
-
.باب اللقطة: 1- عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب أو الورق؟ فقال: «اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر: فأدها إليه». وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: «مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها», وسأله عن الشاة؟ فقال: «خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب».اللقطة: هي المال المتلقط وقد استعمله الفقهاء كثيرا بفتح القاف وقياس هذا: أن يكون لمن يكثر منه الالتقاط كالهزأة والضحكة وأمثاله.والوكاء: ما يربط به الشيء.والعفاص: الوعاء الذي تجعل فيه النفقة ثم يربط عليه والأمر بمعرفة ذلك: ليكون وسيلة إلى معرفة المال تذكرة لما عرفه الملتقط.وفي الحديث: دليل على وجوب التعريف سنة وإطلاقه: يدخل فيه القليل والكثير وقد اختلف في تعريف القليل ومدة تعريفه.وقوله: «فإن لم تعرف فاستنفقها» ليس الأمر فيه على الوجوب وإنما هو للإباحة.وقوله: «ولتكن وديعة عندك» يحتمل أن يراد بذلك: بعد الاستنفاق ويكون قوله: «ولتكن عندك وديعة» فيه مجاز في لفظ الوديعة فإنها تدل على الأعيان وإذا استنفق اللقطة لم تكن عينا فتجوز بلفظة الوديعة عن كون الشيء بحيث يؤد إذا جاء ربه ويحتمل أن يكون قوله: «ولتكن» الواو فيه بمعنى أو فيكون حكمها حكم الأمانات والودائع فإنه إذا لم يتملكها بقيت عنده على حكم الأمانة فهي كالوديعة.وقوله: «فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه» فيه دليل على وجوب الرد على المالك, إذا بين كونه صاحبها واختلف الفقهاء: هل يتوقف وجوب الرد على إقامة البينة أم يكتفى بوصفه بإماراتها التي عرفها المتلقط أولا؟.وقوله: وسأله عن ضالة الإبل الخ.فيه دليل على امتناع التقاطها وقد نبه على العلة فيه وهي استغناؤها عن الحافظ والمتفقد والحذاء والسقاء هاهنا مجازان كأنه لما استغنت بوقتها وما ركب في طبعها من الجلادة عن الماء: كأنها أعطيت الحذاء والسقاء.وقوله: وسأله عن الشاة- إلى آخر الحديث يريد الشاة الضالة والحديث يدل على التقاطها وقد نبه فيه على العلة وهي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها والتساوي بين هذا الرجل وبين غيره من الناس إذا وجدها فإن هذا التساوي تقتضي الألفاظ: بأنه لابد منه: إما لهذا الواجد وإما لغيره من الناس والله أعلم..باب الوصايا: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماحق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبين ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده».زاد مسلم: قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ذلك إلا وعندي وصيتي».الوصية على وجهين:أحدهما: الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان وذلك واجب وتلك بعضهم في الشيء اليسير الذي جرت العادة بتداينه ورده مع القرب: هل تجب الوصية به على التضييق والفور؟ وكأنه روعي في ذلك المشقة.والوجه الثاني: الوصية بالتطوعات في القربات وذلك مستحب وكأن الحديث إنما يحمل على النوع الأول.والترخيص في الليلتين أو الثلاث دفع للحرج والعسر وربما استدل به قوم على العمل بالخط والكتابة لقوله: «وصية مكتوبة» ولم يذكر أمرا زائدا ولولا أن ذلك كاف لما كان لكتابته فائدة والمخالفون يقولون: المراد وصيته مكتوبة بشروطها ويأخذون الشروط من الخارج.والحديث دليل على فضل ابن عمر لمبادرته في امتثال الأمر ومواظبته على ذلك.2- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا», قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: «لا», قلت: فالثلث, قال: «الثلث والثلث كثيير إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك» قال: قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تخلف فتعمل علما تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على اعقابهم», لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.فيه دليل على عيادة الإمام أصحابه ودليل على ذكر شدة المرض لا في معرض الشكوى وفيه دليل على استحباب الصدقة لذوي الأموال.وفيه دليل على مبادرة الصحابة وشدة رغبتهم في الخيرات لطلب سعد التصدق بالأكثر وفيه دليل على تخصيص الوصية بالثلث.وفيه دليل على أن الثلث في حد الكثرة في باب الوصية.وقد اختلف مذهب مالك في الثلث بالنسبة إلى مسائل متعددة ففي بعضها جعل في حد الكثرة وفي بعضها جعل في حد القلة فإذا جعل في حد الكثرة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «والثلث كثير» إلا أن هذا يحتاج إلى أمرين:أحدهما: أن لا يعتبر السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصية بل يؤخذ لفظا عاما.والثاني: أن يدل دليل على اعتبار مسمى الكثرة في ذلك الحكم فحينئذ يحصل المقصود بأن يقال: الكثرة معتبرة في هذا الحكم والثلث كثير فالثلث معتبر ومتى لم تلمح كل واحدة من هاتين المقدمتين: لم يحصل المقصود.مثال من ذلك: ذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه مسح ثلث رأسه في الوضوء: أجزأه لأنه كثير للحديث فيقال له: لم قلت إن مسمى الكثيرة معتبر في المسح؟ فإذا أثبته قيل له: لم قلت إن مطلق الثلث كثير وإن كل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم؟ وعلى هذا فقس سائر المسائل فيطلب فيها تصحيح كل واحدة من المقدمتين.وفيه دليل على أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم فقراء عالة يتكففون الناس ومن هذا: أخذ بعضهم استحباب الغض من الثلث وقالوا أيضا: ينظر إلى قدر المال في القلة والكثرة فتكون الوصية بحسب ذلك اتباعا للمعنى المذكور في الحديث من ترك الورثة أغنياء.وفيه دليل على أن الثواب في الإنفاق: مشروط بصحة النية في ابتغاء وجه الله وهذا دقيق عسر إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله ويشق تخليص هذا المقصود مما يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة.وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات المالية إذا أديت على قصد الواجب وابتغاء وجه الله: أثيب عليها فإنه قوله: «حتى ما تجعل في امرأتك» لا تخصيص له بغير الواجب ولفظة حتى هاهنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المغني كما يقال: جاء الحاج حتى المشاة ومات الناس حتى الأنبياء فيمكن أن يقال: سبب هذا: ما أشرنا إليه من توهم أن أداء الواجب قد يشعر بأنه لا يقتضي غيره وأن لا يزيد على تحصيل براءة الذمة ويحتمل أن يكون ذلك دفعا لما عساه يتوهم من أن إنفاق الزوج على الزوجة وإطعامه إياها واجبا أو غير واجب: لا يعارض تحصيل الثواب إذا ابتغى بذلك وجه الله كما جاء في حديث زينب الثقفية لما أرادت الإنفاق من عندنا وقال لست بتاركتهم وتوهمت أن ذلك مما يمنع الصدقة عليهم فرفع ذلك عنها وأزيل الوهم.نعم في مثل هذا يحتاج إلى النظر في أنه هل يحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات أم تكفي نية عامة؟ وقد دل الشرع على الاكتفاء بأصل النية وعمومها في باب الجهاد حيث قال: «لو مر بنهر ولا يريد أن يسقي به فشربت: كان له أجر» أو كما قال: فيمكن أن يعدي إلى سائر الأشياء فيكتفي بنية مجملة أو عامة ولا يحتاج في الجزئيات إلى ذلك.وقوله عليه السلام: «ولعلك أن تخلف» الخ تسلية لسعد على كراهيته للتخلف بسبب المرض الذي وقع له وفيه إشارة إلى تلمح هذا المعنى حيث تقع بالإنسان المكاره حتى تمنعه مقاصد له ويرجو المصلحة فيما يفعله الله تعالى.وقوله عليه السلام: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم» لعله يراد به: إتمام العمل على وجه لا يدخله نقض ولا نقض لما ابتدئ به.وفيه دليل على تعظيم أمر الهجرة وأن ترك إتمامها مما يدخل تحت قوله: «ولا تردهم على أعقابهم».3- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير».قول ابن عباس: قد مرت الإشارة إلي سببه وقد استنبطه ابن عباس من لفظ كثير وإن كان القول الذي أقر صلى الله عليه وسلم عليه وأشار لفظه إلى الأمر به- وهو الثلث- يقتضي الوصية به ولكن ابن عباس قد أشار إلى اعتبار هذا بقوله لو أن الناس فإنها صيغة فيها ضعف ما بالنسبة إلى طلب الغض إلى مادون الثلث والله أعلم..باب الفرائض: 1- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر».وفي رواية: «اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت: فلأولى رجل ذكر».الفرائض: جمع فريضة وهي الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى: النصف ونصفه وهو الربع ونصف نصفه وهو الثمن والثلثان ونصفهما وهو الثلث ونصف نصفهما وهو السدس.وفي الحديث: دليل على أن قسمة الفرائض تكون بالبداءة بأهل الفرض وبعد ذلك: ما بقي للعصبة.وقوله: «فما بقي فلأولى رجل ذكر» أو «عصبة ذكر» قد يورد هاهنا إشكاله وهو أن الأخوات عصبات البنات والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي وجوابه: أنه من طريق المفهوم وأقصى درجاته: أن يكون له عموم فيخص بالحديث الدال على ذلك الحكم أعني: أن الأخوات عصبات البنات.2- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع؟», ثم قال: «لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر».الحديث دليل على انقطاع التوارث بين المسلم والكافر.ومن المتقدمين من قال: يرث المسلم الكافر والكافر لا يرث المسلم وكأن ذلك تشبيه بالنكاح حيث ينكح المسلم الكافرة الكتابية بخلاف العكس والحديث المذكور يدل على ما قاله الجمهور.وقوله صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل من دار؟» سببه: أن أبا طالب لما مات: لم يرثه علي ولا جعفر وورثه عقيل وطالب لأن عليا وجعفرا كانا مسلمين حينئذ فلم يرثا أبا طالب: وقد تعلق بهذا الحديث في مسألة دور مكة وهل يجوز بيعها أم لا؟.3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته).الولاء حق ثبت بوصف وهو الاعتاق فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه لأن ما ثبت بوصف يدوم بدوامه ولا يستحقه إلا من قام به ذلك الوصف وقد شبه الولاء بالنسب قال عليه السلام: «الولاء لحمة كلحمة النسب» فكما لا يقبل النسب النقل بالبيع والهبة فكذلك الولاء.4- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت وأهدي لها لحم فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال: «ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟» قالوا: بلى يا رسول الله ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه فقال: «هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية», وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: «إنما الولاء لمن أعتق».حديث بريرة: قد استنبط منه أحكام كثيرة وجمع في ذلك غير ما تصنيف وقد اشرنا إلى أشياء منها في مواضع فيما مضى وقد صرح هاهنا بثبوت الخيار لها وهي أمة عتقت تحت عبد فيثبت ذلك لكل من هو في حالها.وفيه دليل على أن الفقير إذا ملك شيئا على وجه الصدقة: لم يمتنع على غيره ممن لا تحل له الصدقة أكله إذا وجد سبب شرعي من جهة الفقير يبيحه له.وفيه دليل على تبسط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه لطلبه من أهله مثل ذلك.وفيه دليل على حصر الولاء للمعتق وقد تكلمنا عليه فيما مضى.
-
.باب اللقطة: 1- عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب أو الورق؟ فقال: «اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر: فأدها إليه». وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: «مالك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها», وسأله عن الشاة؟ فقال: «خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب».اللقطة: هي المال المتلقط وقد استعمله الفقهاء كثيرا بفتح القاف وقياس هذا: أن يكون لمن يكثر منه الالتقاط كالهزأة والضحكة وأمثاله.والوكاء: ما يربط به الشيء.والعفاص: الوعاء الذي تجعل فيه النفقة ثم يربط عليه والأمر بمعرفة ذلك: ليكون وسيلة إلى معرفة المال تذكرة لما عرفه الملتقط.وفي الحديث: دليل على وجوب التعريف سنة وإطلاقه: يدخل فيه القليل والكثير وقد اختلف في تعريف القليل ومدة تعريفه.وقوله: «فإن لم تعرف فاستنفقها» ليس الأمر فيه على الوجوب وإنما هو للإباحة.وقوله: «ولتكن وديعة عندك» يحتمل أن يراد بذلك: بعد الاستنفاق ويكون قوله: «ولتكن عندك وديعة» فيه مجاز في لفظ الوديعة فإنها تدل على الأعيان وإذا استنفق اللقطة لم تكن عينا فتجوز بلفظة الوديعة عن كون الشيء بحيث يؤد إذا جاء ربه ويحتمل أن يكون قوله: «ولتكن» الواو فيه بمعنى أو فيكون حكمها حكم الأمانات والودائع فإنه إذا لم يتملكها بقيت عنده على حكم الأمانة فهي كالوديعة.وقوله: «فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه» فيه دليل على وجوب الرد على المالك, إذا بين كونه صاحبها واختلف الفقهاء: هل يتوقف وجوب الرد على إقامة البينة أم يكتفى بوصفه بإماراتها التي عرفها المتلقط أولا؟.وقوله: وسأله عن ضالة الإبل الخ.فيه دليل على امتناع التقاطها وقد نبه على العلة فيه وهي استغناؤها عن الحافظ والمتفقد والحذاء والسقاء هاهنا مجازان كأنه لما استغنت بوقتها وما ركب في طبعها من الجلادة عن الماء: كأنها أعطيت الحذاء والسقاء.وقوله: وسأله عن الشاة- إلى آخر الحديث يريد الشاة الضالة والحديث يدل على التقاطها وقد نبه فيه على العلة وهي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها والتساوي بين هذا الرجل وبين غيره من الناس إذا وجدها فإن هذا التساوي تقتضي الألفاظ: بأنه لابد منه: إما لهذا الواجد وإما لغيره من الناس والله أعلم..باب الوصايا: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماحق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبين ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده».زاد مسلم: قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ذلك إلا وعندي وصيتي».الوصية على وجهين:أحدهما: الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان وذلك واجب وتلك بعضهم في الشيء اليسير الذي جرت العادة بتداينه ورده مع القرب: هل تجب الوصية به على التضييق والفور؟ وكأنه روعي في ذلك المشقة.والوجه الثاني: الوصية بالتطوعات في القربات وذلك مستحب وكأن الحديث إنما يحمل على النوع الأول.والترخيص في الليلتين أو الثلاث دفع للحرج والعسر وربما استدل به قوم على العمل بالخط والكتابة لقوله: «وصية مكتوبة» ولم يذكر أمرا زائدا ولولا أن ذلك كاف لما كان لكتابته فائدة والمخالفون يقولون: المراد وصيته مكتوبة بشروطها ويأخذون الشروط من الخارج.والحديث دليل على فضل ابن عمر لمبادرته في امتثال الأمر ومواظبته على ذلك.2- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا», قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: «لا», قلت: فالثلث, قال: «الثلث والثلث كثيير إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك» قال: قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تخلف فتعمل علما تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على اعقابهم», لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.فيه دليل على عيادة الإمام أصحابه ودليل على ذكر شدة المرض لا في معرض الشكوى وفيه دليل على استحباب الصدقة لذوي الأموال.وفيه دليل على مبادرة الصحابة وشدة رغبتهم في الخيرات لطلب سعد التصدق بالأكثر وفيه دليل على تخصيص الوصية بالثلث.وفيه دليل على أن الثلث في حد الكثرة في باب الوصية.وقد اختلف مذهب مالك في الثلث بالنسبة إلى مسائل متعددة ففي بعضها جعل في حد الكثرة وفي بعضها جعل في حد القلة فإذا جعل في حد الكثرة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «والثلث كثير» إلا أن هذا يحتاج إلى أمرين:أحدهما: أن لا يعتبر السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصية بل يؤخذ لفظا عاما.والثاني: أن يدل دليل على اعتبار مسمى الكثرة في ذلك الحكم فحينئذ يحصل المقصود بأن يقال: الكثرة معتبرة في هذا الحكم والثلث كثير فالثلث معتبر ومتى لم تلمح كل واحدة من هاتين المقدمتين: لم يحصل المقصود.مثال من ذلك: ذهب بعض أصحاب مالك إلى أنه مسح ثلث رأسه في الوضوء: أجزأه لأنه كثير للحديث فيقال له: لم قلت إن مسمى الكثيرة معتبر في المسح؟ فإذا أثبته قيل له: لم قلت إن مطلق الثلث كثير وإن كل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم؟ وعلى هذا فقس سائر المسائل فيطلب فيها تصحيح كل واحدة من المقدمتين.وفيه دليل على أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم فقراء عالة يتكففون الناس ومن هذا: أخذ بعضهم استحباب الغض من الثلث وقالوا أيضا: ينظر إلى قدر المال في القلة والكثرة فتكون الوصية بحسب ذلك اتباعا للمعنى المذكور في الحديث من ترك الورثة أغنياء.وفيه دليل على أن الثواب في الإنفاق: مشروط بصحة النية في ابتغاء وجه الله وهذا دقيق عسر إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله ويشق تخليص هذا المقصود مما يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة.وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات المالية إذا أديت على قصد الواجب وابتغاء وجه الله: أثيب عليها فإنه قوله: «حتى ما تجعل في امرأتك» لا تخصيص له بغير الواجب ولفظة حتى هاهنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المغني كما يقال: جاء الحاج حتى المشاة ومات الناس حتى الأنبياء فيمكن أن يقال: سبب هذا: ما أشرنا إليه من توهم أن أداء الواجب قد يشعر بأنه لا يقتضي غيره وأن لا يزيد على تحصيل براءة الذمة ويحتمل أن يكون ذلك دفعا لما عساه يتوهم من أن إنفاق الزوج على الزوجة وإطعامه إياها واجبا أو غير واجب: لا يعارض تحصيل الثواب إذا ابتغى بذلك وجه الله كما جاء في حديث زينب الثقفية لما أرادت الإنفاق من عندنا وقال لست بتاركتهم وتوهمت أن ذلك مما يمنع الصدقة عليهم فرفع ذلك عنها وأزيل الوهم.نعم في مثل هذا يحتاج إلى النظر في أنه هل يحتاج إلى نية خاصة في الجزئيات أم تكفي نية عامة؟ وقد دل الشرع على الاكتفاء بأصل النية وعمومها في باب الجهاد حيث قال: «لو مر بنهر ولا يريد أن يسقي به فشربت: كان له أجر» أو كما قال: فيمكن أن يعدي إلى سائر الأشياء فيكتفي بنية مجملة أو عامة ولا يحتاج في الجزئيات إلى ذلك.وقوله عليه السلام: «ولعلك أن تخلف» الخ تسلية لسعد على كراهيته للتخلف بسبب المرض الذي وقع له وفيه إشارة إلى تلمح هذا المعنى حيث تقع بالإنسان المكاره حتى تمنعه مقاصد له ويرجو المصلحة فيما يفعله الله تعالى.وقوله عليه السلام: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم» لعله يراد به: إتمام العمل على وجه لا يدخله نقض ولا نقض لما ابتدئ به.وفيه دليل على تعظيم أمر الهجرة وأن ترك إتمامها مما يدخل تحت قوله: «ولا تردهم على أعقابهم».3- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث والثلث كثير».قول ابن عباس: قد مرت الإشارة إلي سببه وقد استنبطه ابن عباس من لفظ كثير وإن كان القول الذي أقر صلى الله عليه وسلم عليه وأشار لفظه إلى الأمر به- وهو الثلث- يقتضي الوصية به ولكن ابن عباس قد أشار إلى اعتبار هذا بقوله لو أن الناس فإنها صيغة فيها ضعف ما بالنسبة إلى طلب الغض إلى مادون الثلث والله أعلم..باب الفرائض: 1- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر».وفي رواية: «اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت: فلأولى رجل ذكر».الفرائض: جمع فريضة وهي الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى: النصف ونصفه وهو الربع ونصف نصفه وهو الثمن والثلثان ونصفهما وهو الثلث ونصف نصفهما وهو السدس.وفي الحديث: دليل على أن قسمة الفرائض تكون بالبداءة بأهل الفرض وبعد ذلك: ما بقي للعصبة.وقوله: «فما بقي فلأولى رجل ذكر» أو «عصبة ذكر» قد يورد هاهنا إشكاله وهو أن الأخوات عصبات البنات والحديث يقتضي اشتراط الذكورة في العصبة المستحق للباقي وجوابه: أنه من طريق المفهوم وأقصى درجاته: أن يكون له عموم فيخص بالحديث الدال على ذلك الحكم أعني: أن الأخوات عصبات البنات.2- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع؟», ثم قال: «لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر».الحديث دليل على انقطاع التوارث بين المسلم والكافر.ومن المتقدمين من قال: يرث المسلم الكافر والكافر لا يرث المسلم وكأن ذلك تشبيه بالنكاح حيث ينكح المسلم الكافرة الكتابية بخلاف العكس والحديث المذكور يدل على ما قاله الجمهور.وقوله صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل من دار؟» سببه: أن أبا طالب لما مات: لم يرثه علي ولا جعفر وورثه عقيل وطالب لأن عليا وجعفرا كانا مسلمين حينئذ فلم يرثا أبا طالب: وقد تعلق بهذا الحديث في مسألة دور مكة وهل يجوز بيعها أم لا؟.3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته).الولاء حق ثبت بوصف وهو الاعتاق فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه لأن ما ثبت بوصف يدوم بدوامه ولا يستحقه إلا من قام به ذلك الوصف وقد شبه الولاء بالنسب قال عليه السلام: «الولاء لحمة كلحمة النسب» فكما لا يقبل النسب النقل بالبيع والهبة فكذلك الولاء.4- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت وأهدي لها لحم فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال: «ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟» قالوا: بلى يا رسول الله ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه فقال: «هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية», وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: «إنما الولاء لمن أعتق».حديث بريرة: قد استنبط منه أحكام كثيرة وجمع في ذلك غير ما تصنيف وقد اشرنا إلى أشياء منها في مواضع فيما مضى وقد صرح هاهنا بثبوت الخيار لها وهي أمة عتقت تحت عبد فيثبت ذلك لكل من هو في حالها.وفيه دليل على أن الفقير إذا ملك شيئا على وجه الصدقة: لم يمتنع على غيره ممن لا تحل له الصدقة أكله إذا وجد سبب شرعي من جهة الفقير يبيحه له.وفيه دليل على تبسط الإنسان في السؤال عن أحوال منزله وما عهده فيه لطلبه من أهله مثل ذلك.وفيه دليل على حصر الولاء للمعتق وقد تكلمنا عليه فيما مضى.
-
.كتاب النكاح: .مدخل: 1- عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغرض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».الباءة: النكاح مشتق من اللفظ الذي يدل على الإقامة والنزول والباءة المنزل فلما كان الزوج ينزل بزوجته: سمى النكاح باءة لمجاز الملازمة واستطاعة النكاح: القدرة على مؤنة المهر والنفقة.وفيه دليل على أنه لا يؤمر به إلا القادر على ذلك وقد قالوا: من لم يقدر عليه فالنكاح مكروه في حقه وصيغة الأمر ظاهرة في الوجوب.وقد قسم الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة أعني الوجوب: والندب والتحريم والكراهة والإباحة وجعل الوجوب فيما إذا خالف العنب وقدر على النكاح إلا أنه لا يتعين واجبا بل إما هو وإما التسري فإن تعذر التسري تعين النكاح حينئذ للوجوب لا لأصل الشرعية.وقد يتعلق بهذه الصيغة من يرى أن النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادات وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.وقوله عليه السلام: «فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج» يحتمل أمرين:أحدهما: أن تكون أفعل فيه مما استعمل لغير المبالغة.والثاني: أن تكون على بابها فإن التقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج وفي معارضتها: الشهوة والداعي إلى النكاح وبعد النكاح: يضعف هذا المعارض فيكون أغض للبصر وأحصن للفرج مما إذا لم يكن فإن وقوع الفعل- مع ضعف الداعي إلى وقوعه- أندر من وقوعه مع وجود الداعي والحوالة على الصوم لما فيه كسر الشهوة فإن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوتها وتضعف بضعفها.وقد قيل في قوله: «فعليه بالصوم» بأنه إغراء للغائب وقد منعه قوم من أهل العربية والوجاء الخصاء وجعل وجاء: نظرا إلى المعنى فإن الوجاء قاطع للفعل وعدم الشهوة قاطع له أيضا وهو من مجاز المشابهة.وإخراج الحديث لمخاطبة الشباب: بناء على الغالب لأن أسباب قوة الداعي إلى النكاح فيه موجودة بخلاف الشيوخ والمعنى معتبر إذا وجد في الكهول والشيوخ أيضا.2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ما بال أقوام قالوا كذا؟ لكني أصلي وأنام وأصوم وافطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».يستدل به من يرجح النكاح على التخلي لنوافل العبادات فإن هؤلاء القوم قصدوا هذا القصد والنبي صلى الله عليه وسلم رده عليهم وأكد ذلك بأن خلافه: رغبة عن السنة ويحتمل أن تكون هذه الكراهة للتنطع والغلو في الدين وقد يختلف ذلك باختلاف المقاصد فإن من ترك اللحم- مثلا- يختلف في حكمه بالنسبة إلى مقصوده فإن كل من باب الغلو والتنطع والدخول في الرهبانية: فهو ممنوع مخالفة للشرع وإن كان لغير ذلك من المقاصد المحمودة كمن تركه تورعا لقيام شبهة في ذلك الوقت في اللحوم أو عجزا أو لمقصود صحيح غير ما تقدم: لم يكن ممنوعا.وظاهر الحديث: ما ذكرناه من تقديم النكاح كما يقوله أبو حنيفة ولا شك أن الترجيح يتبع المصالح ومقاديرها مختلفة وصاحب الشرع أعلم بتلك المقادير فإذا لم يعلم المكلفة حقيقة تلك المصالح ولم يستحضر أعدادها: فالأولى اتباع اللفظ الوارد في الشرع.3- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا).التبتل: ترك النكاح ومنه قيل لمريم عليها السلام البتول وحديث سعد أيضا من هذا الباب لأن عثمان بن مظعون ممن قصد التبتل والتخلي للعبادة مما هو داخل في باب التنطع والتشبه بالرهبانية إلا أن ظاهر الحديث: يقتضي تعليق الحكم بمسمى التبتل وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] فلابد أن يكون هذا المأمور.به في الآية غير المردود في الحديث ليحصل الجمع وكأن ذلك: إشارة إلى ملازمة التعبد أو كثرته لدلالة السياق عليه من الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن والذكر فهذه إشارة إلى كثرة العبادات ولم يقصد معها ترك النكاح ولا أمر به بل كان النكاح موجودا مع هذا الأمر ويكون ذلك التبتل المردود: ما انضم إليه مع ذلك- من الغلو في الدين وتجنب النكاح وغيره مما يدخل في باب التشديد على النفس بالإجحاف بها ويؤخذ من هذا: منع ما هو داخل في هذا الباب وشبهه مما قد يفعله جماعة من المتزهدين.4- عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي ابنة أبي سفيان, قال: «أو تحبين ذلك؟», فقلت: نعم, لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك لا يحل لي», قالت: إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال: «بنت أم سلمة؟» قالت: قلت: نعم, قال: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن».قال عروة وثويبة: مولاة أبي لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر خيبة فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقي ثويبة.الخيبة: الحالة بكسر الخاء.الجمع بين الأختين وتحريم نكاح الربيبة: منصوص عليه في كتاب الله تعالى ويحتمل أن تكون هذه المرأة السائلة لنكاح أختها: لم يبلغها أمر هذا الحكم وهو أقرب من نكاح الربيبة فإن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بتقدم نزول الآية حيث قال: «لو لم تكن ربيبتي في حجري» وتحريم الجمع بين الأختين في النكاح متفق عليه فأما بملك اليمين: فكذلك عند علماء الأمصار وعن بعض الناس: فيه خلاف ووقع الاتفاق بعده على خلاف ذلك من أهل السنة غير أن الجمع في ملك اليمين: إنما هو في استباحة وطئها إذ الجمع في ملك اليمين: غير ممتنع اتفاقا وقال الفقهاء: إذا وطئ إحدى الأختين لم يطأ الأخرى حتى يحرم الأولى ببيع أو عتق أو كتابة أو تزويج لئلا يكون مستبيحا لفرجيهما معا.وقولها: (لست لك بمخلية) مضموم الميم ساكن الخاء المعجمة مكسور اللام معناه: لست أخلي بغير بغير ضرة.وقولها: (وأحب من شاركني) وفي رواية: «شركني» بفتح الشين وكسر الراء وأرادت بالخير ههنا: ما يتعلق بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من مصالح الدنيا والآخرة وأختها: اسما عزة بفتح العين وتشديد الزاي المعجمة.وقولها: (إنا كنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة) هذه يقال لها درة بضم الدال المهملة وتشديد الراء المهملة أيضا ومن قال فيه درة بفتح الذال المعجمة فقد صحف.وقد يقع من هذه المحاورة في النفس: أنها إنما سألت نكاح أختها لاعتقادها خصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم بإباحة هذا النكاح لا لعدم علمها بما دلت عليه الآية وذلك: أنه إذا كان سبب اعتقادها التحليل: اعتقادها خصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب ذلك: أن تعترض بنكاح درة بنت أبي سلمة فكأنها تقول: كما جاز نكاح درة- مع تناول الآية لها- جاز الجمع بين الأختين للاجتماع في الخصوصية أما إذا لم تكن عالمة بمقتضى الآية: فلا يلزم من كون الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بتحريم نكاح الأخت على الأخت أن يرد على ذلك تجويز نكاح الربيبة لزوما ظاهرا لأنهما إنما يشتركان حينئذ في أمر أعم أما إذا كانت عالمة بمدلول الآية: فيكون اشتراكهما في أمر خاص وهو التحريم العام واعتقاد التحليل الخاص.وقوله عليه السلام: «بنت أم سلمة؟» يحتمل أن يكون للاستثبات ونفي الاشتراك ويحتمل أن يكون لإظهار جهة الإنكار عليها أو على من قال ذلك.وقوله عليه السلام: «لو لم تكن ربيبتي في حجري».والربيبة بنت الزوجة مشتقة من الرب وهو الإصلاح لأنه يربها ويقوم بأمورها وإصلاح حالها ومن ظن من الفقهاء: أنه مشتق من التربية فقد غلط لأن شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية والاشتراط مفقود فإن آخر رب باء موحدة وآخر ربي ياء مثناه من تحت والحجر بالفتح أفصح ويجوز بالكسر.وقد يحتج بهذا الحديث من يرى اختصاص تحريم الربيبة بكونها في الحجر وهو الظاهري وجمهور الفقهاء على التحريم مطلقا وحملوا التخصيص على أنه خرج مخرج الغالب وقالوا: ما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له وعندي نظر في أن الجواب المذكور في الآية فيه- أنه خرج مخرج الغالب: هل يرد في لفظ الحديث أو لا؟.وفي الحديث دليل على أن تحريم الجمع بين الأختين شامل للجمع على صفة الاجتماع في عقد واحد وعلى صفة الترتيب.5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها».جمهور الأمة على تحريم هذا الجمع أيضا وهو مما أخذ من السنة وإن كان إطلاق الكتاب يقتضي الإباحة لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]- الآية إلا أن الأئمة من علماء الأمصار خصوا ذلك العموم بهذا الحديث وهو دليل على جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد.وظاهر الحديث يقتضي التسوية بين الجمع بينهما على صفة المعية والجمع على صفة الترتيب وإذا كان النهي واردا على مسمى الجمع- وهو محمول على الفساد- فيقتضي ذلك: أنه إذا أراد نكحهما معا فنكاحهما باطل لأن هذا عقد حصل فيه الجمع المنهي عنه فيفسد وإن حصل الترتيب في العقدين فالثاني: هو الباطل لأن مسمى الجمع قد حصل به وقد وقع في بعض الروايات لهذا الحديث: «لا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى» وذلك مصرح بتحريم جمع الترتيب.والعلة في هذا النهي ما يقع بسبب المضارة من التباغض والتنافر فيقضي ذلك إلى قطيعة الرحم وقد ورد الإشعار بهذا التعليل.6- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج».ذهب قوم إلى ظاهر الحديث وألزموا الوفاء بالشروط وإن لم تكن من مقتضى العقد كأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا يخرجها من البلد لظاهر الحديث وذهب غيرهم: إلى أنه لا يجب الوفاء بمثل هذه الشروط التي لا يقتضيها العقد فإن وقع شيء منها فالنكاح صحيح والشرط باطل والواجب مهر المثل وربما حمل بعضهم الحديث على شروط يقتضيها العقد مثل: أن يقسم لها وأن ينفق عليها ويوفيها حقها أو يحسن عشرتها ومثل: أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه ونحو ذلك مما هو من مقتضيات العقد.
-
.كتاب النكاح: .مدخل: 1- عن عبد الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغرض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».الباءة: النكاح مشتق من اللفظ الذي يدل على الإقامة والنزول والباءة المنزل فلما كان الزوج ينزل بزوجته: سمى النكاح باءة لمجاز الملازمة واستطاعة النكاح: القدرة على مؤنة المهر والنفقة.وفيه دليل على أنه لا يؤمر به إلا القادر على ذلك وقد قالوا: من لم يقدر عليه فالنكاح مكروه في حقه وصيغة الأمر ظاهرة في الوجوب.وقد قسم الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة أعني الوجوب: والندب والتحريم والكراهة والإباحة وجعل الوجوب فيما إذا خالف العنب وقدر على النكاح إلا أنه لا يتعين واجبا بل إما هو وإما التسري فإن تعذر التسري تعين النكاح حينئذ للوجوب لا لأصل الشرعية.وقد يتعلق بهذه الصيغة من يرى أن النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادات وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.وقوله عليه السلام: «فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج» يحتمل أمرين:أحدهما: أن تكون أفعل فيه مما استعمل لغير المبالغة.والثاني: أن تكون على بابها فإن التقوى سبب لغض البصر وتحصين الفرج وفي معارضتها: الشهوة والداعي إلى النكاح وبعد النكاح: يضعف هذا المعارض فيكون أغض للبصر وأحصن للفرج مما إذا لم يكن فإن وقوع الفعل- مع ضعف الداعي إلى وقوعه- أندر من وقوعه مع وجود الداعي والحوالة على الصوم لما فيه كسر الشهوة فإن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوتها وتضعف بضعفها.وقد قيل في قوله: «فعليه بالصوم» بأنه إغراء للغائب وقد منعه قوم من أهل العربية والوجاء الخصاء وجعل وجاء: نظرا إلى المعنى فإن الوجاء قاطع للفعل وعدم الشهوة قاطع له أيضا وهو من مجاز المشابهة.وإخراج الحديث لمخاطبة الشباب: بناء على الغالب لأن أسباب قوة الداعي إلى النكاح فيه موجودة بخلاف الشيوخ والمعنى معتبر إذا وجد في الكهول والشيوخ أيضا.2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ما بال أقوام قالوا كذا؟ لكني أصلي وأنام وأصوم وافطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».يستدل به من يرجح النكاح على التخلي لنوافل العبادات فإن هؤلاء القوم قصدوا هذا القصد والنبي صلى الله عليه وسلم رده عليهم وأكد ذلك بأن خلافه: رغبة عن السنة ويحتمل أن تكون هذه الكراهة للتنطع والغلو في الدين وقد يختلف ذلك باختلاف المقاصد فإن من ترك اللحم- مثلا- يختلف في حكمه بالنسبة إلى مقصوده فإن كل من باب الغلو والتنطع والدخول في الرهبانية: فهو ممنوع مخالفة للشرع وإن كان لغير ذلك من المقاصد المحمودة كمن تركه تورعا لقيام شبهة في ذلك الوقت في اللحوم أو عجزا أو لمقصود صحيح غير ما تقدم: لم يكن ممنوعا.وظاهر الحديث: ما ذكرناه من تقديم النكاح كما يقوله أبو حنيفة ولا شك أن الترجيح يتبع المصالح ومقاديرها مختلفة وصاحب الشرع أعلم بتلك المقادير فإذا لم يعلم المكلفة حقيقة تلك المصالح ولم يستحضر أعدادها: فالأولى اتباع اللفظ الوارد في الشرع.3- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا).التبتل: ترك النكاح ومنه قيل لمريم عليها السلام البتول وحديث سعد أيضا من هذا الباب لأن عثمان بن مظعون ممن قصد التبتل والتخلي للعبادة مما هو داخل في باب التنطع والتشبه بالرهبانية إلا أن ظاهر الحديث: يقتضي تعليق الحكم بمسمى التبتل وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] فلابد أن يكون هذا المأمور.به في الآية غير المردود في الحديث ليحصل الجمع وكأن ذلك: إشارة إلى ملازمة التعبد أو كثرته لدلالة السياق عليه من الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن والذكر فهذه إشارة إلى كثرة العبادات ولم يقصد معها ترك النكاح ولا أمر به بل كان النكاح موجودا مع هذا الأمر ويكون ذلك التبتل المردود: ما انضم إليه مع ذلك- من الغلو في الدين وتجنب النكاح وغيره مما يدخل في باب التشديد على النفس بالإجحاف بها ويؤخذ من هذا: منع ما هو داخل في هذا الباب وشبهه مما قد يفعله جماعة من المتزهدين.4- عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي ابنة أبي سفيان, قال: «أو تحبين ذلك؟», فقلت: نعم, لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك لا يحل لي», قالت: إنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال: «بنت أم سلمة؟» قالت: قلت: نعم, قال: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن».قال عروة وثويبة: مولاة أبي لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر خيبة فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقي ثويبة.الخيبة: الحالة بكسر الخاء.الجمع بين الأختين وتحريم نكاح الربيبة: منصوص عليه في كتاب الله تعالى ويحتمل أن تكون هذه المرأة السائلة لنكاح أختها: لم يبلغها أمر هذا الحكم وهو أقرب من نكاح الربيبة فإن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بتقدم نزول الآية حيث قال: «لو لم تكن ربيبتي في حجري» وتحريم الجمع بين الأختين في النكاح متفق عليه فأما بملك اليمين: فكذلك عند علماء الأمصار وعن بعض الناس: فيه خلاف ووقع الاتفاق بعده على خلاف ذلك من أهل السنة غير أن الجمع في ملك اليمين: إنما هو في استباحة وطئها إذ الجمع في ملك اليمين: غير ممتنع اتفاقا وقال الفقهاء: إذا وطئ إحدى الأختين لم يطأ الأخرى حتى يحرم الأولى ببيع أو عتق أو كتابة أو تزويج لئلا يكون مستبيحا لفرجيهما معا.وقولها: (لست لك بمخلية) مضموم الميم ساكن الخاء المعجمة مكسور اللام معناه: لست أخلي بغير بغير ضرة.وقولها: (وأحب من شاركني) وفي رواية: «شركني» بفتح الشين وكسر الراء وأرادت بالخير ههنا: ما يتعلق بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من مصالح الدنيا والآخرة وأختها: اسما عزة بفتح العين وتشديد الزاي المعجمة.وقولها: (إنا كنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة) هذه يقال لها درة بضم الدال المهملة وتشديد الراء المهملة أيضا ومن قال فيه درة بفتح الذال المعجمة فقد صحف.وقد يقع من هذه المحاورة في النفس: أنها إنما سألت نكاح أختها لاعتقادها خصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم بإباحة هذا النكاح لا لعدم علمها بما دلت عليه الآية وذلك: أنه إذا كان سبب اعتقادها التحليل: اعتقادها خصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب ذلك: أن تعترض بنكاح درة بنت أبي سلمة فكأنها تقول: كما جاز نكاح درة- مع تناول الآية لها- جاز الجمع بين الأختين للاجتماع في الخصوصية أما إذا لم تكن عالمة بمقتضى الآية: فلا يلزم من كون الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بتحريم نكاح الأخت على الأخت أن يرد على ذلك تجويز نكاح الربيبة لزوما ظاهرا لأنهما إنما يشتركان حينئذ في أمر أعم أما إذا كانت عالمة بمدلول الآية: فيكون اشتراكهما في أمر خاص وهو التحريم العام واعتقاد التحليل الخاص.وقوله عليه السلام: «بنت أم سلمة؟» يحتمل أن يكون للاستثبات ونفي الاشتراك ويحتمل أن يكون لإظهار جهة الإنكار عليها أو على من قال ذلك.وقوله عليه السلام: «لو لم تكن ربيبتي في حجري».والربيبة بنت الزوجة مشتقة من الرب وهو الإصلاح لأنه يربها ويقوم بأمورها وإصلاح حالها ومن ظن من الفقهاء: أنه مشتق من التربية فقد غلط لأن شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية والاشتراط مفقود فإن آخر رب باء موحدة وآخر ربي ياء مثناه من تحت والحجر بالفتح أفصح ويجوز بالكسر.وقد يحتج بهذا الحديث من يرى اختصاص تحريم الربيبة بكونها في الحجر وهو الظاهري وجمهور الفقهاء على التحريم مطلقا وحملوا التخصيص على أنه خرج مخرج الغالب وقالوا: ما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له وعندي نظر في أن الجواب المذكور في الآية فيه- أنه خرج مخرج الغالب: هل يرد في لفظ الحديث أو لا؟.وفي الحديث دليل على أن تحريم الجمع بين الأختين شامل للجمع على صفة الاجتماع في عقد واحد وعلى صفة الترتيب.5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها».جمهور الأمة على تحريم هذا الجمع أيضا وهو مما أخذ من السنة وإن كان إطلاق الكتاب يقتضي الإباحة لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]- الآية إلا أن الأئمة من علماء الأمصار خصوا ذلك العموم بهذا الحديث وهو دليل على جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد.وظاهر الحديث يقتضي التسوية بين الجمع بينهما على صفة المعية والجمع على صفة الترتيب وإذا كان النهي واردا على مسمى الجمع- وهو محمول على الفساد- فيقتضي ذلك: أنه إذا أراد نكحهما معا فنكاحهما باطل لأن هذا عقد حصل فيه الجمع المنهي عنه فيفسد وإن حصل الترتيب في العقدين فالثاني: هو الباطل لأن مسمى الجمع قد حصل به وقد وقع في بعض الروايات لهذا الحديث: «لا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى» وذلك مصرح بتحريم جمع الترتيب.والعلة في هذا النهي ما يقع بسبب المضارة من التباغض والتنافر فيقضي ذلك إلى قطيعة الرحم وقد ورد الإشعار بهذا التعليل.6- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج».ذهب قوم إلى ظاهر الحديث وألزموا الوفاء بالشروط وإن لم تكن من مقتضى العقد كأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا يخرجها من البلد لظاهر الحديث وذهب غيرهم: إلى أنه لا يجب الوفاء بمثل هذه الشروط التي لا يقتضيها العقد فإن وقع شيء منها فالنكاح صحيح والشرط باطل والواجب مهر المثل وربما حمل بعضهم الحديث على شروط يقتضيها العقد مثل: أن يقسم لها وأن ينفق عليها ويوفيها حقها أو يحسن عشرتها ومثل: أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه ونحو ذلك مما هو من مقتضيات العقد.
-
وفي هذا الحمل ضعف لأن هذه الأمور لاتؤثر الشروط في إيجابها فلا تشتد الحاجة إلى تعليق الحكم بالاشتراط فيها.ومقتضى الحديث: أن لفظة: «أحق الشروط» تقتضي: أن يكون بعض الشروط يقتضي الوفاء, وبعضها أشد اقتضاء له والشروط التي هي مقتضى العقود: مستوية في وجوب الوفاء ويترجح على ما عدا النكاح: الشروط المتعلقة بالنكاح من جهة حرمة الأبضاع وتأكيد استحلالها والله أعلم.7- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الشغار.والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق».هذا اللفظ الذي فسر به الشغار تبين في بعض الروايات: أنه من كلام نافع والشغار بكسر الشين وبالغين المعجمة: اختلفوا في أصله في اللغة فقيل: هو من شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول كأن العاقد يقول: لا ترفع رجل ابنتي حتى أرفع رجل ابنتك وقيل: هو مأخوذ من شغر البلد: إذا خلا كأنه سمي بذلك للشغور عن الصداق.والحديث صريح في النهي عن نكاح الشغار واتفق العلماء على المنع منه واختلفوا- إذا وقع- فساد العقد فقال بعضهم: العقد صحيح والواجب مهر المثل وقال الشافعي: العقد باطل وعند مالك فيه تقسيم ففي بعض الصور: العقد باطل عنده وفي بعض الصور: يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده وهو ما إذا سمي الصداق في العقد بأن يقول: زوجتك ابنتي بكذا على أن تزوجني ابنتك بكذا فاستخف مالك هذا لذكر الصداق.وصورة الشغار الكاملة: أن يقول: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك وبضع كل منهما صداق الأخرى ومهما انعقد لي نكاح ابنتك انعقد لك نكاح ابنتي ففي هذه الصورة وجوه من الفساد.منها تعليق العقد.ومنها: التشريك في البضع.ومنها: اشتراط هدم الصداق وهو مفسد عند مالك ولا خلاف أن الحكم لا يختص بمن ذكر في الحديث وهو الابنة بل يتعدى إلى سائر الموليات.وتفسير نافع وقوله: (ولا صداق بينهما) يشعر بأن جهة الفساد: ذلك وإن كان يحتمل أن يكون ذكر ذلك لملازمته لجهة الفساد.وعلى الجملة: ففيه إشعار بأن عدم الصداق له مدخل في النهي.8- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية».نكاح المتعة: هو تزوج الرجل المرأة إلى أجل وقد كان ذلك مباحا ثم نسخ والروايات تدل على أنه: أبيح بعد النهي ثم نسخت الإباحة فإن هذا الحديث عن علي رضي الله عنه: يدل على النهي عنها يوم خيبر وقد وردت إباحته عام الفتح ثم النهي عنها وذلك بعد يوم خيبر.وقد قيل: إن ابن عباس رجع عن القول بإباحتها بعدما كان يقول به وفقهاء الأمصار كلهم على المنع وما حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز فهو خطأ قطعا وأكثر الفقهاء على الاقتصار في التحريم على العقد المؤقت وعداه مالك بالمعنى إلى توقيت الحل وإن لم يكن عقد فقال: إذا علق طلاق امرأته بوقت لابد من مجيئه: وقع عليها الطلاق الآن وعلله أصحابه بأن ذلك تأقيت للحل وجعلوه في معنى نكاح المتعة.وأما لحوم الحمر الأهلية: فإن ظاهر النهي التحريم وهو قول الجمهور وفي طريقة للمالكية: أنه مكروه مغلظ الكراهة ولم ينهوه إلى التحريم والتقيد بالأهلية: يخرج الحمر الوحشية ولا خلاف في إباحتها.9- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن» قالوا: يا رسول الله فكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت».كأنه أطلقت الأيم هاهنا بإزاء الثيب والاستئمار طلب الأمر والاستئذان طلب الإذن.وقوله: «فكيف إذنها؟» راجع إلى البكر.وفي الحديث دليل على أن إذن البكر سكوتها وهو عام بالنسبة إلى لفظ البكر ولفظ النهي في قوله: «لا تنكح» إما أن يحمل على التحريم أو على الكراهة فإن حمل على التحريم: تعين أحد الأمرين: إما أن يكون المراد بالبكر ما عدا الصغيرة فعلى هذا: لا تجبر البكر البالغ وهو مذهب أبي حنيفة وتمسكه بالحديث قوي لأنه أقرب إلى العموم من لفظ البكر وربما يزاد على ذلك بأن يقال: إن الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن ولا إذن للصغيرة فلا تكون داخلة تحت الإرادة ويختص الحديث بالبوالغ فيكون أقرب إلى التناول وإما أن يكون المراد: اليتيمة وقد اختلف قول الشافعي في اليتيمة: هل يكتفي فيها بالسكوت أم لا؟ والحديث يقتضي الاكتفاء به وقد ورد مصرحا به في حديث آخر ومال إلى ترجيح هذا القول من يميل إلى الحديث من أصحابه وغيرهم من أهل الفقه: يرجح الآخر.10- عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا, حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك», قالت: وأبو بكر عنده وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يؤذن له فنادى أبا بكر: ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.تطليقه إياها بالبتات من حيث اللفظ: يحتمل أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث ويحتمل أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث ويحتمل أن يكون بإيقاع آخر طلقة ويحتمل أن يكون بإحدى الكنايات التي تحمل على البينونة عند جماعة من الفقهاء وليس في اللفظ عموم ولا إشعار بأحد هذه المعاني وإنما يؤخذ ذلك من أحاديث أخر تبين المراد ومن احتج على شيء من هذه الاحتمالات بالحديث: فلم يصب لأنه إنما دل على مطلق البت والدال على المطلق لا يدل على أحد قيديه بعينه.وقولها: (فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير) هو بفتح الزاي وكسر الباء ثاني الحروف وثالثه ياء آخر الحروف.وقولها: (إنما معه مثل هدبة الثوب) فيه وجهان:أحدهما: أن تكون شبهته بذلك لصغره.والثاني: أن تكون شبهته به لاسترخائه وعدم انتشاره.وقوله عليه السلام: «لا حتى تذوقي عسيلته» يدل على أن الإحلال للزوج الثاني يتوقف على الوطء وقد يستدل به من يرى الانتشار في الإحلال شرطا من حيث إنه يرجح حمل قولها: (إنما معه مثل هدبة) على الاسترخاء وعدم انتشاره لاستبعاد أن يكون الصغر قد بلغ إلى حد لا تغيب منه الحشفة أو مقدارها الذي يحصل به التحليل.وقوله عليه السلام: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟» كأنه بسبب: أنه فهم عنها إرادة فراق عبد الرحمن وإرادة أن يكون فراقه سببا للرجوع إلى رفاعة وكأنه قيل لها: إن هذا المقصود لا يحصل إلا بالدخول ولم ينقل فيه خلاف إلا عن سعيد بن المسيب فيما نعلمه واستعمال لفظ العسيلة مجاز عن اللذة ثم عن مظنتها وهو الإيلاج فهو مجاز على مذهب جمهور الفقهاء الذين يكتفون بتغييب الحشفة.11- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب: أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب: أقام عندها ثلاثا ثم قسم. قال أبو قلابة ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.الذي اختاره أكثر الأصوليين: أن قول الراوي من السنة كذا في حكم المرفوع لأن الظاهر أنه ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يحتمل أن يكون ذلك قاله بناء على اجتهاد رآه ولكن الأظهر خلافه.وقول أبي قلابة لو شئت لقلت: إن أنسا رفعه. إلخ يحتمل وجهين:أحدهما: أن يكون ظن ذلك مرفوعا لفظا عن أنس فتحرز عن ذلك تورعا.والثاني: أن يكون رأى أن قول أنس من السنة في حكم المرفوع فلو شاء لعبر عنه بأنه مرفوع على حسب ما اعتقده: من أنه في حكم المرفوع والأول: أقرب لأن قوله من السنة يقتضي أن يكون مرفوعا بطريق اجتهادي محتمل وقوله إنه رفعه نص في رفعه وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهر محتمل إلى ما هو نص غير محتمل.والحديث يقتضي: أن هذا الحق للبكر أو الثيب: إنما هو فيه إذا كانتا متجددتين على نكاح امرأة قبلهما ولا يقتضي أنه ثابت لكل متجددة وإن لم يكن قبلها غيرها وقد استمر عمل الناس على هذا وإن لم يكن قبلها امرأة في النكاح والحديث لا يقتضيه.وتكلموا في علة هذا فقيل: إنه حق للمرأة على الزوج لأجل إيناسها وإزالة الحشمة عنها لتجددها أو يقال: إنه حق للزوج على المرأة.وأفرط بعض الفقهاء من المالكية فجعل مقامه عندها عذرا في إسقاط الجمعة إذا جاءت في أثناء المدة وهذا ساقط مناف للقواعد فإن مثل هذا من الآداب أو السنن لا يترك له الواجب ولما شعر بهذا بعض المتأخرين وأنه لا يصلح أن يكون عذرا: توهم أن قائله يرى الجمعة فرض كفاية وهو فاسد جدا لأن قول هذا القائل متردد محتمل أن يكون جعله عذرا أو أخطأ في ذلك وتخطئته في هذا أولى من تخطئته فيما دلت عليه النصوص وعمل الأمة من وجوب الجمعة على الأعيان.13- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا».فيه دليل استحباب التسمية والدعاء المذكور في ابتداء الجماع.وقوله عليه السلام: «لم يضره الشيطان» يحتمل أن يؤخذ عاما يدخل تحته الضرر الديني ويحتمل أن يؤخذ خاصا بالنسبة إلى الضرر البدني بمعنى أن الشيطان لا يتخبطه ولا يداخله بما يضر عقله أو بدنه وهذا أقرب وإن كان التخصيص على خلاف الأصل لأنا إذا حملناه على العموم اقتضى ذلك: أن يكون الولد معصوما عن المعاصي كلها وقد لا يتفق ذلك أو يعز وجوده ولابد من وقوع ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أما إذا حملناه على أمر الضرر في العقل أو البدن: فلا يمتنع ذلك ولا يدل دليل على وجوم خلافه والله أعلم.13- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء», فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت».ولمسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوهم.لفظ الحمو يستعمل عند الناس اليوم في أبي الزوج وهو محرم من المرأة لا يمتنع دخوله عليهما فلذلك فسره الليث بما يزيل هذا الإشكال وحمله على من ليس بمحرم فإنه لا يجوز له الخلوة بالمرأة.والحديث دليل على تحريم الخلوة بالأجانب.وقوله: «إياكم والدخول على النساء» مخصوص بغير المحارم وعام بالنسبة إلى غيرهن ولابد من اعتبار أمر آخر وهو أن يكون الدخول مقتضيا للخلوة أما إذا لم يقتض ذلك فلا يمتنع.وأما قوله عليه السلام: «الحمو الموت» فتأويله يختلف بحسب اختلاف الحمو فإن حمل على محرم المرأة- كأبي زوجها- فيحتمل أن يكون قوله: «الحمو الموت» بمعنى أنه لابد من إباحة دخوله كما أنه لابد من الموت وإن حمل على ما ليس بمحرم فيحتمل أن يكون هذا الكلام خرج مخرج التغليظ والدعاء لأنه فهم من قائله: طلب الترخيص بدخول مثل هؤلاء الذين ليسوا بمحارم فغلظ عليه لأجل هذا القصد المذموم بأن دخول الموت عوضا من دخوله زجرا عن هذا الترخيص على سبيل التفاؤل والدعاء كأنه يقال: من قصد ذلك فليكن الموت في دخوله عوضا من دخول الحمو الذي قصد دخوله ويجوز أن يكون شبه الحمو بالموت باعتبار كراهته لدخوله وشبه ذلك بكراهة دخول الموت..باب الصداق: 1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله أعتق صفية وجعل عتقها صداقها).قوله: (و جعل عتقها صداقها) يحتمل وجهين:أحدهما: أن يكون تزوجها بغير صداق على سبيل الخصوصية برسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان عتقها مقام الصداق إذ لم يكن ثم عوض سمي صداقا.والوجه الثاني: قول بعض الفقهاء أنه أعتقها فتزوجها على قيمتها وكانت مجهولة وذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعض أصحاب الشافعي معناه: أنه شرط عليها أن يعتقها ويتزوجها فقبلت فلزمها الوفاء به.
-
وقد اختلف الفقهاء فيمن أعتق أمته على أن يتزوجها ويكون عتقها صداقها فقال جماعة: لا يلزمها أن تتزوج به وممن قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة وهو إبطال للشرط قال الشافعي فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت ولا يلزمها الوفاء بتزوجه بل عليها قيمتها لأنه لم يرض بعتقها مجانا وصار ذلك كسائر الشروط الباطلة أو كسائر ما يلزم من الأعواض لمن لم يرض بالمجان.فإن تزوجته على مهر يتفقان عليه كان لها ذلك المسمى وعليها قيمتها للسيد فإن تزوجها على قيمتها: فإن كانت القيمة معلومة لها وله صح الصداق ولا يبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق وإن كانت مجهولة فالأصح من وجهي الشافعية أنه لا يصح الصداق ويجب مهر المثل والنكاح صحيح.ومنهم من صحح الصداق بالقيمة المجهولة على ضرب من الاستحسان وأن يرى العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف.وذهب جماعة منهم الثوري والزهري وقول عن أحمد وإسحاق: أنه يجوز أن يعتقها على أن يتزوج بها ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق على ظاهر لفظ الحديث.والأولون قد يؤولونه بما تقدم من أنه جعل عتقها قائما مقام الصداق فسماه باسمه والظاهر مع الفريق الثاني إلا أن القياس مع الأول فيتردد الحال بين ظن من نشأ من قياس وظن من نشأ من ظاهر الحديث مع احتمال الواقعة للخصوصية.وهي- وإن كانت على خلاف الأصل- إلا أنه يتأنس في ذلك بكثرة خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم في النكاح لاسيما هذه الخصوصية لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] ولعله يؤخذ من الحديث استحباب عتق الأمة وتزوجها كما جاء مصرحا به في حديث آخر.2- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك فقامت طويلا فقال رجل: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال: «هل عندك من شيء تصدقها؟», فقال: ما عندي إلا إزاري هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك فالتمس شيئا» قال: ما أجد, قال: «التمس ولو خاتما من حديد» فالتمس فلم يجد شيئا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل معك شيء من القرآن؟» قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن».في الحديث دليل على عرض المرأة نفسها على من ترجى بركته.وقولها: (وهبت نفسي لك) مع سكوت النبي صلى الله عليه وسلم دليل لجواز هبة المرأة نكاحها له صلى الله عليه وسلم كما جاء في الآية فإذا تزوجها على ذلك صح النكاح من غير صداق لا في الحال ولا في المآل ولا بالدخول ولا بالوفاة وهذا هو موضع الخصوصية فإن غيره ليس كذلك فلابد من المهر في النكاح إما مسمى أو مهر المثل.واستدل به من أجاز من الشافعية انعقاد نكاحه بلفظ الهبة ومنهم من منعه إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كغيره صل الله عليه وسلم وجعل الخصوصية عدم لزوم المهر فقط.وقوله: «هل عندك من شيء تصدقها؟» فيه دليل على طلب الصداق في النكاح وتسميته فيه.وقوله: «إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك» دليل على الإرشاد إلى المصالح من كبير القوم والرفق برعيته.وقوله: «فالتمس ولو خاتما من حديد» دليل على الاستحباب لئلا يخلى العقد من ذكر الصداق لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة فإنه لو حصل الطلاق قبل الدخول وجب لها نصف المسمى واستدل به من يرى جواز الصداق بما قل أو كثر وهو مذهب الشافعي وغيره ومذهب مالك أن أقله ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو قيمتها ومذهب أبي حنيفة أن أقله عشرة دراهم ومذهب بعضهم أن أقله خمسة دراهم واستدل به على جواز اتخاذ خاتم الحديد وفيه خلاف لبعض السلف وقد قيل عن بعض الشافعية كراهته.وقوله صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها» اختلف في هذه اللفظة فمنهم من رواها كما ذكر ومنهم من رواها: «ملكتها» ومنهم من رواها: «ملكتكها» فيستدل بهذه الرواية من يرى انعقاد النكاح بلفظ التمليك إلا أن هذه لفظة واحدة في حديث واحد اختلف فيها والظاهر القوي: أن الواقع أحد الألفاظ لا كلها فالصواب في مثل هذا النظر إلى الترجيح بأحد وجوهه ونقل عن الدارقطني أن الصواب رواية من روى: «زوجتكها» وأنه قال: وهم أكثر وأحفظ وقال بعض المتأخرين: ويحتمل صحة اللفظين ويكون أرجى لفظ التزويج أولا فملكها ثم قال له: «اذهب فقد ملكتها» بالتزويج السابق.قلت: هذا أولا بعيد فإن سياق الحديث يقتضي تعيين موضع هذه اللفظة التي اختلف فيها وأنها التي انعقد بها النكاح وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح واختلاف موضع كل واحد م اللفظين وهو بعيد جدا.وأيضا فلخصمه أن يعكس الأمر ويقول: كان انعقاد النكاح بلفظ التمليك وقوله عليه السلام: «زوجتكها» إخبارا عما مضى بمعناه فإن ذلك التمليك هو تمليك نكاح.وأيضا فإن رواية من روى ملكتها التي لم يتعرض لتأويلها يبعد فيها ما قال إلا على سبيل الإخبار عن الماضي بمعناه ولخصمه أن يعكسه وإنما الصواب في مثل هذا أن ينظر إلى الترجيح والله أعلم.وفي لفظ الحديث: متمسك لمن يرى جواز النكاح بتعليم القرآن والروايات مختلفة في هذا الموضع أيضا أعني قوله: «بما معك من القرآن», والناس متنازعون أيضا في تأويله فمنهم من يرى أن الباء هي التي تقتضي المقابلة في العقود كقولك: بعتك كذا بكذا وزوجتك بكذا ومنهم من يراها باء السببية أي بسبب ما معك من القرآن إما أن يخلى النكاح عن العوض على سبيل التخصيص لهذا الحكم بهذه الواقعة وإما أن يخلى عن ذكره فقط ويثبت فيه حكم الشرع في أمر الصداق.3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهيم؟» فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة فقال: «ما أصدقتها؟» قال: وزن نواة من ذهب, قال: «فبارك الله لك أولم ولو بشاة».ردع الزعفران بالعين المهملة: أثر لونه.وقوله عليه السلام: «مهيم» أي ما أمرك؟ وما خبرك؟ قيل: إنها لغة يمانية قال بعضهم: ويشبه أن تكون مركبة.وفي قوله عليه السلام: «ما أصدقتها؟» تنبيه وإشارة إلى وجود أصل الصداق في النكاح إما بناء على ما تقتضيه العادة وإما بنا على ما يقتضيه الشرع من استحباب تسميته في النكاح وذلك أنه سأله ب ما والسؤال ب ما بعد السؤال ب هل فاقتضى ذلك أن يكون أصل الإصداق متقررا لا يحتاج إلى السؤال عنه.وفي قوله: (وزن نواة) قولان:أحدهما: أن المراد نواة من نوى التمر وهو قول مرجوح ولا يتحدد الوزن به لاختلاف نوى التمر في المقدار.والثاني: أنه عبارة عن مقدار معلوم عندهم وهو وزن خمسة دراهم.ثم في المعنى وجهان:أحدهما: أن يكون المصدق ذهبا وزنه خمسة دراهم.والثاني: أن يكون المصدق دراهم بوزن نواة من ذهب وعلى الأول يتعلق قوله من ذهب بلفظ وزن وعلى الثاني: يتعلق بنواة.وقوله بارك الله لك دليل على استحباب الدعاء للمتزوج بمثل هذا اللفظ.والوليمة الطعام المتخذ لأجل العرس وهو من المطلوبات شرعا ولعل من جملة فوائده أن اجتماع الناس لذلك مما يقتضي اشتهار النكاح.وقوله: «أولم» صيغة أمر محمولة عند الجمهور على الاستحباب وأجراها بعضهم على ظاهرها فأوجب ذلك.وقوله: «ولو بشاة» يفيد معنى التقليل وليست لو هذه هي التي تقتضي امتناع الشيء لوجود غيره وقال بعضهم: هي التي تقتضي معنى التمني..كتاب الطلاق: .مدخل: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل».وفي لفظ: «حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها».وفي لفظ: «فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم».الطلاق في الحيض محرم للحديث وذكر عمر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لعله ليعرفه الحكم. وتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرا وكان يقتضي الحال التثبت في الأمر أو لأنه كان يقتضي الأمر المشاورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك إذا عزم عليه.وقوله عليه السلام: «ليراجعها» صيغة أمر محمولة عند الشافعي على الاستحباب وعند مالك على الوجوب ويجبر الزوج على الرجعة إذا طلق في الحيض عنده واللفظ يقتضي امتداد المنع للطلاق إلى أن تطهر من الحيضة الثانية لأن صيغة حتى للغاية وقد علل توقف الأمر إلى الطهر من الحيضة الثانية بأنه لو طلق في الطهر من الحيضة الأولى لكانت الرجعة لأجل الطلاق وليس ذلك موضوعها إنما هي موضوعة للاستباحة فإذا أمسك عن الطلاق في هذا الطهر استمرت الإباحة فيه وربما كان دوام مدة الاستباحة مع المعاشرة سببا للوطء فيمتنع الطلاق في ذلك الطهر لأجل الوطء فيه وفي الحيض الذي يليه فقد يكون سببا لدوام العشرة وعدم الطلاق.ومن الناس من علل امتناع الطلاق في الحيض بتطويل العدة فإن تلك الحيضة لا تحسب من العدة فيطول زمان التربص ومنهم من لم يعلل بذلك ورأى الحكم معلقا بوجود الحيض وصورته وينبني على هذا ما إذا قلنا: إن الحامل تحيض فطلقها في الحيض الواقع في الحمل فمن علل بتطويل العدة لم يحرم لأن العدة هاهنا بوضع الحمل ومن أراد الحكم على صورة الحيض منع.وقد يؤخذ من الحديث ترجيح المنع في هذه الصورة من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه المراجعة من غير استفصال ولا سؤال عن حال المرأة: هل هي حامل أو حائل؟ وترك الاستفصال في مثل هذا ينزل منزلة عموم المقال عند جمع من أرباب الأصول إلا أنه قد يضعف هاهنا هذا المأخذ لاحتمال أن يكون ترك الاستفصال لندرة الحيض في الحمل.وينبني أيضا على هذين المأخذين: ما إذا سألت المرأة الطلاق في الحيض هل يحرم طلاقها فيه؟ فمن مال إلى التعليل بطول المدة لما فيه من الإضرار بالمرأة لم يقتض ذلك التحريم لأنها رضيت بذلك الضرر ومن أدار الحكم على صورة الحيض منع والعمل بظاهر الحديث في ذلك أولى وقد يقال في هذا ما قيل في الأول من ترك الاستفصال وقد يجاب عنه فيهما بأنه مبني على الأصل فإن الأصل عدم سؤال الطلاق وعدم الحمل.ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في بعض طرق هذا الحديث: «مره فأمره بأمره» وعلى كل حال فلا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم لصيغة الأمر بالأمر بمعنى أنهما هل يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أم لا؟.وفي قوله: «قبل أن يمسها» دليل على امتناع الطلاق في الطهر الذي مسها فيه فإنه شرط في الإذن عدم المسيس لها والمعلق بالشرط معدوم عند عدمه وهذا هو السبب الثاني لكون الطلاق بدعيا وهو الطلاق في طهر مسها فيه وهو معلل بخوف الندم فإن المسيس سبب الحمل وحدوث الولد وذلك سبب للندامة الطلاق.وقوله فحسبت من طلاقها هو مذهب الجمهور من الأمة أعني وقوع الطلاق في الحيض والاعتداد به.2- عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب وفي رواية طلقها ثلاثا فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ليس لك عليه نفقة وفي لفظ: «ولا سكنى» فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني» قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد» فكرهته ثم قال: «انكحي أسامة بن زيد», فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به.
-
وقد اختلف الفقهاء فيمن أعتق أمته على أن يتزوجها ويكون عتقها صداقها فقال جماعة: لا يلزمها أن تتزوج به وممن قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة وهو إبطال للشرط قال الشافعي فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت ولا يلزمها الوفاء بتزوجه بل عليها قيمتها لأنه لم يرض بعتقها مجانا وصار ذلك كسائر الشروط الباطلة أو كسائر ما يلزم من الأعواض لمن لم يرض بالمجان.فإن تزوجته على مهر يتفقان عليه كان لها ذلك المسمى وعليها قيمتها للسيد فإن تزوجها على قيمتها: فإن كانت القيمة معلومة لها وله صح الصداق ولا يبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق وإن كانت مجهولة فالأصح من وجهي الشافعية أنه لا يصح الصداق ويجب مهر المثل والنكاح صحيح.ومنهم من صحح الصداق بالقيمة المجهولة على ضرب من الاستحسان وأن يرى العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف.وذهب جماعة منهم الثوري والزهري وقول عن أحمد وإسحاق: أنه يجوز أن يعتقها على أن يتزوج بها ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق على ظاهر لفظ الحديث.والأولون قد يؤولونه بما تقدم من أنه جعل عتقها قائما مقام الصداق فسماه باسمه والظاهر مع الفريق الثاني إلا أن القياس مع الأول فيتردد الحال بين ظن من نشأ من قياس وظن من نشأ من ظاهر الحديث مع احتمال الواقعة للخصوصية.وهي- وإن كانت على خلاف الأصل- إلا أنه يتأنس في ذلك بكثرة خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم في النكاح لاسيما هذه الخصوصية لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] ولعله يؤخذ من الحديث استحباب عتق الأمة وتزوجها كما جاء مصرحا به في حديث آخر.2- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك فقامت طويلا فقال رجل: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال: «هل عندك من شيء تصدقها؟», فقال: ما عندي إلا إزاري هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك فالتمس شيئا» قال: ما أجد, قال: «التمس ولو خاتما من حديد» فالتمس فلم يجد شيئا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل معك شيء من القرآن؟» قال: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن».في الحديث دليل على عرض المرأة نفسها على من ترجى بركته.وقولها: (وهبت نفسي لك) مع سكوت النبي صلى الله عليه وسلم دليل لجواز هبة المرأة نكاحها له صلى الله عليه وسلم كما جاء في الآية فإذا تزوجها على ذلك صح النكاح من غير صداق لا في الحال ولا في المآل ولا بالدخول ولا بالوفاة وهذا هو موضع الخصوصية فإن غيره ليس كذلك فلابد من المهر في النكاح إما مسمى أو مهر المثل.واستدل به من أجاز من الشافعية انعقاد نكاحه بلفظ الهبة ومنهم من منعه إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كغيره صل الله عليه وسلم وجعل الخصوصية عدم لزوم المهر فقط.وقوله: «هل عندك من شيء تصدقها؟» فيه دليل على طلب الصداق في النكاح وتسميته فيه.وقوله: «إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك» دليل على الإرشاد إلى المصالح من كبير القوم والرفق برعيته.وقوله: «فالتمس ولو خاتما من حديد» دليل على الاستحباب لئلا يخلى العقد من ذكر الصداق لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة فإنه لو حصل الطلاق قبل الدخول وجب لها نصف المسمى واستدل به من يرى جواز الصداق بما قل أو كثر وهو مذهب الشافعي وغيره ومذهب مالك أن أقله ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو قيمتها ومذهب أبي حنيفة أن أقله عشرة دراهم ومذهب بعضهم أن أقله خمسة دراهم واستدل به على جواز اتخاذ خاتم الحديد وفيه خلاف لبعض السلف وقد قيل عن بعض الشافعية كراهته.وقوله صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها» اختلف في هذه اللفظة فمنهم من رواها كما ذكر ومنهم من رواها: «ملكتها» ومنهم من رواها: «ملكتكها» فيستدل بهذه الرواية من يرى انعقاد النكاح بلفظ التمليك إلا أن هذه لفظة واحدة في حديث واحد اختلف فيها والظاهر القوي: أن الواقع أحد الألفاظ لا كلها فالصواب في مثل هذا النظر إلى الترجيح بأحد وجوهه ونقل عن الدارقطني أن الصواب رواية من روى: «زوجتكها» وأنه قال: وهم أكثر وأحفظ وقال بعض المتأخرين: ويحتمل صحة اللفظين ويكون أرجى لفظ التزويج أولا فملكها ثم قال له: «اذهب فقد ملكتها» بالتزويج السابق.قلت: هذا أولا بعيد فإن سياق الحديث يقتضي تعيين موضع هذه اللفظة التي اختلف فيها وأنها التي انعقد بها النكاح وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح واختلاف موضع كل واحد م اللفظين وهو بعيد جدا.وأيضا فلخصمه أن يعكس الأمر ويقول: كان انعقاد النكاح بلفظ التمليك وقوله عليه السلام: «زوجتكها» إخبارا عما مضى بمعناه فإن ذلك التمليك هو تمليك نكاح.وأيضا فإن رواية من روى ملكتها التي لم يتعرض لتأويلها يبعد فيها ما قال إلا على سبيل الإخبار عن الماضي بمعناه ولخصمه أن يعكسه وإنما الصواب في مثل هذا أن ينظر إلى الترجيح والله أعلم.وفي لفظ الحديث: متمسك لمن يرى جواز النكاح بتعليم القرآن والروايات مختلفة في هذا الموضع أيضا أعني قوله: «بما معك من القرآن», والناس متنازعون أيضا في تأويله فمنهم من يرى أن الباء هي التي تقتضي المقابلة في العقود كقولك: بعتك كذا بكذا وزوجتك بكذا ومنهم من يراها باء السببية أي بسبب ما معك من القرآن إما أن يخلى النكاح عن العوض على سبيل التخصيص لهذا الحكم بهذه الواقعة وإما أن يخلى عن ذكره فقط ويثبت فيه حكم الشرع في أمر الصداق.3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهيم؟» فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة فقال: «ما أصدقتها؟» قال: وزن نواة من ذهب, قال: «فبارك الله لك أولم ولو بشاة».ردع الزعفران بالعين المهملة: أثر لونه.وقوله عليه السلام: «مهيم» أي ما أمرك؟ وما خبرك؟ قيل: إنها لغة يمانية قال بعضهم: ويشبه أن تكون مركبة.وفي قوله عليه السلام: «ما أصدقتها؟» تنبيه وإشارة إلى وجود أصل الصداق في النكاح إما بناء على ما تقتضيه العادة وإما بنا على ما يقتضيه الشرع من استحباب تسميته في النكاح وذلك أنه سأله ب ما والسؤال ب ما بعد السؤال ب هل فاقتضى ذلك أن يكون أصل الإصداق متقررا لا يحتاج إلى السؤال عنه.وفي قوله: (وزن نواة) قولان:أحدهما: أن المراد نواة من نوى التمر وهو قول مرجوح ولا يتحدد الوزن به لاختلاف نوى التمر في المقدار.والثاني: أنه عبارة عن مقدار معلوم عندهم وهو وزن خمسة دراهم.ثم في المعنى وجهان:أحدهما: أن يكون المصدق ذهبا وزنه خمسة دراهم.والثاني: أن يكون المصدق دراهم بوزن نواة من ذهب وعلى الأول يتعلق قوله من ذهب بلفظ وزن وعلى الثاني: يتعلق بنواة.وقوله بارك الله لك دليل على استحباب الدعاء للمتزوج بمثل هذا اللفظ.والوليمة الطعام المتخذ لأجل العرس وهو من المطلوبات شرعا ولعل من جملة فوائده أن اجتماع الناس لذلك مما يقتضي اشتهار النكاح.وقوله: «أولم» صيغة أمر محمولة عند الجمهور على الاستحباب وأجراها بعضهم على ظاهرها فأوجب ذلك.وقوله: «ولو بشاة» يفيد معنى التقليل وليست لو هذه هي التي تقتضي امتناع الشيء لوجود غيره وقال بعضهم: هي التي تقتضي معنى التمني..كتاب الطلاق: .مدخل: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل».وفي لفظ: «حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها».وفي لفظ: «فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم».الطلاق في الحيض محرم للحديث وذكر عمر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لعله ليعرفه الحكم. وتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم إما لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرا وكان يقتضي الحال التثبت في الأمر أو لأنه كان يقتضي الأمر المشاورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك إذا عزم عليه.وقوله عليه السلام: «ليراجعها» صيغة أمر محمولة عند الشافعي على الاستحباب وعند مالك على الوجوب ويجبر الزوج على الرجعة إذا طلق في الحيض عنده واللفظ يقتضي امتداد المنع للطلاق إلى أن تطهر من الحيضة الثانية لأن صيغة حتى للغاية وقد علل توقف الأمر إلى الطهر من الحيضة الثانية بأنه لو طلق في الطهر من الحيضة الأولى لكانت الرجعة لأجل الطلاق وليس ذلك موضوعها إنما هي موضوعة للاستباحة فإذا أمسك عن الطلاق في هذا الطهر استمرت الإباحة فيه وربما كان دوام مدة الاستباحة مع المعاشرة سببا للوطء فيمتنع الطلاق في ذلك الطهر لأجل الوطء فيه وفي الحيض الذي يليه فقد يكون سببا لدوام العشرة وعدم الطلاق.ومن الناس من علل امتناع الطلاق في الحيض بتطويل العدة فإن تلك الحيضة لا تحسب من العدة فيطول زمان التربص ومنهم من لم يعلل بذلك ورأى الحكم معلقا بوجود الحيض وصورته وينبني على هذا ما إذا قلنا: إن الحامل تحيض فطلقها في الحيض الواقع في الحمل فمن علل بتطويل العدة لم يحرم لأن العدة هاهنا بوضع الحمل ومن أراد الحكم على صورة الحيض منع.وقد يؤخذ من الحديث ترجيح المنع في هذه الصورة من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه المراجعة من غير استفصال ولا سؤال عن حال المرأة: هل هي حامل أو حائل؟ وترك الاستفصال في مثل هذا ينزل منزلة عموم المقال عند جمع من أرباب الأصول إلا أنه قد يضعف هاهنا هذا المأخذ لاحتمال أن يكون ترك الاستفصال لندرة الحيض في الحمل.وينبني أيضا على هذين المأخذين: ما إذا سألت المرأة الطلاق في الحيض هل يحرم طلاقها فيه؟ فمن مال إلى التعليل بطول المدة لما فيه من الإضرار بالمرأة لم يقتض ذلك التحريم لأنها رضيت بذلك الضرر ومن أدار الحكم على صورة الحيض منع والعمل بظاهر الحديث في ذلك أولى وقد يقال في هذا ما قيل في الأول من ترك الاستفصال وقد يجاب عنه فيهما بأنه مبني على الأصل فإن الأصل عدم سؤال الطلاق وعدم الحمل.ويتعلق بالحديث مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء أم لا؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في بعض طرق هذا الحديث: «مره فأمره بأمره» وعلى كل حال فلا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب وإنما ينبغي أن ينظر في أن لوازم صيغة الأمر هل هي لوازم لصيغة الأمر بالأمر بمعنى أنهما هل يستويان في الدلالة على الطلب من وجه واحد أم لا؟.وفي قوله: «قبل أن يمسها» دليل على امتناع الطلاق في الطهر الذي مسها فيه فإنه شرط في الإذن عدم المسيس لها والمعلق بالشرط معدوم عند عدمه وهذا هو السبب الثاني لكون الطلاق بدعيا وهو الطلاق في طهر مسها فيه وهو معلل بخوف الندم فإن المسيس سبب الحمل وحدوث الولد وذلك سبب للندامة الطلاق.وقوله فحسبت من طلاقها هو مذهب الجمهور من الأمة أعني وقوع الطلاق في الحيض والاعتداد به.2- عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب وفي رواية طلقها ثلاثا فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ليس لك عليه نفقة وفي لفظ: «ولا سكنى» فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني» قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد» فكرهته ثم قال: «انكحي أسامة بن زيد», فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به.
-
قوله: (طلقها البتة) يحتمل أن يكون حكاية للفظ أوقع به الطلاق وقوله: (طلقها ثلاثا) تعبير عما وقع من الطلاق بلفظ البتة وهذا على مذهب من يجعل لفظ البتة للثلاث ويحتمل أن يكون اللفظ الذي وقع به الطلاق هو الطلاق الثلاث كما جاء في الرواية الأخرى ويكون قوله طلقها البتة تعبيرا عما وقع من الطلاق بلفظ الطلاق ثلاثا وهذا يتمسك به من يرى جواز إيقاع الطلاق الثلاث دفعة لعدم الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه يحتمل أن يكون قوله طلقها ثلاثا أي أوقع طلقة تتم بها الثلاث وقد جاء في بعض الروايات ثلاث تطليقات.وقوله: (وهو غائب) فيه دليل على وقوع الطلاق في غيبة المرأة وهو مجمع عليه.وقوله: (فأرسل إليها وكيله بشعير) يحتمل أن يكون مرفوعا ويكون الوكيل هو المرسل ويحتمل أن يكون منصوبا ويكون الوكيل هو المرسل وقد عين بعضهم للرواية الاحتمال الأول والضمير في قوله وكيله يعود على أبي عمرو بن حفص وقيل: اسمه كنيته وقيل: اسمه عبد الحميد وقيل اسمه أحمد وقال بعضهم: أبو حفص بن عمرو وقيل: أبو حفص بن المغيرة ومن قال أبو عمرو بن حفص أكثر.وقوله عليه السلام: «ليس لك عليه نفقة» هذا مذهب الأكثرين إذا كان البائن حلالا وأوجبها أبو حنيفة.وقوله: «ولا سكنى» هو مذهب أحمد وأوجب الشافعي ومالك السكنى لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] وأما سقوط النفقة فأخذوه من مفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6].فمفهومه إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن وقد نوزعوا في تناول الآية للبائن أعني قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} ومن قال لها السكنى فهو محتاج إلى الاعتذار عن حديث فاطمة فقيل في العذر ما حكوه عن سعيد بن المسيب أنها كانت امرأة لسنة استطالت على أحمائها فأمرها بالانتقال وقيل: لأنها خافت في ذلك المنزل وقد جاء في كتاب مسلم أخاف أن يقتحم علي.واعلم أن سياق الحديث على خلاف هذه التأويلات فإنه يقتضي أن سبب الحكم أنها اختلفت مع الوكيل بسبب سخطها الشعير وأن الوكيل ذكر أن لا نفقة لها: وأن ذلك اقتضى أن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابها بما أجاب وذلك يقتضي أن التعليل بسبب ما جرى من الاختلاف في وجوب النفقة لا بسبب هذه الأمور التي ذكرت فإن قام دليل أقوى وأرجح من هذا الظاهر عمل به.وقوله: «فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك» قيل: اسمها غزية وقيل: غزيلة وهي قرشية عامرية وقيل: إنها أنصارية.قوله عليه السلام: «تلك امرأة يغشاها أصحابي» قيل: كانوا يزورونها ويكثرون من التردد إليها لصلاحها ففي الاعتداد عندها حرج ومشقة في التحفظ من الرؤية إما في رؤيتهم لها أو رؤيتها لهم على مذهب من يرى تحريم نظر المرأة للأجنبي أو لهما معا.وقوله: «اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى» قد يحتج به من يروي جواز نظر المرأة إلى الأجنبي فإنه علل بالعمى وهو مقتض لعدم رؤيته لا لعدم رؤيتها فيدل على أن جواز الاعتداد عنده معلل بالعمى المنافي لرؤيته.واختار بعض المتأخرين تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي مستدلا بقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] وفيه نظر لأن لفظة من للتبعيض ولا خلاف أنها إذا خافت الفتنة حرم عليها النظر فإذا هذه حالة يجب فيها الغض فيمكن حمل الآية عليها ولا تدل حينئذ على وجوب الغض مطلقا أو في غير هذه الحالة وهذا إن لم يكن ظاهر اللفظ فهو محتمل له احتمالا جيدا يتوقف معه على الاستدلال على محل الخلاف.وقال هذا المتأخر: وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها في النظر إليه بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيره وهي مأمورة بغض بصرها فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة بخلاف مكثها في بيت أم شريك.وهذا الذي قاله إعراض عن التعليل بعماه وما ذكره من المشقة موجود في نظرها إليه مع مخالطتها له في البيت ويمكن أن يقال: إنما علل العمى لكونها تضع ثيابها من غير رؤيته لها فحينئذ يخرج التعليل عن الحكم باعتدادها عنده.وقوله عليه السلام: «فإذا حللت فآذنيني» ممدود الهمز أي أعلميني واستدل به على جواز التعريض بخطبة البائن وفيه خلاف عند الشافعية.قوله عليه السلام: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» فيه تأويلان.أحدهما: أنه كثير الأسفار.والثاني: أنه كثير الضرب ويترجح هذا الثاني بما جاء في بعض روايات: «مسلم» أنه ضراب النساء.وفي الحديث دليل على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند النصيحة ولا يكون من الغيبة المحرمة وهذا أحد المواضع التي أبيحت فيها الغيبة لأجل المصلحة والعاتق ما بين العنق والمنكب.وفي الحديث دليل على جواز استعمال مجاز المبالغة وجواز إطلاق مثل هذه العبارة فإن أبا جهم لابد وأن يضع عصاه حالة نومه وأكله وكذلك معاوية لابد وأن يكون له ثوب يلبسه مثلا لكن اعتبر حال الغلبة وأهدر حال النادر واليسير وهذا المجاز فيما قيل في أبي جهم أظهر منه فيما قيل في معاوية لأن لنا أن نقول إن لفظة المال انتقلت في العرف عن موضوعها الأصلي إلى ما له قدر من المملوكات أو ذلك مجاز شائع يتنزل منزلة النقل فلا يتناول الشيء اليسير جدا بخلاف ما قيل في أبي جهم.وقوله: «انكحي أسامة بن زيد» فيه جواز نكاح القرشية للمولى وكراهتها له إما لكونه مولى أو لسواده واغتبطت مفتوح التاء والباء.وأبو جهم المذكور في الحديث مفتوح الجيم ساكن الهاء وهو غير أبي الجهيم الذي في حديث التيمم..باب العدة: 1- عن سبيعة الأسلمية: أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم أن تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين للنكاح والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي.قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر.في الحديث دليل على أن الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل أي وقت كان وهو مذهب فقهاء الأمصار وقال بعضهم من المتقدمين إن عدتها أقصى الأجلين فإن تقدم وضع الحمل على تمام أربعة أشهر وعشر انتظرت وضع الحمل وقيل: إن بعض المتأخرين من المالكية: اختار هذا المذهب وهو سحنون.وسبب الخلاف تعارض عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234]- الآية مع قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فإن كل واحدة من الآيتين عام من وجه وخاص من وجه.فالآية الأولى: عامة في المتوفى عنهن أزواجهن سواء كن حوامل أم لا والثانية: عامة في أولات الأحمال سواء كن متوفى عنهن أم لا ولعل هذا التعارض هو السبب لاختيار من اختار أقصى الأجلين لعدم ترجيح أحدهما على الآخر وذلك يوجب أن لا يرفع تحريم العدة السابق إلا بيقين الحل وذلك بأقصى الأجلين غير أن فقهاء الأمصار اعتمدوا على هذا الحديث فإنه تخصيص لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] مع ظهور المعنى في حصول البراءة بوضع الحمل.وأبو السنابل بن بعك بفتح السين وبعك بفتح الباء وسكون العين.وفتح الكاف وهو ابن الحجاج بن الحارث بن السباق بن عبد الدار هكذا نسب وقيل: في نسبه غير ذلك قيل: اسمه عمرو وقيل: حبة بالباء وقيل: حنة بالنون.وقولها: (فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي) يقتضي انقضاء العدة بوضع الحمل وإن لم تطهر من النفاس كما صرح به الزهري فيما بعد ذلك وهو مذهب فقهاء الأمصار.وقال بعض المتقدمين: لا تحل من العدة حتى تطهر من النفاس ولعل بعضهم أشار إلى تعلق في هذا بقوله: (فلما تعلت من نفاسها) أي طهرت قال لها: «قد حللت فانكحي من شئت» رتب الحل على التعلي فيكون علة له وهذا ضعيف لتصريح هذه الرواية بأنه قد أفتاها بالحل بوضع الحمل وهو أصرح من ذلك الترتيب المذكور يعني ترتيب الحل على التعلي.وربما استدل بهذا الحديث بعضهم على أن العدة تنقضي بوضع الحمل على أي وجه كان مضغة أو علقة استبان فيه الخلق أم لا من حيث إنه رتب الحل على وضع الحمل من غير استفصال وترك الاستفصال في قضايا الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال وهذا هاهنا ضعيف لأن الغالب هو الحمل التام المتخلق ووضع المضغة والعلقة نادر وحمل الجواب على الغالب الظاهر وإنما تقوى تلك القاعدة حيث لا يترجح بعض الاحتمالات على بعض ويختلف الحكم باختلافها وقول ابن شهاب: قد قدمنا أنه قول فقهاء الأمصار والمنقول عنه خلاف ذلك: وهو الشعبي والنخعي وحماد.2- عن زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما قالت: توفي حميم لأم حبيبة فدعت بصفرة فمسحت بذراعيها فقالت: إنما أصنع هذا: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج: أربعة أشهر وعشرا».الحميم: القرابة.الإحداد: ترك الطيب والزينة وهو الواجب على المتوفى عنها زوجها ولا خلاف فيه في الجملة وإن اختلفوا في التفصيل.وقوله: «إلا على زوج» يقتضي الإحداد على كل زوج سواء كان بعد الدخول أو قبله.وقوله: «لامرأة» عام في النساء تدخل فيه الصغيرة والكبيرة والأمة وفي دخول الصغيرة تحت هذا اللفظ نظر فإن وجب من غير دخوله تحت اللفظ فبدليل آخر.وأما الكتابية: فلا تدخل تحت اللفظ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر» فمن هاهنا خالف بعضهم في وجوب الإحداد على الكتابية وأجاب غيره- ممن أوجب عليها الإحداد-: بأن هذا التخصيص له سبب والتخصيص إذا كان لفائدة أو سبب- غير اختلاف الحكم- لم يدل على اختلاف الحكم قال بعض المتأخرين في السبب في ذلك: إن المسلمة هي التي تستثمر خطاب الشارع وتنتفع به وتنقاد له فلهذا قيد به وغير هذا أقوى منه وهو أن يكون ذكر هذا الوصف لتأكيد التحريم لما يقتضيه سياقه ومفهومه من أن خلافه مناف للإيمان بالله واليوم الآخر كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فإنه يقتضي تأكيد أمر التوكل بربطه بالإيمان وكما يقال: إن كنت ولدي فافعل كذا وأصل لفظة الإحداد؟ من معنى المنع ويقال: حدت تحد إحدادا وحدت تحد- بفتح الحاء في الماضي من غير همز- وعن الأصبعي: أنه لم يجز إلا أحدت رباعيا والله أعلم.وقد يؤخذ من هذا الحديث: أنه لا إحداد على الأمة المستولدة لتعليق الحكم بالزوجية وتخصيص منع الإحداد بمن توفي عنها زوجها واقتضي مفهومه: أن لا إحداد إلا لمن توفي عنها زوجها والله أعلم.3- عن أم عطية رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج: أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت: نبذة من قسط أو أظفار».العصب: ثياب من اليمن فيها بياض وسواد.النبذة: الشيء اليسير والقسط العود أو نوع من الطيب تبخر به النفساء.والأظفار: جنس من الطيب لا واحد له من لفظه وقيل هو عطر أسود القطعة من تشبه الظفر.فيه دليل على منع المرأة المحد من الكحل ومذهب الشافعي: أنها لا تكتحل إلا ليلا عند الحاجة بما لا طيب فيه وجوزه بعضهم عند الحاجة وإن كان فيه طيب وجوزه آخرون إذا خافت على عينها بكحل لا طيب فيه والذين أجازوه: حملوا النهي المطلق على حالة عدم الحاجة والجواز على حالة الحاجة.وفي الحديث: المنع من الثياب المصبغة للزينة إلا ثوب العصب واستثنى بعضهم من المصبوغ: الأسود فرخص فيه ونقل عن بعضهم: كراهة العصب وعن بعضهم المنع والحديث حجة عليهم وقد يؤخذ من مفهوم الحديث: جواز ما ليس بمصبوغ وهي الثياب البيض ومنه بعض المالكية المرتفع منها الذي يتزين به وكذلك الجيد السواد.والنبذة بضم النون: القطعة والشيء اليسير والقسط بضم القاف والأظفار نوعان من البخور وقد رخص فيه في الغسل من الحيض في تطييب المحل وإزالة كراهته.4- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا»- مرتين أو ثلاثا- ثم قال: «إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول» فقالت زينب:كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها: دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تؤتي بدابة- حمار أو طير أو شاة- فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من الطيب أو غيره.الحفش: البيت الصغير, الحقير, وتفتض: تدلك به جسدها.يجوز في قولها اشتكت عينها وجهان:أحدهما: ضم النون على الفاعلية على أن تكون العين هي المشتكية.والثاني: فتحها ويكون المشتكي من اشتكت ضمير الفاعل وهي المرأة وقد رجح هذا ووقع في بعض الروايات عيناها.وقولها أفنكحلها بضم الحاء وقوله عليه السلام: «لا» يقتضي المنع من الكحل للحادة وإطلاقه يقتضي: أن لا فرق بين حالة الحاجة وغيرها إلا أنهم استثنوا حالة الحاجة وقد جاء في حديث آخر: «تجعله بالليل وتمسحه بالنهار» فحمل على حالة الحاجة وقيل: في قوله عليه السلام: «لا» وجهان:أحدهما: أنه نهي تنزيه.والثاني: أنه مؤول على أنه لم يتحقق الخوف على عينها.وقوله عليه السلام: «إنما هي أربعة أشهر وعشر» تقليل للمدة وتهوين للصبر على ما منعت منه.وقوله عليه السلام: «وقد كانت إحداكن ترمي بالبصرة عند رأس الحول» قد فسر في الحديث واختلفوا في وجه الإشارة فقيل: إنها رمت بالعدة وخرجت منها كانفصالها من هذه البعرة ورميها بها وقيل: هو إشارة إلى أن الذي فعلته وصبرت عليه من الاعتداد سنة ولبسها شر ثيابها ولزومها بيتا صغيرا: هين بالنسبة إلى حق الزوج وما يستحقه من المراعاة كما يهون الرمي بالبعرة.وقولها: دخلت حفشا بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء وبالشين المعجمة: أي بيتا صغيرا حقيرا قريب السمك.وقولها: ثم تؤتي بدابة: حمار أو طير أو شاة هو بدل من دابة وقولها فتفتض به بفتح ثالث الحروف وسكون الفاء وآخره ضاد معجمة قال ابن قتيبة: سألت الحجازيين عن معنى الإفتضاض؟ فذكروا: أن المعتدة كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تفتض أي تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش ما تفتض به وقال مالك: معناه تمسح به جلدها وقال ابن وهب: تمسح بيدها عليه أو على ظهره وقيل: معناه تمسح به ثم تفتض أي تغتسل والافتضاض الاغتسال بالماء العذب للاتقاء وإزالة الوسخ حتى تصير بيضاء نقية كالفضة في نقائها وبياضها وقال الأخفش: معناه تتنظف وتتنقى من الدرن تشبيها لها بالفضة في نقائها وبياضها وقيل: إن الشافعي روى هذه اللفظة بالقاف والصاد المهملة والباء ثاني الحروف والمعروف هو الأول.
-
.كتاب اللعان: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن فلان بن فلان, قال: يا رسول الله أرأيت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ثم دعاها فوعظها وأخبرها: أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله: إنه لمن الصادقين والخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله: إنه لمن الكاذبين والخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما ثم قال: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟- ثلاثا».وفي لفظ: «لا سبيل لك عليها» قال: يا رسول الله مالي؟ قال: «لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت فهو أبعد لك منها».اللعان لفظة مشتقة من اللعن سميت بذلك لما في اللفظ من ذكر اللعنة.وقوله: (أرأيت لو أن أحدنا) يحتمل أن يكون سؤالا عن أمر لم يقع فيؤخذ منه: جوز مثل ذلك والاستعداد للوقائع بعلم أحكامها قبل أن تقع وعليه استمر عمل الفقهاء فيما فرعوه وقرروه من النازل قبل وقوعها وقد كان السلف من يكره الحديث في الشيء قبل أن يقع ويراه من ناحية التكلف.وقول الراوي: فلما كان بعد ذلك: أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون السؤال عما لم يقع ثم وقع.والثاني: أن يكون السؤال أولا عما وقع وتأخر الأمر في جوابه فبين ضرورته إلى معرفة الحكم.والحديث يدل على أن سؤاله سبب نزول الآية وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لها عليه: لتعريف الحكم والعمل بمقتضاها وموعظة النبي صلى الله عليه وسلم: قد ذكر الفقهاء استحبابها عندما تريد المرأة أن تلفظ بالغضب وظاهر هذه الرواية: أنه لا يختص بالمرأة فإنه ذكره فيها وفي الرجل فلعل هذه موعظة عامة ولا شك أن الرجل متعرض للعذاب وهو حد القذف كما أن المرأة متعرضة للعذاب الذي هو الرجم إلا أن عذابها أشد.وظاهر لفظ الحديث والكتاب العزيز: يقتضي تعيين لفظ الشهادة وذلك يقتضي أن لا تبدل بغيرها.والحديث يقتضي أيضا: البداءة بالرجل وكذلك لفظ الكتاب العزيز لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] إن الدرء يقتضي وجوب سبب العذاب عليها وذلك بلعان الزوج واختصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها على تقدير وقوعه لما فه من تلويث الفراش والتعرض لإلحاق من ليس من الزوج به وذلك أمر عظيم يترتب عليه مفاسد كثيرة كانتشار المحرمية وثبوت الولاية على الإناث واستحقاق الأموال بالتوارث فلا جرم خصت بلفظة الغضب التي هي أشد من اللعنة ولذلك قالوا: لو أبدلت المرأة الغضب باللعنة: لم يكتف به أما لو أبدل الرجل اللعنة بالغضب: فقد اختلفوا فيه والأولى اتباع النص.وفي الحديث: دليل على إجراء الأحكام على الظاهر وعرض التوبة على المذنبين وقد يؤخذ منه: أن الزوج لو رجع وأكذب نفسه: كان توبة ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى التوبة فيما بينهما وبين الله.وقوله عليه السلام: «لا سبيل لك عليها» يمكن أن يؤخذ منه: وقوع التفريق بينهما باللعان لعموم قوله: «لا سبيل لك عليها» ويحتمل أن يكون «لا سبيل لك عليها» راجعا إلى المال.وقوله: «إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللت من فرجها» دليل على استقرار المهر بالدخول وعلى استقرار مهر الملاعنة أما هذا: فبالنص وأما الأول: فبتعليله صلى الله عليه وسلم.وقوله: «بما استحللت من فرجها» فيه دليل على أنه لا يستقر ولو أكذبت نفسها لوجود العلة المذكورة والله أعلم.2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا رمى امرأته وانتفى من ولدها في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا (كما قال الله تعالى) ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين.هذه الرواية الثانية فيها زيادة نفي الولد وأنه يلتحق بالمرأة ويرثها بإرث البنوة منها, وتثبت أحكام البنوة بالنسبة إليها ومفهومه يقتضي انقطاع النسب إلى الأب مطلقا وقد ترددوا فيما لو كانت بنتا هل يحل للملاعن تزوجها؟.وقوله: (فتلاعنا كما قال الله تعالى) ليس فيه ما يشعر بذكر نفي الولد في لعانه إلا بطريق الدلالة فإن كتاب الله يقتضي أن يشهد أنه لمن الصادقين وذلك راجع إلى ما ادعاه ودعواه قد اشتملت على نفي الولد.وقوله: (فرق بين المتلاعنين) يقتضي أن اللعان موجب للفرقة ظاهرا.3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسودا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك إبل؟», قال: نعم قال: «فما ألوانها؟» قال: حمر قال: «فهل يكون فيها من أورق؟», قال: إن فيها لورقا, قال: «فأنى أتاها ذلك؟» قال: عسى أن يكون نزعه عرق, قال: «وهذا عسى أن يكون نزعة عرق».فيه ما يشعر بأن التعريض بنفي الولد لا يوجب حدا كما قيل وفيه نظر لأنه جاء على سبيل الاستفتاء والضرورة داعية إلى ذكره وإلى عدم ترتب الحد أو التعزير على المستفتين.وفيه دليل على أن المخالفة في اللون بين الأب والابن- بالبياض والسواد- لا تبيح الانتفاء وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكم والتعليل وأجاز بعضهم في السواد الشديد مع البياض الشديد والورقة لون يميل إلى الغبرة كلون الرماد يسمى أورق والجمع ورق بضم الواو وسكون الراء.واستدل به الأصوليون على العمل بالقياس فإن النبي صلى الله عليه وسلم حصل منه التشبيه لولد هذا الرجل المخالف للونه بولد الإبل المخالف لألوانها وذكر العلة الجامعة وهي نزع العرق إلا أنه تشبيه في أمر وجودي والذي حصلت المنازعة فيه: هو التشبيه في الأحكام الشرعية.4- عن عائشة رضي الله عنها قال: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: «هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة» فلم ير سودة قط.يقال زمعة بإسكان الميم وهو الأكثر ويقال زمعة بفتح الميم أيضا.والحديث أصل في إلحاق الولد صاحب الفراش وإن طرأ عليه وطء محرم وقد استدل به بعض المالكية على قاعدة من قواعدهم وأصل من أصول المذهب وهو الحكم بين حكمين وذلك أن يكون الفرع يأخذ مشابهة من أصول متعددة: فيعطى أحكاما مختلفة ولا يمحض لأحد الأصول.وبيانه من الحديث: أن الفراش مقتض لإلحاقه بزمعة والشبه البين مقتض لإلحاقه بعتبة فأعطي النسب بمقتضى الفراش وألحق بزمعة وروعي أمر الشبه بأمر سودة بالاحتجاب منه فأعطي الفرع حكما بين حكمين فلم يمحض أمر الفراش فتثبت المحرمية بينه وبين سودة ولا روعي أمر الشبه مطلقا فيلتحق بعتبة.قالوا: وهذه أولى التقديرات فإن الفرع إذا دار بين أصلين فألحق بأحدهما مطلقا فقد أبطل شبهه الثاني من وكل وجه وكذلك إذا فعل بالثاني ومحض إلحاقه به: كان إبطالا لحكم شبهه بالأول فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه: كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه.ويعترض على هذا بأن صورة النزاع: ما إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين يقتضي الشرع إلحاقه بكل واحد منهما من حيث النظر إليه وهاهنا لا يقتضي الشرع إلا إلحاق هذا الولد بالفراش والشبه هاهنا غير مقتض للإلحاق شرعا فيحمل قوله: «واحتجبي منه يا سودة» على سبيل الاحتياط والإرشاد إلى مصلحة وجودية لا على سبيل بيان حكم شرعي ويؤكده: أنا لو وجدنا شبها في ولد لغير صاحب الفراش لم يثبت لذلك حكما وليس في الاحتجاب هاهنا إلا ترك أمر مباح على تقدير ثبوت المحرمية وهو قريب.
-
وقوله عليه السلام: «هو لك» أي أخ وقوله عليه السلام: «الولد للفراش» أي تابع للفراش أو محكوم له للفراش أو يقارب هذا.وقوله عليه السلام: «وللعاهر الحجر» قيل: إن معناه: أن له الخيبة مما ادعاه وطلبه كما يقال: لفلان التراب وكما جاء في الحديث الصحيح: «وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا» تعبيرا بذلك عن خيبته: وعدم استحقاقه لثمن الكلب وإنما لم يجروا اللفظ على ظاهره ويجعلوا الحجر هاهنا عبارة عن الرجم المستحق في حق الزاني: لأنه ليس كل عاهر يستحق الرجم وإنما يستحقه المحصن فلا يجرى لفظ العاهر على ظاهره في العموم أما إذا حملناه على ما ذكرناه من الخيبة: كان ذلك عاما في حق كل زان والأصل العمل بالعموم فيما تقتضيه صيغته.5- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: «ألم تري أن مجززا نظرا آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض».وفي لفظ: «كان مجزز قائفا».أسارير وجهه تعني الخطوط التي في الجبهة واحدها سرر وسرر وجمعه أسرار وجمع الجمع أسارير وقال الأصمعي: الخطوط التي تكون في الكف مثلها السرر- بفتح السين والراء- والسرر- بكسر السين.استدل به فقهاء الحجاز ومن تبعهم على أصل من أصولهم وهو العمل بالقيافة حيث يشتبه إلحاق الولد بأحد الواطئين فهو طهر واحد لا في كل الصور بل في بعضها.ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم سر بذلك وقال الشافعي رحمه الله: ولا يسر بباطل وخالفه أبو حنيفة وأصحابه واعتذارهم عن الحديث: أنه لم يقع فيه إلحاق متنازع فيه ولا هو وارد في محل النزاع فإن أسامة كان لاحقا بفراش زيد من غير منازع له فيه وإنما كان الكفار يطعنون في نسبه للتباين بين لونه ولون أبيه في السواد والبياض فلما غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما وألحق مجزز أسامة بزيد: كان ذلك إبطالا لطعن الكفار بسبب اعترافهم بحكم القيافة وإبطال طعنهم حق فلم يسر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بحق.والأولون يجيبون: بأنه- وإن كان ذلك واردا في صورة خاصة- إلا أنه له جهة عامة وهي دلالة الأشباه على الأنساب فنأخذ هذه الجهة من الحديث ونعمل بها.واختلف مذهب الشافعي في أن القيافة: هل تختص ببني مدلج أم لا؟ من حيث إن المعتبر في ذلك الأشباه وذلك غير خاص بهم أو يقال: إن لهم في ذلك قوة ليست لغيرهم ومحل النص إذا اختص بوصف يمكن اعتباره لم يمكن إلغاؤه لاحتمال أن يكون مقصودا للشارع.ومجزز بضم الميم وفتح الجيم وكسر الزاي المشددة المعجمة وبعدها زاي معجمة.واختلف مذهب الشافعي أيضا في أنه هل يعتبر العدد في القائف أم يكتفي القائف الواحد؟ فإن مجززا انفرد بهذه القيافة ولا يرد على هذا لأنه ليس من محال الخلاف وإذا أخذ من هذا الحديث: الاكتفاء بالقائف الواحد فليس من محال الخلاف كما قدمنا.وقوله آنفا أي في الزمن القريب من القول وقد ترك في هذه الرواية ذكر تغطية أسامة وزيد رؤوسهما وظهور أقدامهما وهي زيادة مفيدة جدا لما فيها من الدلالة على صدق القيافة وكان يقال: إن من علوم العرب ثلاثة: السيافة والعيافة والقيافة فأما السيافة: فهي شم تراب الأرض ليعلم بها الاستقامة على الطريق أو الخروج منها قال المعري:أودي فليت الحادثات كفاف ** مال المسيف وعنبر المستاف والمستاف هو هذا القاص وأما العيافة: فهي زجر الطير والطيرة والتفاؤل بهما وما قارب ذلك وأما السانح والبارح: ففي الوحش وفي الحديث: «العيافة والطيرة والطَرْقُ من الجبت» وهو الرمي بالحصا.وأما القيافة: فهي ما نحن فيه وهو اعتبار الأشباه لإلحاق الأنساب.6- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ذكر العزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ولم يفعل ذلك أحدكم؟»- ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم «فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها».اختلف الفقهاء في حكم العزل فأباحه بعضهم مطلقا وقيل: فيه: إذا جاز ترك أصل الوطء جاز ترك الإنزال ورجح هذا بعض أصحاب الشافعي ومن الفقهاء من كرهه في الحرة إلا بإذنها وفي الزوجة إلا بإذن السيد لحقهما في الولد ولم يكرهه في السراري لما في ذلك- أعني الإنزال- من التعرض لإتلاف المالية وهذا مذهب المالكية.وفي الحديث إشارة إلى إلحاق الولد وإن وقع العزل وهو مذهب أكثر الفقهاء.7- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل).قال سفيان: (لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن).يستدل به من يجيز العزل مطلقا واستدل جابر بالتقرير من الله تعالى على ذلك وهو استدلال غريب وكان يحتمل أن يكون الاستدلال بتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه مشروط بعلمه بذلك ولفظ الحديث لا يقتضي إلا الاستدلال بتقرير الله تعالى.8- عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه- وهو يعلمه- إلا كفر ومن ادعى ما لي له: فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلا بالكفر», أو قال: «عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه».كذا عند مسلم وللبخاري نحوه.يدل على تحريم الانتفاء من النسب المعروف والاعتزال إلى نسب غيره ولا شك أن ذلك كبيرة لما يتعلق به من المفاسد العظيمة وقد نبهنا على بعضها فيما مضى وشرط الرسول صلى الله عليه وسلم العلم لأن الأنساب قد تتراخى فيها مدد الآباء والأجداد ويتعذر العلم بحقيقتها وقد يقع اختلال في النسب في الباطن من جهة النساء ولا يشعر به فشرط العلم لذلك.وقوله: «إلا كفر» متروك الظاهر عند الجمهور فيحتاجون إلى تأويله وقد يؤول بكفر النعمة أو بأنه أطلق عليه «كفر» لأنه قارب الكفر لعظم الذنب فيه تسمية للشيء باسم ما قاربه أو يقال: بتأويله على فاعل ذلك مستحلا له.وقوله عليه السلام: «من ادعى ما ليس له» يدخل فيه الدعاوى الباطلة كلها ومنها: دعوى المال بغير حق وقد جعل الوعيد عليه بالنار لأنه لما قال: «فليتبوأ مقعده من النار» اقتضى ذلك تعيين دخوله النار لأن التخيير في الأوصاف فقط يشعر بثبوت الأصل.وأقول: إن هذا الحديث يدخل تحته ما ذكره بعض الفقهاء في الدعاوى من نصب مسخر يدعي في بعض الصور حفظا لرسم الدعوى والجواب وهذا المسخر يدعي ما يعلم أنه ليس له والقاضي الذي يقيمه عالم بذلك أيضا وليس حفظ هذه القوانين من المنصوصات في الشرع حتى يخص بها هذا العموم والمقصود الأكبر في القضاء إيصال الحق إلى مستحقه فانخرام هذه المراسم الحكمية مع تحصيل مقصود القضاء وعدم تنصيص صاحب الشرع على وجوبها: أولى من مخالفة هذا الحديث والدخول تحت الوعيد العظيم الذي دل عليه وهذه طريقة أصحاب مالك أعني عدم التشديد في هذه المراسيم.وقوله عليه السلام: «فليس منا» أخف مما مضى فيمن ادعى إلى غير أبيه لأنه أخف في المفسدة من الأولى إذا كانت الدعوى بالنسبة إلى المال وليس في اللفظ ما يقتضي الزيادة على الدعوى بأخذ المال المدعى به مثلا وقد يدخل تحت هذا اللفظ: الدعاوي الباطلة في العلوم إذا ترتبت عليها مفاسد.وقوله: «فليس منا» قد تأوله بعض المتقدمين في غير هذا الوضع بأن قال: ليس مثلنا فرارا من القول بكفره وهذا كما يقول الأب لولده- إذا أنكر منه أخلاقا أو أعمالا- لست مني وكأنه من باب نفي الشيء لانتفاء ثمرته فإن المطلوب أن يكون الابن مساويا للأب فيما يريده من الأخلاق الجميلة فلما انتفت هذه الثمرة نفيت البنوة مبالغة وأما من وصف غيره.بالكفر: فقد رتب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «حار عليه» بالحاء المهملة: أي رجع قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] أي يرجع حيا وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدا من المسلمين وليس كذلك هي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك.وقد اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صنف فيه مفردا والذي يرجع إليه النظر في هذا: أن مآل المذهب: هل هو مذهب أو لا؟ فمن أكفر المبتدعة قال: إن مآل المذهب مذهب فيقول: المجسمة كفار لأنه عبدوا جسما وهو غير الله تعالى فهم عابدون لغير الله ومن عبد غير الله كفر ويقول: المعتزلة كفار لأنهم- وإن اعترفوا بأحكام الصفات- فقد أنكروا الصفات ويلزم من إنكار الصفات إنكار أحكامها ومن أنكر أحكامها فهو كافر وكذل المعتزلة تنسب الكفر إلى غيرها بطريق المآل.والحق: أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشرعية عن صاحبها فإنه حينئذ يكون مكذبا للشرع وليس مخالفة القواطع مأخذا للتكفير وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقا ودلالة.وعبر بعض أصحاب الأصول عن هذا بما معناه: إن من أنكر طريق إثبات الشرع لم يكفر كمن أنكر الإجماع ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقة كفر لأنه مكذب وقد نقل عن بعض المتكلمين أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني وربما خفي سبب هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح والذي ينبغي أن يحمل عليه: أنه قد لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلا بالكفر- وليس كذلك- رجع عليه الكفر وكذلك قال عليه السلام: «من قال لأخيه: كافر: فقد باء بهما أحدهما» وكأن هذا المتكلم يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين: إما المكفر أو المكفر فإذا أكفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا وأنا قاطع بأني لست بكافر فالكفر راجع إليه..كتاب الرضاع: 1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: «لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة».صريحه: يدل على أن بنت الأخ من الرضاعة حرام وقوله عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» الحرام من النسب سبع: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت فيحرمن بالرضاع كما يحرم من النسب.فأمك كل من أرضعتك أو أرضعت من أرضعتك أو أرضعت من ولدتك بواسطة أو بغير واسطة وكذلك كل امرأة ولدت المرضعة والفحل.وكل امرأة أرضعت بلبنك أو أرضعتها امرأة ولدتها أو أرضعت بلبن من ولدته فهي بنتك وكذلك بناتها من النسب والرضاع.وكل امرأة أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك فهي أختك وكذلك كل امرأة ولدتها المرضعة أو الفحل فأخوات الفحل والمرضعة وأخوات من ولدتها من النسب والرضاع عماتك وخالاتك.وكذلك كل امرأة أرضعتها واحدة من جداتك أو أرضعت بلبن واحد من أجدادك من النسب أو الرضاع وبنات أولاد المرضعة والفحل في الرضاع والنسب بنات أخيك وأختك وكذلك كل أنثى أرضعتها أختك أو أرضعت بلبن وبناتها وبنات أولادها من الرضاع والنسب بنات أختك وبنات كل ذكر أرضعته أمك أو أرضع بلبن أخيك أو أختك وبنات أولادهن من الرضاع والنسب بنات أخيك وبنات كل امرأة أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك وبنات أولادها من النسب والرضاع أو أختك.وقد استثنى الفقهاء من هذا العموم أعني قوله عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» أربع نسوة يحرمن من النسب ولا يحرمن من الرضاع.الأولى: أم أخيك وأم أختك من النسب هي أمك أو زوجة أبيك وكلاهما حرام ولو أرضعت أجنبية أخاك أو أختك لم تحرم.الثانية: أم نافلتك إما بنتك أو زوجة ابنك وهما حرام وفي الرضاع قد لا تكون بنتا ولا زوجة ابن بأن ترضع أجنبية نافلتك.الثالثة: جدة ولدك من النسب: إما أمك أو أم زوجتك وهما حرامان وفي الرضاعة قد لا تكون أما ولا أم زوجة كما إذا أرضعت أجنبية ولدك فأمها جدة ولدك وليست بأمك ولا أم زوجتك.الرابعة: أخت ولدك من النسب حرام لأنها إما ابنتك أو ربيبتك ولو أرضعت أجنبية ولدك فبنتها أخت ولدك وليست ببنت ولا ربيبة فهذه الأربع مستثنيات من عموم قولنا: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
-
وأما أخت الأخ فلا تحرم من النسب ولا من الرضاع وصورته أن يكون لك أخ من أب وأم وأخت من أم فيجوز لأخيك من الأب نكاح أختك من الأم وهي أخت أخيه وصورته من الرضاع امرأة أرضعتك وأرضعت صغيرة أجنبية منك يجوز لأخيك نكاحها وهي أختك.وفي معنى هذا الحديث: حديث عائشة الذي بعده وهو قوله عليه السلام: «إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة» وهو:2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة».3- وعنها قالت: إن أفلح- أخا أبي القعيس- استأذن علي بعدما أنزل الحجاب؟ فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فإن أخا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته فقال: «ائذني له فإنه عمك تربت يمينك».قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب.وفي لفظ: استأذن علي أفلح فلم آذن له فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلت: كيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي قالت: فسألت رسول الله عليه وسلم فقال: «صدق أفلح ائذني له تربت يمينك».أي افتقرت والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به.4- وعنها رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: «يا عائشة من هذا؟» قلت: أخي من الرضاعة, فقال: «يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة».«انظرن من إخوانكن» نوع من التعريض لخشية أن تكون رضاعة ذلك الشخص وقعت في حال الكبر.وفيه دليل على أن كلمة إنما للحصر لأن المقصود حصر الرضاعة المحرمة في المجاعة لا مجرد إثبات الرضاعة في زمن المجاعة.5- عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه: أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: فأعرض عني قال: فتنحيت فذكرت ذلك له قال: «كيف؟ وقد زعمت أن قد أرضعتكما».من الناس من قال: إنه تقبل شهادة المرضعة وحدها في الرضاع أخذا بظاهر هذا الحديث ولابد فيه مع ذلك أيضا إذا أجريناه على ظاهره من قبول شهادة الأمة ومنهم من لم يقبل ذلك وحمل هذا الحديث على الورع ويشعر به قوله عليه السلام: «كيف وقد قيل؟» والورع في مثل هذا متأكد.وعقبة بن الحرث هو أبو سروعة بكسر السين المهملة وسكون الراء وفتح الواو والعين المهملة والله أعلم.6- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني من مكة- فتبعتهم ابنة حمزة تنادي: يا عم فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك فاحتملتها فاختصم فيها علي وجعفر وزيد فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا».الحديث أصل في باب الحضانة وصريح في أن الخالة فيها كالأم عند عدم الأم وقوله عليه السلام: «الخالة بمنزلة الأم» سياق الحديث يدل على أنها بمنزلتها في الحضانة وقد يستدل بإطلاقه أصحاب التنزيل على تنزيلها منزلة الأم في الميراث إلا أن الأول أقوى فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنزيل الكلام على المقصود منه وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين ممن أدركنا أصحابهم وهي قاعدة متعينة على الناظر وإن كانت ذات شغب على المناظر.والذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الجماعة من الكلام المطيب لقلوبهم من حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم.ولعلك تقول: أما ما ذكره لعلي وزيد فقد ظهرت مناسبته لأن حرمانهما من مرادهما مناسب لجبرهما بذكر ما يطيب قلوبهم وأما جعفر: فإنه حصل له مراده من أخذ الصبية فكيف ناسب ذلك جبره بما قيل له؟.فيجاب عن ذلك بأن الصبية استحقتها الخالة والحكم بها لجعفر بسبب الخالة لا بسبب نفسه فهو في الحقيقة غير محكوم له بصفته فناسب ذلك جبره بما قيل له..كتاب القصاص: 1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة».وهؤلاء الثلاثة مباحو الدم بالنص وقوله عليه السلام: «يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» كالتفسير لقوله: «مسلم» وكذلك: «المفارق للجماعة» كالتفسير لقوله: «التارك لدينه» والمراد بالجماعة جماعة المسلمين وإنما فراقهم بالردة عن الدين وهو سبب لإباحة دمه بالإجماع في حق الرجل واختلف الفقهاء في المرأة هل تقتل بالردة أم لا؟ ومذهب أبي حنيفة لا تقتل ومذهب غيره تقتل.وقد يؤخذ من قوله: «المفارق للجماعة» بمعنى المخالف لأهل الإجماع فيكون متمسكا لمن يقول: مخالف الإجماع كافر وقد نسب ذلك لبعض الناس وليس ذلك بالهين وقد قدمنا الطريق في التفكير.فالمسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلا وتارة لا يصحبها التواتر.فالقسم الأول: يكفر جاحده لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع.والقسم الثاني: لا يكفر به وقد وقع في هذا المكان من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالفة في حدوث العالم من قبيل مخالفة الإجماع وأخذ من قوله من قال إنه لا يكفر مخالف الإجماع أن لا يكفر هذا المخالف في هذه المسألة وهذا كلام ساقط بالمرة إما عن عمى في البصيرة أو تعام لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة فيكفر المخالف بسبب مخالفته النقل المتواتر لا بسبب مخالفته الإجماع.وقد استدل بهذا الحديث على أن تارك الصلاة لا يقتل بتركها فإن ترك الصلاة ليس من هذه الأسباب أعني زنا المحصن وقتل النفس والردة وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم إباحة الدم في هذه الثلاثة وبذلك استدل شيخ والدي الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي في أبياته التي نظمها في حكم تارك الصلاة أنشدنا الفقيه المفتي أبو موسى هارون بن عبد الله المهراني قديما قال: أنشدنا الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي لنفسه:خسر الذي ترك الصلاة وخابا ** وأبى معادا صالحا ومآبا إن كان يجحدها فحسبك أنه ** أمسى بربك كافرا مرتابا أو كان يتركها لنوع تكاسل ** غطى على وجه الصواب حجابا فالشافعي ومالك رأيا له ** إن لم يتب حد الحسام عقابا وأبو حنيفة قال: يترك مرة ** هملا ويحبس مرة إيجابا والظاهر المشهور من أقواله ** تعزيزه زجرا له وعقابا إلى أن قال:والرأي عندي أن يؤدبه الإما ** م بكل تأديب يراه صوابا ويكف عنه القتل طول حياته ** حتى يلاقي في المآب حسابا فالأصل عصمته إلى أن يمتطي ** إحدى الثلاث إلى الهلاك ركابا الكفر أو قتل المكافي عامدا ** أو محصن طلب الزنا فأصابا فهذا من المنسوبين إلى اتباع مالك اختار خلاف مذهبه في ترك قتله وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني استشكل قتله في مذهب الشافعي أيضا.وجاء بعض المتأخرين ممن أدركنا زمنه فأراد أن يزيل الإشكال فاستدل بقوله عليه السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» ووجه الدلالة منه: أنه وقف العصمة على مجموع الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والمرتب على أشياء لا يحصل إلا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها.وهذا إن قصد الاستدلال بالمنطوق وهو قوله عليه السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى» الخ فإنه يقتضي بمنطوقه: الأمر بالقتال إلى هذه الغاية فقد وهل وسها لأنه فرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه فإن المقاتلة مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين ولا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة- إذا قوتل عليها- إباحة القتل عليها من الممتنع عن فعلها إذا لم يقاتل, ولا إشكال بأن قوما لو تركوا الصلاة ونصبوا القتال عليها: أنهم يقاتلون إنما النظر والخلاف فيما إذا تركوا إنسان من غير نصب قتال هل يقتل أم لا؟ فتأمل الفرق بين المقاتلة على الصلاة والقتل عليها وأنه لا يلزم من إباحة المقاتلة عليها إباحة القتل عليها.وإن كان أخذ هذا من لفظ حديث آخر الحديث وهو ترتيب العصمة على فعل ذلك: فإنه يدل بمفهومه على أنها لا تترتب بفعل بعضه: هان الخطب لأنها دلالة مفهوم والخلاف فيها معروف مشهور وبعض من ينازعه في هذه المسألة لا يقول بدلالة المفهوم ولو قال بها فقد رجح عليها دلالة المنطوق في هذا الحديث.2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء».هذا تعظيم لأمر الدماء فإن البداءة تكون بالأهم فالأهم وهي حقيقة بذلك فإن الذنوب تعظم بحسب عظم المفسدة الواقعة بها أو بحسب فوات المصالح المتعلقة بعدمها وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه ثم يحتمل من حيث اللفظ أن تكون هذه الأولية مخصوصة بما يقع فيه الحكم بين الناس ويحتمل أن تكون عامة في أولية ما يقضى فيه مطلقا ومما يقوي الأول: ما جاء في الحديث: «إن أول ما يحاسب به العبد صلاته».3- عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم إلى المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كبر كبر»- وهو أحدث لقوم- فسكت فتكلما فقال: «أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم» قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا» قالوا: كيف بأيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده.وفي حديث حماد بن زيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم, فيدفع برمته» قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قالوا: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم؟» قالوا: يا رسول الله قوم كفار, فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده.وفي حديث سعيد بن عبيد: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فواده بمائة من إبل الصدقة).فيه مسائل:الأولى: حثمة بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة وحويصة بضم الحاء المهملة وسكون الياء وقد تشدد مكسورة ومحيصة بضم الميم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وقد تشدد.الثانية: هذا الحديث أصل في القسامة وأحكامها.والقسامة بفتح القاف: هي اليمين التي يحلف بها المدعي للدم عند اللوث وقيل: إنها في اللغة: اسم للأولياء الذين يحلفون على دعوى الدم وموضع جريان القسامة: أن يوجد قتيل لا يعرف قاتله ولا تقوم عليه بينة ويدعي ولي القتيل قتله على واحد أو جماعة ويقترن بالحال: ما يشعر بصدق الولي على تفصيل في الشروط عند الفقهاء أو بعضهم ويقال له اللوث فيحلف على ما يدعيه.الثالثة: قد ذكرنا اللوث ومعناه وفرع الفقهاء له صورا منها: وجدان القتيل في محلة أو قرية بينه وبين أهلها عداوة ظاهرة ووصف بعضهم القرية ههنا: بأن تكون صغيرة واشترط أن لا يكون معهم ساكن من غيرهم لاحتمال أن القتل من غيرهم حينئذ.
-
وقوله عمر: «لتأتين بمن يشهد معك» يتعلق به من يرى اعتبار العدد في الرواية وليس هو بمذهب صحيح فإنه قد ثبت قبول خبر الواحد وذلك قاطع بعدم اعتبار العدد في حديث جزئي فلا يدل على اعتباره كليا لجواز أن يحال ذلك على مانع خاص بتلك الصورة أو قيام سبب يقتضي التثبت وزيادة الاستظهار لاسيما إذا قامت قرينة مثل عدم علم عمر رضي الله عنه بهذا الحكم وكذلك حديثه مع أبي موسى في الاستئذان ولعل الذي أوجب ذلك استبعاده عدم العلم به وهو في باب الاستئذان أقوى وقد صرح عمر رضي الله عنه بأنه أراد أن يستثبت.8- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يظل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هو من إخوان الكهان» من أجل سجعه الذي سجع.قوله: «فقتلتها وجنينها» ليس فيه ما يشعر بانفصال الجنين ولعله لا يفهم منه بخلاف حديث عمر الماضي فإنه صرح بالانفصال والشافعية شرطوا في وجوب الغرة الانفصال ميتا بسبب الجناية فلو ماتت الأم ولم ينفصل الجنين لم يجب شيء قالوا: لأنا لا نتيقن وجود الجنين فلا نوجب شيئا بالشك.وعلى هذا هل المعتبر نفس الانفصال أو أن ينكشف ويتحقق حصول الجنين؟ فيه وجهان أصحهما الثاني وينبني على هذا ما إذا قدت بنصفين وشوهد الجنين في بطنها ولم ينفصل وما إذا خرج رأس الجنين بعدما ضرب وماتت الأم لذلك ولم ينفصل وبمقتضى هذا يحتاجون إلى تأويل هذه الرواية وحملها على أنه انفصل وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه.مسألة أخرى: الحديث علق الحكم بلفظ الجنين والشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي من يد أو إصبع أو غيرهما ولو لم يظهر شيء من ذلك وشهدت البينة بأن الصورة خفية يختص أهل الخبرة بمعرفتها وجبت الغرة أيضا وإن قالت البينة: ليست فيه صورة خفية ولكنه أصل الآدمي ففي ذلك اختلاف والظاهر عند الشافعية أنه لا تجب الغرة وإن شكت البينة في كون أصله الآدمي لم تجب بلا خلاف.وحظ الحديث: أن الحكم مرتب على اسم الجنين فما تخلق فهو داخل فيه وما كان دون ذلك فلا يدخل تحته إلا من حيث الوضع اللغوي فإنه مأخوذ من الاجتنان وهو الاختفاء فإن خالفه العرف العام فهو أولى منه وإلا اعتبر الوضع.وفيه الحديث: دليل على أنه لا فرق في الغرة بين الذكر والأنثى ويجبر المستحق على قبول الرقيق من أي نوع كان وتعتبر فيه السلامة من العيوب المثبتة للرد في البيع واستدل بعضهم على ذلك بأنه ورد في الخبر لفظة الغرة قال: وهي الخيار وليس المعيب من الخيار.وفيه أيضا من الإطلاق في العبد والأمة: أنه لا يتقدر قيمة وهو وجه للشافعية والأظهر عندهم: أنه ينبغي أن تبلغ قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل وقيل: إن ذلك يروي عن عمر وزيد بن ثابت.وفيه دليل على أنه إذا وجدت الغرة بالصفات المعتبرة: أنه لا يلزم المستحق قبول غيرها لتعيين حقه في ذلك في الحديث وأما إذا عدمت: فليس في الحديث ما يشعر بحكمه وقد اختلفوا فيه فقيل: الواجب خمس من الإبل وقيل: يعدل إلى القيمة عند الفقد.وقد قدمنا الإشارة إلى أن الحديث بإطلاقه لا يقتضي تخصيص سن دون سن والشافعية قالوا: لا يجبر على قبول ما لم يبلغ سبعا لحاجته إلى التعهد وعدم استقلاله وأما في طرف الكبر فقيل: إنه لا يؤخذ الغلام بعد خمسة عشرة سنة ولا الجارية بعد عشرين سنة وجعل بعضهم الحد: عشرين والأظهر: أنهما يؤخذان وإن جاوزوا الستين ما لم يضعفا ويخرجا عن الاستقلال بالهرم لأن من أتى بما دل الحديث عليه ومسماه: فقد أتى بما وجب فلزم قبوله إلا أن يدل دليل على خلافه وقد أشرنا إلى أن التقييد بالسن ليس من مقتضى لفظ الحديث.مسألة أخرى: الحديث ورد في جنين حرة وهذا الحديث الثاني ليس فيه عموم يدخل تحته جنين الأمة بل هو حكم وارد في جنين الحرة من غير لفظ عام وأما حديث عمر السابق- وإن كان في لفظ الاستشارة ما يقتضي العموم لقوله: «في إملاص المرأة» لكن لفظ الراوي يقتضي أنه شهد واقعة مخصوصة فعلى هذا: ينبغي أن يؤخذ حكم جنين الأمة من محل آخر وعند الشافعية: الواجب في جنين الرقيق: عشر قيمة الأم ذكرا أو أنثى وكذلك نقول: إن الحديث وارد في جنين محكوم بإسلامه ولا يتعرض لجنين محكوم له بالتهود أو التنصر تبعا ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعا وهذا مأخوذ من القياس لا من الحديث.وقوله: «قضى بدية المرأة على عاقلتها» إجراء لهذا القتل مجرى غير العمد.وحمل: بفتح الحاء المهملة والميم معا.وطل: دم القتيل إذا أهدر ولم يؤخذ فيه شيء.وقوله عليه السلام: «إنما هو من إخوان الكهان» الخ فيه إشارة إلى ذم السجع وهو محمول على السجع المتكلف لإبطال حق أو تحقيق باطل أو لمجرد التكلف بدليل أنه قد ورد السجع في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام غيره من السلف ويدل على ما ذكرناه: أنه شبهه بسجع الكهان لأنهم كانوا يرجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين فيستميلون بها القلوب ويستصغون إليها الأسماع قال بعضهم: فأما إذا كان وضع السجع في مواضعه من الكلام فلا ذم فيه.9- عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيته فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك».أخذ الشافعي بظاهر هذا الحديث فلم يوجب ضمانا لمثل هذه الصورة إذا عض إنسان يد آخر فانتزعها فسقط سنه وذلك إذا لم يمكنه تخليص يده بأيسر ما يقدر عليه من فك لحييه أو الضرب في شدقيه ليرسلها فحينئذ إذا سل أسنانه أو بعضها فلا ضمان عليه.وخالف غير الشافعي في ذلك وأوجب ضمان السن والحديث صريح لمذهب الشافعي وأما التقيد بعدم الإمكان بغير هذا الطريق: فعله مأخوذ من القواعد الكلية وأما إذا لم يمكنه التخليص إلا بضرب عضو آخر كبعج البطن وعصر الانثيين فقد اختلف فيه فقيل: له ذلك وقيل: ليس له قصد غير الفم وإذا كان القياس وجوب الضمان فقد يقال: إن النص ورد في صورة التلف بالنزع من اليد فلا نقيس عليه غيره لكن إذا دلت القواعد على اعتبار الإمكان في الضمان وعدم الإمكان في غير الضمان وفرضنا أنه لم يكن الدفع إلا بالقصد إلى غير الفم: قوي بعد هذه القاعدة: أن يسوى بين الفم وغيره.10- عن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: حدثنا جندب في هذا المسجد وما نسينا منه حديثا وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة».الحسن بن أبي الحسن: يكنى أبا سعيد من أكابر التابعين وسادات المسلمين ومن مشاهير العلماء والزهاد المذكورين وفضائله كثيرة.وجندب بضم الدال وفتحها: ابن عبد الله بن سفيان البجلي العقلي- بفتح العين واللام- والعلق: بطن من بجيلة ومنهم من ينسبه إلى جده فيقول: جندب بن سفيان كنيته: أبو عبد الله كان بالكوفة ثم صار إلى البصرة: وحز يده قطعها أو بعضها ورقأ الدم بفتح الراء والقاف والهمز: ارتفع وانقطع.وفي الحديث إشكالان.أحدهما قوله: «بادرني عبدي بنفسه» وهي مسألة تتعلق بالآجال وأجل كل شيء: وقته يقال: بلغ أجله أن تم أمده وجاء حينه وليس كل وقت أجلا ولا يموت أحد بأي سبب كان إلا بأجله وقد علم الله بأنه يموت بالسبب المذكور وما علمه فلا يتغير فعلى هذا: يبقى قوله: «بادرني عبدي بنفسه» يحتاج إلى التأويل فإنه قد يوهم: أن الأجل كان متأخرا عن ذلك الوقت فقدم عليه.الثاني قوله: «حرمت عليه الجنة» فيتعلق به من يرى بوعيد الأبد وهو مؤول عند غيرهم على تحريم الجنة بحالة مخصوصة كالتخصيص بزمن كما يقال: إنه لا يدخلها مع السابقين أو يحملونه على فعل ذلك مستحلا فيكفر به ويكون مخلدا بكفره لا بقتله نفسه.والحديث أصل كبير في تعظيم قتل النفس سواء كانت نفس الإنسان أو غيره لأن نفسه ليس ملكه أيضا فيتصرف فيها على حسب ما يراه..كتاب الحدود: .مدخل: 1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قدم ناس من عكل- أو عرينة- فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بهم: فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمرت أعينهم وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون).قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله أخرجه الجماعة.اجتويت البلاد: إذا كرهتها وإن كانت موافقة, واستوبأتها: إذا لم توافقك.استدل بالحديث على طهارة أبوال الإبل للإذن في شربها والقائلون بنجاستها اعتذروا عن هذا: بأنه للتداوي وهو جائز بجميع النجاسات إلا بالخمر.واعترض عليهم الأولون بأنها لو كانت محرمة الشرب: لما جاز التداوي بها لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.وقد وقع في هذا الحديث التمثيل بهم واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم: هو منسوخ بالحدود فعن قتادة: أنه قال: فحدثني محمد بن سيرين: أن ذلك قبل أن تنزل الحدود وقال ابن شهاب- بعد أن ذكر قصتهم- وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية والتي بعدها وروي محمد بن الفضل- بإسناد صحيح منه إلى ابن سيرين- قال كان شأن العرنيين قبل أن تنزل الحدود التي أنزل الله عز وجل في المائدة من شأن المحاربين: أن يقتلوا أو يصلبوا: فكان شأن العرنيين منسوخا بالآية التي يصف فيها إقامة حدودهم.وفي حديث أبي حمزة عن عبد الكريم- وسئل عن أبوال الإبل؟- فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين- فذكر الحديث- وفي آخره فما مثل النبي صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد ونهى عن المثلة وقال: «لا تمثلوا بشيء».وفي رواية إبراهيم بن عبد الرحمن عن محمد بن الفضل الطبري بإسناد فيه موسى بن عبيدة الربذي- بسنده إلى جرير بن عبد الله البجلي بقصتهم- وفي آخره فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم سمل الأعين فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية.وروي ابن الجوزي في كتابه حديثا من رواية صالح بن رستم عن كثير بن شنظير عن الحسن عن عمران بن حصين قال ما قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة وقال قال ابن شاهين: هذا الحديث ينسخ كل مثلة كانت في الإسلام قال ابن الجوزي: وادعاء النسخ محتاج إلى تاريخ وقد قال بعض العلماء: إنما سمل أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة فاقتص منهم بمثل ما فعلوا والحكم ثابت.قلت: هنا تقصير لأن الحديث ورد فيه المثلة من جهات عديدة وبأشياء كثيرة فهب أنه ثبت القصاص في سمل الأعين فماذا يصنع بباقي ما جرى من المثلة؟ فلابد فيه من جواب عن هذا وقد رأيت عن الزهري في قصة العرنيين: أنه ذكر أنهم قتلوا يسارا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مثلوا به فلو ذكر ابن الجوزي هذا: كان أقرب إلى مقصوده مما ذكره من سمل الأعين فقط على أنه أيضا بعد ذلك: يبقى نظر في بعض ما حكي في القصة.وعكل: بضم العين المهملة وسكون الكاف وآخره لام وعرينة: بضم العين المهملة وفتح الراء المهملة وسكون آخر الحروف بعدها نون وقال بعضهم: هم ناس من بني سليم وناس من بني بجيلة وبني عرينة واللقاح: النوق ذوات اللبن.2- عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقال الخصم الآخر- وهو أفقه منه- نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قل» فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت: أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم: رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس- لرجل من أسلم- على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت.العسيف: الأجير.
-
وقوله عمر: «لتأتين بمن يشهد معك» يتعلق به من يرى اعتبار العدد في الرواية وليس هو بمذهب صحيح فإنه قد ثبت قبول خبر الواحد وذلك قاطع بعدم اعتبار العدد في حديث جزئي فلا يدل على اعتباره كليا لجواز أن يحال ذلك على مانع خاص بتلك الصورة أو قيام سبب يقتضي التثبت وزيادة الاستظهار لاسيما إذا قامت قرينة مثل عدم علم عمر رضي الله عنه بهذا الحكم وكذلك حديثه مع أبي موسى في الاستئذان ولعل الذي أوجب ذلك استبعاده عدم العلم به وهو في باب الاستئذان أقوى وقد صرح عمر رضي الله عنه بأنه أراد أن يستثبت.8- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يظل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هو من إخوان الكهان» من أجل سجعه الذي سجع.قوله: «فقتلتها وجنينها» ليس فيه ما يشعر بانفصال الجنين ولعله لا يفهم منه بخلاف حديث عمر الماضي فإنه صرح بالانفصال والشافعية شرطوا في وجوب الغرة الانفصال ميتا بسبب الجناية فلو ماتت الأم ولم ينفصل الجنين لم يجب شيء قالوا: لأنا لا نتيقن وجود الجنين فلا نوجب شيئا بالشك.وعلى هذا هل المعتبر نفس الانفصال أو أن ينكشف ويتحقق حصول الجنين؟ فيه وجهان أصحهما الثاني وينبني على هذا ما إذا قدت بنصفين وشوهد الجنين في بطنها ولم ينفصل وما إذا خرج رأس الجنين بعدما ضرب وماتت الأم لذلك ولم ينفصل وبمقتضى هذا يحتاجون إلى تأويل هذه الرواية وحملها على أنه انفصل وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه.مسألة أخرى: الحديث علق الحكم بلفظ الجنين والشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي من يد أو إصبع أو غيرهما ولو لم يظهر شيء من ذلك وشهدت البينة بأن الصورة خفية يختص أهل الخبرة بمعرفتها وجبت الغرة أيضا وإن قالت البينة: ليست فيه صورة خفية ولكنه أصل الآدمي ففي ذلك اختلاف والظاهر عند الشافعية أنه لا تجب الغرة وإن شكت البينة في كون أصله الآدمي لم تجب بلا خلاف.وحظ الحديث: أن الحكم مرتب على اسم الجنين فما تخلق فهو داخل فيه وما كان دون ذلك فلا يدخل تحته إلا من حيث الوضع اللغوي فإنه مأخوذ من الاجتنان وهو الاختفاء فإن خالفه العرف العام فهو أولى منه وإلا اعتبر الوضع.وفيه الحديث: دليل على أنه لا فرق في الغرة بين الذكر والأنثى ويجبر المستحق على قبول الرقيق من أي نوع كان وتعتبر فيه السلامة من العيوب المثبتة للرد في البيع واستدل بعضهم على ذلك بأنه ورد في الخبر لفظة الغرة قال: وهي الخيار وليس المعيب من الخيار.وفيه أيضا من الإطلاق في العبد والأمة: أنه لا يتقدر قيمة وهو وجه للشافعية والأظهر عندهم: أنه ينبغي أن تبلغ قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل وقيل: إن ذلك يروي عن عمر وزيد بن ثابت.وفيه دليل على أنه إذا وجدت الغرة بالصفات المعتبرة: أنه لا يلزم المستحق قبول غيرها لتعيين حقه في ذلك في الحديث وأما إذا عدمت: فليس في الحديث ما يشعر بحكمه وقد اختلفوا فيه فقيل: الواجب خمس من الإبل وقيل: يعدل إلى القيمة عند الفقد.وقد قدمنا الإشارة إلى أن الحديث بإطلاقه لا يقتضي تخصيص سن دون سن والشافعية قالوا: لا يجبر على قبول ما لم يبلغ سبعا لحاجته إلى التعهد وعدم استقلاله وأما في طرف الكبر فقيل: إنه لا يؤخذ الغلام بعد خمسة عشرة سنة ولا الجارية بعد عشرين سنة وجعل بعضهم الحد: عشرين والأظهر: أنهما يؤخذان وإن جاوزوا الستين ما لم يضعفا ويخرجا عن الاستقلال بالهرم لأن من أتى بما دل الحديث عليه ومسماه: فقد أتى بما وجب فلزم قبوله إلا أن يدل دليل على خلافه وقد أشرنا إلى أن التقييد بالسن ليس من مقتضى لفظ الحديث.مسألة أخرى: الحديث ورد في جنين حرة وهذا الحديث الثاني ليس فيه عموم يدخل تحته جنين الأمة بل هو حكم وارد في جنين الحرة من غير لفظ عام وأما حديث عمر السابق- وإن كان في لفظ الاستشارة ما يقتضي العموم لقوله: «في إملاص المرأة» لكن لفظ الراوي يقتضي أنه شهد واقعة مخصوصة فعلى هذا: ينبغي أن يؤخذ حكم جنين الأمة من محل آخر وعند الشافعية: الواجب في جنين الرقيق: عشر قيمة الأم ذكرا أو أنثى وكذلك نقول: إن الحديث وارد في جنين محكوم بإسلامه ولا يتعرض لجنين محكوم له بالتهود أو التنصر تبعا ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعا وهذا مأخوذ من القياس لا من الحديث.وقوله: «قضى بدية المرأة على عاقلتها» إجراء لهذا القتل مجرى غير العمد.وحمل: بفتح الحاء المهملة والميم معا.وطل: دم القتيل إذا أهدر ولم يؤخذ فيه شيء.وقوله عليه السلام: «إنما هو من إخوان الكهان» الخ فيه إشارة إلى ذم السجع وهو محمول على السجع المتكلف لإبطال حق أو تحقيق باطل أو لمجرد التكلف بدليل أنه قد ورد السجع في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام غيره من السلف ويدل على ما ذكرناه: أنه شبهه بسجع الكهان لأنهم كانوا يرجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين فيستميلون بها القلوب ويستصغون إليها الأسماع قال بعضهم: فأما إذا كان وضع السجع في مواضعه من الكلام فلا ذم فيه.9- عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيته فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك».أخذ الشافعي بظاهر هذا الحديث فلم يوجب ضمانا لمثل هذه الصورة إذا عض إنسان يد آخر فانتزعها فسقط سنه وذلك إذا لم يمكنه تخليص يده بأيسر ما يقدر عليه من فك لحييه أو الضرب في شدقيه ليرسلها فحينئذ إذا سل أسنانه أو بعضها فلا ضمان عليه.وخالف غير الشافعي في ذلك وأوجب ضمان السن والحديث صريح لمذهب الشافعي وأما التقيد بعدم الإمكان بغير هذا الطريق: فعله مأخوذ من القواعد الكلية وأما إذا لم يمكنه التخليص إلا بضرب عضو آخر كبعج البطن وعصر الانثيين فقد اختلف فيه فقيل: له ذلك وقيل: ليس له قصد غير الفم وإذا كان القياس وجوب الضمان فقد يقال: إن النص ورد في صورة التلف بالنزع من اليد فلا نقيس عليه غيره لكن إذا دلت القواعد على اعتبار الإمكان في الضمان وعدم الإمكان في غير الضمان وفرضنا أنه لم يكن الدفع إلا بالقصد إلى غير الفم: قوي بعد هذه القاعدة: أن يسوى بين الفم وغيره.10- عن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: حدثنا جندب في هذا المسجد وما نسينا منه حديثا وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة».الحسن بن أبي الحسن: يكنى أبا سعيد من أكابر التابعين وسادات المسلمين ومن مشاهير العلماء والزهاد المذكورين وفضائله كثيرة.وجندب بضم الدال وفتحها: ابن عبد الله بن سفيان البجلي العقلي- بفتح العين واللام- والعلق: بطن من بجيلة ومنهم من ينسبه إلى جده فيقول: جندب بن سفيان كنيته: أبو عبد الله كان بالكوفة ثم صار إلى البصرة: وحز يده قطعها أو بعضها ورقأ الدم بفتح الراء والقاف والهمز: ارتفع وانقطع.وفي الحديث إشكالان.أحدهما قوله: «بادرني عبدي بنفسه» وهي مسألة تتعلق بالآجال وأجل كل شيء: وقته يقال: بلغ أجله أن تم أمده وجاء حينه وليس كل وقت أجلا ولا يموت أحد بأي سبب كان إلا بأجله وقد علم الله بأنه يموت بالسبب المذكور وما علمه فلا يتغير فعلى هذا: يبقى قوله: «بادرني عبدي بنفسه» يحتاج إلى التأويل فإنه قد يوهم: أن الأجل كان متأخرا عن ذلك الوقت فقدم عليه.الثاني قوله: «حرمت عليه الجنة» فيتعلق به من يرى بوعيد الأبد وهو مؤول عند غيرهم على تحريم الجنة بحالة مخصوصة كالتخصيص بزمن كما يقال: إنه لا يدخلها مع السابقين أو يحملونه على فعل ذلك مستحلا فيكفر به ويكون مخلدا بكفره لا بقتله نفسه.والحديث أصل كبير في تعظيم قتل النفس سواء كانت نفس الإنسان أو غيره لأن نفسه ليس ملكه أيضا فيتصرف فيها على حسب ما يراه..كتاب الحدود: .مدخل: 1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قدم ناس من عكل- أو عرينة- فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بهم: فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمرت أعينهم وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون).قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله أخرجه الجماعة.اجتويت البلاد: إذا كرهتها وإن كانت موافقة, واستوبأتها: إذا لم توافقك.استدل بالحديث على طهارة أبوال الإبل للإذن في شربها والقائلون بنجاستها اعتذروا عن هذا: بأنه للتداوي وهو جائز بجميع النجاسات إلا بالخمر.واعترض عليهم الأولون بأنها لو كانت محرمة الشرب: لما جاز التداوي بها لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.وقد وقع في هذا الحديث التمثيل بهم واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم: هو منسوخ بالحدود فعن قتادة: أنه قال: فحدثني محمد بن سيرين: أن ذلك قبل أن تنزل الحدود وقال ابن شهاب- بعد أن ذكر قصتهم- وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية والتي بعدها وروي محمد بن الفضل- بإسناد صحيح منه إلى ابن سيرين- قال كان شأن العرنيين قبل أن تنزل الحدود التي أنزل الله عز وجل في المائدة من شأن المحاربين: أن يقتلوا أو يصلبوا: فكان شأن العرنيين منسوخا بالآية التي يصف فيها إقامة حدودهم.وفي حديث أبي حمزة عن عبد الكريم- وسئل عن أبوال الإبل؟- فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين- فذكر الحديث- وفي آخره فما مثل النبي صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد ونهى عن المثلة وقال: «لا تمثلوا بشيء».وفي رواية إبراهيم بن عبد الرحمن عن محمد بن الفضل الطبري بإسناد فيه موسى بن عبيدة الربذي- بسنده إلى جرير بن عبد الله البجلي بقصتهم- وفي آخره فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم سمل الأعين فأنزل الله عز وجل فيهم هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية.وروي ابن الجوزي في كتابه حديثا من رواية صالح بن رستم عن كثير بن شنظير عن الحسن عن عمران بن حصين قال ما قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة وقال قال ابن شاهين: هذا الحديث ينسخ كل مثلة كانت في الإسلام قال ابن الجوزي: وادعاء النسخ محتاج إلى تاريخ وقد قال بعض العلماء: إنما سمل أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة فاقتص منهم بمثل ما فعلوا والحكم ثابت.قلت: هنا تقصير لأن الحديث ورد فيه المثلة من جهات عديدة وبأشياء كثيرة فهب أنه ثبت القصاص في سمل الأعين فماذا يصنع بباقي ما جرى من المثلة؟ فلابد فيه من جواب عن هذا وقد رأيت عن الزهري في قصة العرنيين: أنه ذكر أنهم قتلوا يسارا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مثلوا به فلو ذكر ابن الجوزي هذا: كان أقرب إلى مقصوده مما ذكره من سمل الأعين فقط على أنه أيضا بعد ذلك: يبقى نظر في بعض ما حكي في القصة.وعكل: بضم العين المهملة وسكون الكاف وآخره لام وعرينة: بضم العين المهملة وفتح الراء المهملة وسكون آخر الحروف بعدها نون وقال بعضهم: هم ناس من بني سليم وناس من بني بجيلة وبني عرينة واللقاح: النوق ذوات اللبن.2- عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقال الخصم الآخر- وهو أفقه منه- نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قل» فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت: أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم: رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس- لرجل من أسلم- على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت.العسيف: الأجير.
-
.باب حد السرقة: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته- وفي لفظ: ثمنه- ثلاثة دراهم).اختلف الفقهاء في النصاب في السرقة أصلا وقدرا أما الأصل: فجمهورهم على اعتبار النصاب وشذ الظاهرية فلم يعتبروه ولم يفرقوا القليل والكثير وقالوا بالقطع فيهما ونقل في ذلك وجه في مذهب الشافعي.والاستدلال بهذا الحديث على اعتبار النصاب ضعيف فإنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار فعلا: عدم القطع فيما دونه نطقا.وأما المقدار: فإن الشافعي يرى أن النصاب ربع دينار لحديث عائشة الآتي يقوم ماعدا الذهب بالذهب وأبو حنيفة يقول: إن النصاب عشرة دراهم ويقوم ما عدا الفضة بالفضة ومالك يرى: أن النصاب ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم وكلاهما أصل ويقوم ما عداهما بالدرهم وكلا الحديثين يدل على خلاف مذهب أبي حنيفة.وأما هذا الحديث: فإن الشافعي بين أنه لا يخالف حديث عائشة وأن الدينار كان اثني عشرة درهما وربعه ثلاثة دراهم أعني صرفه ولهذا قومت الدية باثني عشر ألفا من الورق وألف دينار من الذهب.وهذا الحديث يستدل به لمذهب مالك في أن الفضة أصل في التقويم فإن المسروق كان غير الذهب والفضة وقوم بالفضة دون الذهب: دل على أنها أصل في التقويم وإلا كان الرجوع إلى الذهب- الذي هو الأصل- أولى وأوجب عند من يرى التقويم به والحنفية في مثل هذا الحديث وفيمن روى في حديث عائشة: (القطع في ربع دينار فصاعدا) يقولون- أو من قال منهم- في التأويل ما معناه: إن التقويم أمر ظني تخميني فيجوز أن تكون قيمته عند عائشة ربع دينار أو ثلاثة دراهم ويكون عند غيرها أكثر وقد ضعف غيرهم هذا التأويل وشنعه عليهم بما معناه: إن عائشة لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه إلا عن تحقيق لعظم أمر القطع.والمجن بكسر الميم وفتح الجيم: الترس مفعل من معنى الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء وما يقارب ذلك ومنه الجن وكسرت ميمه لأنه آلة في الاجتنان كأن صاحبه يستتر به عما يحاذره قال الشاعر:فكان مجني دون ما كنت أتقي ** ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر والقيمة والثمن: مختلفان في الحقيقة وتعتبر القيمة وما ورد في بعض الروايات من ذكر الثمن فلعله لتساويهما عند الناس في ذلك الوقت أو في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة وإلا فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه لم تعتبر إلا القيمة.2- عن عائشة رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا».هذا الحدي اعتماد الشافعي رحمه الله في مقدار النصاب وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وقولا وهذه الرواية قول وهو أقوى في الاستدلال من الفعل لأنه لا يلزم من القطع في مقدار معين- اتفق أن السارق الذي قطع سرقه أن لا يقطع من سرق ما دونه وأما القول الذي يدل على اعتبار مقدار معين في القطع: فإنه يدل على عدم اعتبار ما زاد عليه في إباحة القطع فإنه لو اعتبر في ذلك لم يجز القطع فيما دونه وأيضا: فرواية الفعل يدخل فيها ما ذكرناه من التأويل المستضعف في أن التقويم أمر ظني إلى آخره.واعلم أن هذا الحديث قوي في الدلالة على أصحاب أبي حنيفة فإنه يقتضي صريحه: القطع في هذا المقدار الذي لا يقولون بجواز القطع به وأما دلالته على الظاهر: فليس من حيث النطق بل من حيث المفهوم وهو داخل في مفهوم العدد ومرتبته أقوى من مرتبة مفهوم اللقب.3- عائشة رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟» ثم قام فاختطب.فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف: أقاموا عليه الحد وأيم الله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».وفي لفظ: «كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها».قد أطلق في هذا الحديث على هذه المرأة لفظة السرقة ولا إشكال فيه وإنما الإشكال في الرواية الثانية وهو إطلاق جحد العارية على المرأة وليس في لفظ هذا الحديث ما يدل على أن المعبر عنه امرأة واحدة ولكن في عبارة المصنف ما يشعر بذلك فإنه جعل الذي ذكره ثانيا رواية وهو يقتضي من حيث الإشعار العادي: أنهما حديث واحد.اختلف فيه: هل كانت هذه المرأة المذكورة سارقة أو جاحدة؟ وعن أحمد: أنه أوجب القطع في صورة جحود العارية عملا بتلك الرواية فإذا أخذ بطريق صناعي- أعني في صنعة الحديث- ضعفت الدلالة على مسألة الجحود قليلا فإنه يكون اختلافا في واقعة واحدة فلا يثبت الحكم المرتب على الجحود حتى يتبين ترجيح رواية من روى في هذا الحديث أنها كانت جاحدة على رواية من روى أنها كانت سارقة.وأظهر بعض الشافعية النكير والتعجب ممن أول حديث عائشة في القطع في ربع دينار- الذي روي فعلا- بأن اعتمد على رواية من رواه قولا فإنه كان مخرج الحديث مختلفا فالأمر كما قال فإن أحد الحديثين حينئذ يدل على القطع فعلا في هذا المقدار والثاني: يدل عليه قولا ولا يتأتى فيه تأويل احتمال الغلط في التقويم وإن كان مخرج الحديث واحدا ففيه من الكلام ما أشرنا إليه الآن إلا أنه هاهنا قوي لأنه لا يجوز للراوي إذا كان سمعه لرواية الفعل: أن يغيره إلى رواية القول فيظهر من هذا: أنهما حديثان مختلفان اللفظ وإن كان مخرجهما واحدا.وفي الحديث: دليل على امتناع الشفاعة في الحد بعد بلوغه السلطان وفيه تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى.ولفظة إنما هاهنا دالة على الحصر والظاهر: أنه ليس للحصر المطلق مع احتمال ذلك فإن بني إسرائيل كانت فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك فيحمل ذلك على حصر مخصوص وهو الإهلاك بسبب المحاباة في حدود الله فلا ينحصر ذلك في هذا الحد المخصوص.وقد يستدل بقوله عليه السلام: «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» على أن ما خرج هذا المخرج من الكلام الذي يقتضي تعليق القول بتقدير أمر آخر: لا يمنع وقد شدد جماعة في مثل هذا ومراتبه في القبح مختلفة..باب حد الخمر: 1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين قال: وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر.لا خلاف في الحد على شرب الخمر واختلفوا في مقداره فمذهب الشافعي: أنه أربعون واتفق أصحابه: أنه لا يزيد على الثمانين وفي الزيادة على الأربعين إلى الثمانين: خلاف والأظهر: الجواز ولو رأى الإمام أن يحده بالنعال وأطراف الثياب كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم جاز ومنهم من منع ذلك تعليلا بعسر الضبط وظاهر قوله: «فجلده بجريدة نحو أربعين» أن هذا العدد هو القدر الذي ضرب به وقد وقع في رواية الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضربوه» فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وفي الحديث: «قال: فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك الضرب؟ فقومه أربعين فضرب أبو بكر في الخمر أربعين» ففسره بعض الناس وقال: أي قدر الضرب الذي ضربه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب: فكان مقدار أربعين ضربة لا أنها عددا أربعون بالثياب والنعال والأيدي إنما قايس مقدار ما ضربه ذلك الشارب فكان: مقدار أربعين عصا فلذلك قال فقومه أي جعل قيمته أربعين وهذا عندي خلاف الظاهر ويبعده: قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر أربعين فإنه لا ينطلق إلا على عدد كثير من الضرب بالأيدي والنعال وتسليط التأويل على لفظة قومه أنها بمعنى قدر ما وقع فكان أربعين: أقرب من تسليط هذا صدق قولنا جلد أربعين حقيقة.وقوله فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون ويروى بالنصب أخف الحدود ثمانين أي اجعله وما يقارب ذلك.وفيه دليل على المشاورة في الأحكام والقول فيها بالاجتهاد وقيل: إن الذي أشار بالثمانين: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد يستدل به من يرى الحكم بالقياس أو الاستحسان.وقوله فلما كان عمر يجوز أن يكون على حذف مضاف أي فلما كان زمن ولاية عمر وما يقارب ذلك ومذهب مالك: أن حد الخمر: ثمانون على ما وقع في زمن عمر.2- عن أبي بردة- هانئ بن نيار- البلوي رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا حد من حدود الله».فيه مسألتان:إحداهما: إثبات التعزير في المعاصي التي لا حد فيها لما يقتضيه من جواز العشرة فما دونها.المسألة الثانية: اختلفوا في مقدار التعزير والمنقول عن مالك: أنه لا يتقدر بهذا القدر ويجيز في العقوبات فوق هذا وفوق الحدود على قدر الجريمة وصاحبها وأن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام وظاهر مذهب الشافعي: أنه لا يبلغ بالتعزير إلى الحدود وعلى هذا: ففي المعتبر وجهان:أحدهما: أدنى الحدود في حق المعزر فلا يزاد في تعزير الحر على تسع وثلاثين ضربة ليكون دون حد الشرب ولا في تعزير العبد على تسعة عشر سوطا.والثاني: أنه يعتبر أدنى الحدود على الإطلاق فلا يزاد في تعزير الحر أيضا على تسعة عشر سوطا أيضا.وفيه وجه ثالث: أن الاعتبار بحد الأحرار فيجوز أن يزاد تعزير العبد على عشرين.وذهب غير واحد إلى ظاهر الحديث وهو أنه لا يزاد في التعزير على عشرة وإليه ذهب الشافعية صاحب التقريب وذكر بعض المصنفين منهم: أن الأظهر: أنه لا يجوز الزيادة على العشر.واختلف المخالفون لظاهر هذا الحديث في العذر عنه فقال بعض مصنفي الشافعية: إنه منسوخ بعمل الصحابة بخلافه وهذا ضعيف جدا لأنه يتعذر عليه إثبات إجماع الصحابة على العمل بخلافه وفعل بعضهم أو فتواه لا يدل على النسخ والمنقول في ذلك: فعل عمر رضي الله عنه أنه ضرب صبيغا أكثر من الحد أو مائة وصبيغ هذا- بفتح الصاد المهملة وكسر ثاني الحروف وأخره غين معجمة- وقال بعض المالكية: وتأول أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر وهذا في غاية الضعف أيضا لأنه ترك للعموم بغير دليل شرعي على الخصوص وما ذكره مناسبة ضعيفة لا تستقل بإثبات التخصيص.قال هذا المالكي: وتأولوه أيضا على أن المراد بقوله: «في حد من حدود الله» أي حق من حقوقه وإن لم يكن من المعاصي المقدرة حدودها لأن المحرمات كلها من حدود الله.وبلغني عن بعض أهل العصر: أنه قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد بهذه المقدمات أمر اصطلاحي فقهي وأن عرف الشرع في أول الإسلام: لم يكن كذلك أو يحتمل أن لا يكون كذلك- هذا وكما قال- فلا يخرج عنه إلا التأديبات التي ليست عن محرم شرعي.وهذا- أولا- خروج في لفظة الحد عن العرف فيها وما ذكره هذا العصري: يوجب النقل والأصل عدمه.وثانيا: أنا إذا حملناه على ذلك وأجزنا في كل حق من حقوق الله: أن يزاد لم يبق لنا شيء يختص المنع فيه بالزيادة على عشرة أسواط إذ ما عدا المحرمات كلها التي لا تجوز فيها الزيادة: ليس إلا ما ليس بمحرم واصل التعزير فيه ممنوع فلا يبقى لخصوص منع الزيادة منى وهذا أوردناه على ما قاله المالكي في إطلاقه لحقوق الله وقد يتعذر عنه بما أشرنا إليه من أنه لا يخرج عنه إلا التأديبات على ما ليس بمحرم ومع هذا فيحتاج إلى إخراجها عن كونها من حقوق الله.وثالثا:- على أصل الكلام وما قاله العصري فيما نقل عنه- ما تقدم في الحديث قبله من حديث عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فإنه يقطع دابر هذا الوهم ويدل على أن مصطلحهم في الحدود: إطلاقها على المقدرات التي يطلق عليها الفقهاء اسم الحد فإن ما عدا ذلك لا ينتهي إلى مقدار أربعين فهو ثمانون وإنما المنتهي إليه: هي الحدود المقدرات.وقد ذهب أشهب من المالكية إلى ظاهر هذا الحديث كما ذهب إليه صاحب التقريب من الشافعية والحديث متعرض للمنع من الزيادة على العشرة ويبقى ما دونها لا نعرض للمنع فيه.وليس التخيير فيه ولا في شيء مما يفوض إلى الولاة: تخيير تشه بل لابد عليهم من الاجتهاد.وعن بعض المالكية: أن مؤدب الصبيان لا يزيد على ثلاثة فإن زاد اقتص منه وهذا تحديد يبعد إقامة الدليل المتين عليه ولعله يأخذه من الثلاث: اعتبرت في مواضع وهو أول حد الكثرة وفي ذلك ضعف.والذي ذكره المصنف- من أن أبا بردة: هو هانئ بن نيار- مختلف فيه فقد قيل: إنه رجل من الأنصار.
-
.باب حد السرقة: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته- وفي لفظ: ثمنه- ثلاثة دراهم).اختلف الفقهاء في النصاب في السرقة أصلا وقدرا أما الأصل: فجمهورهم على اعتبار النصاب وشذ الظاهرية فلم يعتبروه ولم يفرقوا القليل والكثير وقالوا بالقطع فيهما ونقل في ذلك وجه في مذهب الشافعي.والاستدلال بهذا الحديث على اعتبار النصاب ضعيف فإنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار فعلا: عدم القطع فيما دونه نطقا.وأما المقدار: فإن الشافعي يرى أن النصاب ربع دينار لحديث عائشة الآتي يقوم ماعدا الذهب بالذهب وأبو حنيفة يقول: إن النصاب عشرة دراهم ويقوم ما عدا الفضة بالفضة ومالك يرى: أن النصاب ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم وكلاهما أصل ويقوم ما عداهما بالدرهم وكلا الحديثين يدل على خلاف مذهب أبي حنيفة.وأما هذا الحديث: فإن الشافعي بين أنه لا يخالف حديث عائشة وأن الدينار كان اثني عشرة درهما وربعه ثلاثة دراهم أعني صرفه ولهذا قومت الدية باثني عشر ألفا من الورق وألف دينار من الذهب.وهذا الحديث يستدل به لمذهب مالك في أن الفضة أصل في التقويم فإن المسروق كان غير الذهب والفضة وقوم بالفضة دون الذهب: دل على أنها أصل في التقويم وإلا كان الرجوع إلى الذهب- الذي هو الأصل- أولى وأوجب عند من يرى التقويم به والحنفية في مثل هذا الحديث وفيمن روى في حديث عائشة: (القطع في ربع دينار فصاعدا) يقولون- أو من قال منهم- في التأويل ما معناه: إن التقويم أمر ظني تخميني فيجوز أن تكون قيمته عند عائشة ربع دينار أو ثلاثة دراهم ويكون عند غيرها أكثر وقد ضعف غيرهم هذا التأويل وشنعه عليهم بما معناه: إن عائشة لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه إلا عن تحقيق لعظم أمر القطع.والمجن بكسر الميم وفتح الجيم: الترس مفعل من معنى الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء وما يقارب ذلك ومنه الجن وكسرت ميمه لأنه آلة في الاجتنان كأن صاحبه يستتر به عما يحاذره قال الشاعر:فكان مجني دون ما كنت أتقي ** ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر والقيمة والثمن: مختلفان في الحقيقة وتعتبر القيمة وما ورد في بعض الروايات من ذكر الثمن فلعله لتساويهما عند الناس في ذلك الوقت أو في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة وإلا فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه لم تعتبر إلا القيمة.2- عن عائشة رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا».هذا الحدي اعتماد الشافعي رحمه الله في مقدار النصاب وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وقولا وهذه الرواية قول وهو أقوى في الاستدلال من الفعل لأنه لا يلزم من القطع في مقدار معين- اتفق أن السارق الذي قطع سرقه أن لا يقطع من سرق ما دونه وأما القول الذي يدل على اعتبار مقدار معين في القطع: فإنه يدل على عدم اعتبار ما زاد عليه في إباحة القطع فإنه لو اعتبر في ذلك لم يجز القطع فيما دونه وأيضا: فرواية الفعل يدخل فيها ما ذكرناه من التأويل المستضعف في أن التقويم أمر ظني إلى آخره.واعلم أن هذا الحديث قوي في الدلالة على أصحاب أبي حنيفة فإنه يقتضي صريحه: القطع في هذا المقدار الذي لا يقولون بجواز القطع به وأما دلالته على الظاهر: فليس من حيث النطق بل من حيث المفهوم وهو داخل في مفهوم العدد ومرتبته أقوى من مرتبة مفهوم اللقب.3- عائشة رضي الله عنها: أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟» ثم قام فاختطب.فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف: أقاموا عليه الحد وأيم الله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».وفي لفظ: «كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها».قد أطلق في هذا الحديث على هذه المرأة لفظة السرقة ولا إشكال فيه وإنما الإشكال في الرواية الثانية وهو إطلاق جحد العارية على المرأة وليس في لفظ هذا الحديث ما يدل على أن المعبر عنه امرأة واحدة ولكن في عبارة المصنف ما يشعر بذلك فإنه جعل الذي ذكره ثانيا رواية وهو يقتضي من حيث الإشعار العادي: أنهما حديث واحد.اختلف فيه: هل كانت هذه المرأة المذكورة سارقة أو جاحدة؟ وعن أحمد: أنه أوجب القطع في صورة جحود العارية عملا بتلك الرواية فإذا أخذ بطريق صناعي- أعني في صنعة الحديث- ضعفت الدلالة على مسألة الجحود قليلا فإنه يكون اختلافا في واقعة واحدة فلا يثبت الحكم المرتب على الجحود حتى يتبين ترجيح رواية من روى في هذا الحديث أنها كانت جاحدة على رواية من روى أنها كانت سارقة.وأظهر بعض الشافعية النكير والتعجب ممن أول حديث عائشة في القطع في ربع دينار- الذي روي فعلا- بأن اعتمد على رواية من رواه قولا فإنه كان مخرج الحديث مختلفا فالأمر كما قال فإن أحد الحديثين حينئذ يدل على القطع فعلا في هذا المقدار والثاني: يدل عليه قولا ولا يتأتى فيه تأويل احتمال الغلط في التقويم وإن كان مخرج الحديث واحدا ففيه من الكلام ما أشرنا إليه الآن إلا أنه هاهنا قوي لأنه لا يجوز للراوي إذا كان سمعه لرواية الفعل: أن يغيره إلى رواية القول فيظهر من هذا: أنهما حديثان مختلفان اللفظ وإن كان مخرجهما واحدا.وفي الحديث: دليل على امتناع الشفاعة في الحد بعد بلوغه السلطان وفيه تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى.ولفظة إنما هاهنا دالة على الحصر والظاهر: أنه ليس للحصر المطلق مع احتمال ذلك فإن بني إسرائيل كانت فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك فيحمل ذلك على حصر مخصوص وهو الإهلاك بسبب المحاباة في حدود الله فلا ينحصر ذلك في هذا الحد المخصوص.وقد يستدل بقوله عليه السلام: «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» على أن ما خرج هذا المخرج من الكلام الذي يقتضي تعليق القول بتقدير أمر آخر: لا يمنع وقد شدد جماعة في مثل هذا ومراتبه في القبح مختلفة..باب حد الخمر: 1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين قال: وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر.لا خلاف في الحد على شرب الخمر واختلفوا في مقداره فمذهب الشافعي: أنه أربعون واتفق أصحابه: أنه لا يزيد على الثمانين وفي الزيادة على الأربعين إلى الثمانين: خلاف والأظهر: الجواز ولو رأى الإمام أن يحده بالنعال وأطراف الثياب كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم جاز ومنهم من منع ذلك تعليلا بعسر الضبط وظاهر قوله: «فجلده بجريدة نحو أربعين» أن هذا العدد هو القدر الذي ضرب به وقد وقع في رواية الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضربوه» فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وفي الحديث: «قال: فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك الضرب؟ فقومه أربعين فضرب أبو بكر في الخمر أربعين» ففسره بعض الناس وقال: أي قدر الضرب الذي ضربه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب: فكان مقدار أربعين ضربة لا أنها عددا أربعون بالثياب والنعال والأيدي إنما قايس مقدار ما ضربه ذلك الشارب فكان: مقدار أربعين عصا فلذلك قال فقومه أي جعل قيمته أربعين وهذا عندي خلاف الظاهر ويبعده: قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر أربعين فإنه لا ينطلق إلا على عدد كثير من الضرب بالأيدي والنعال وتسليط التأويل على لفظة قومه أنها بمعنى قدر ما وقع فكان أربعين: أقرب من تسليط هذا صدق قولنا جلد أربعين حقيقة.وقوله فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون ويروى بالنصب أخف الحدود ثمانين أي اجعله وما يقارب ذلك.وفيه دليل على المشاورة في الأحكام والقول فيها بالاجتهاد وقيل: إن الذي أشار بالثمانين: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد يستدل به من يرى الحكم بالقياس أو الاستحسان.وقوله فلما كان عمر يجوز أن يكون على حذف مضاف أي فلما كان زمن ولاية عمر وما يقارب ذلك ومذهب مالك: أن حد الخمر: ثمانون على ما وقع في زمن عمر.2- عن أبي بردة- هانئ بن نيار- البلوي رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا حد من حدود الله».فيه مسألتان:إحداهما: إثبات التعزير في المعاصي التي لا حد فيها لما يقتضيه من جواز العشرة فما دونها.المسألة الثانية: اختلفوا في مقدار التعزير والمنقول عن مالك: أنه لا يتقدر بهذا القدر ويجيز في العقوبات فوق هذا وفوق الحدود على قدر الجريمة وصاحبها وأن ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام وظاهر مذهب الشافعي: أنه لا يبلغ بالتعزير إلى الحدود وعلى هذا: ففي المعتبر وجهان:أحدهما: أدنى الحدود في حق المعزر فلا يزاد في تعزير الحر على تسع وثلاثين ضربة ليكون دون حد الشرب ولا في تعزير العبد على تسعة عشر سوطا.والثاني: أنه يعتبر أدنى الحدود على الإطلاق فلا يزاد في تعزير الحر أيضا على تسعة عشر سوطا أيضا.وفيه وجه ثالث: أن الاعتبار بحد الأحرار فيجوز أن يزاد تعزير العبد على عشرين.وذهب غير واحد إلى ظاهر الحديث وهو أنه لا يزاد في التعزير على عشرة وإليه ذهب الشافعية صاحب التقريب وذكر بعض المصنفين منهم: أن الأظهر: أنه لا يجوز الزيادة على العشر.واختلف المخالفون لظاهر هذا الحديث في العذر عنه فقال بعض مصنفي الشافعية: إنه منسوخ بعمل الصحابة بخلافه وهذا ضعيف جدا لأنه يتعذر عليه إثبات إجماع الصحابة على العمل بخلافه وفعل بعضهم أو فتواه لا يدل على النسخ والمنقول في ذلك: فعل عمر رضي الله عنه أنه ضرب صبيغا أكثر من الحد أو مائة وصبيغ هذا- بفتح الصاد المهملة وكسر ثاني الحروف وأخره غين معجمة- وقال بعض المالكية: وتأول أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر وهذا في غاية الضعف أيضا لأنه ترك للعموم بغير دليل شرعي على الخصوص وما ذكره مناسبة ضعيفة لا تستقل بإثبات التخصيص.قال هذا المالكي: وتأولوه أيضا على أن المراد بقوله: «في حد من حدود الله» أي حق من حقوقه وإن لم يكن من المعاصي المقدرة حدودها لأن المحرمات كلها من حدود الله.وبلغني عن بعض أهل العصر: أنه قرر هذا المعنى بأن تخصيص الحد بهذه المقدمات أمر اصطلاحي فقهي وأن عرف الشرع في أول الإسلام: لم يكن كذلك أو يحتمل أن لا يكون كذلك- هذا وكما قال- فلا يخرج عنه إلا التأديبات التي ليست عن محرم شرعي.وهذا- أولا- خروج في لفظة الحد عن العرف فيها وما ذكره هذا العصري: يوجب النقل والأصل عدمه.وثانيا: أنا إذا حملناه على ذلك وأجزنا في كل حق من حقوق الله: أن يزاد لم يبق لنا شيء يختص المنع فيه بالزيادة على عشرة أسواط إذ ما عدا المحرمات كلها التي لا تجوز فيها الزيادة: ليس إلا ما ليس بمحرم واصل التعزير فيه ممنوع فلا يبقى لخصوص منع الزيادة منى وهذا أوردناه على ما قاله المالكي في إطلاقه لحقوق الله وقد يتعذر عنه بما أشرنا إليه من أنه لا يخرج عنه إلا التأديبات على ما ليس بمحرم ومع هذا فيحتاج إلى إخراجها عن كونها من حقوق الله.وثالثا:- على أصل الكلام وما قاله العصري فيما نقل عنه- ما تقدم في الحديث قبله من حديث عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فإنه يقطع دابر هذا الوهم ويدل على أن مصطلحهم في الحدود: إطلاقها على المقدرات التي يطلق عليها الفقهاء اسم الحد فإن ما عدا ذلك لا ينتهي إلى مقدار أربعين فهو ثمانون وإنما المنتهي إليه: هي الحدود المقدرات.وقد ذهب أشهب من المالكية إلى ظاهر هذا الحديث كما ذهب إليه صاحب التقريب من الشافعية والحديث متعرض للمنع من الزيادة على العشرة ويبقى ما دونها لا نعرض للمنع فيه.وليس التخيير فيه ولا في شيء مما يفوض إلى الولاة: تخيير تشه بل لابد عليهم من الاجتهاد.وعن بعض المالكية: أن مؤدب الصبيان لا يزيد على ثلاثة فإن زاد اقتص منه وهذا تحديد يبعد إقامة الدليل المتين عليه ولعله يأخذه من الثلاث: اعتبرت في مواضع وهو أول حد الكثرة وفي ذلك ضعف.والذي ذكره المصنف- من أن أبا بردة: هو هانئ بن نيار- مختلف فيه فقد قيل: إنه رجل من الأنصار.
-
.كتاب الأيمان والنذور: .مدخل: 1- عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير».فيه مسائل:المسألة الأولى: ظاهره يقتضي كراهية سؤال الإمارة مطلقا والفقهاء تصرفوا فيه بالقواعد الكلية فمن كان متعينا للولاية وجب عليه قبولها إن عرضت عليه وطلبها إن لم تعرض لأنه فرض كفاية لا يتأدى إلا به فيتعين عليه القيام به وكذا إذا لم يتعين وكان أفضل من غيره ومنعنا ولاية الفضول مع وجد الأفضل وإن كان غيره أفضل منه ولم نمنع تولية المفضول مع وجود الفاضل: فههنا يكره له أن يدخل في الولاية وأن يسألها وحرم بعضهم الطلب وكره للإمام أن يوليه وقال: إن ولاه انعقدت ولايته وقد استخطئ فيما قال ومن الفقهاء من أطلق القول بكراهية القضاء لأحاديث وردت فيه.المسألة الثانية: لما كان خطر الولاية عظيما بسبب أمور في الوالي وبسبب أمور خارجة عنه: كان طلبها تكلفا ودخولا في غرر عظيم فهو جدير بعدم العون ولما كانت إذا أتت من غير مسألة لم يكن فيها هذا التكلف: كانت جديرة بالعون على أعبائها وأثقالها.وفي الحديث: إشارة إلى ألطاف الله تعالى بالعبد بالإعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله تفضلا زائدا على مجرد التكليف والهداية إلى النجدين هي مسألة أصولية كثر فيها الكلام في فنها والذي يحتاج إليه في الحديث: ما أشرنا إليه الآن.المسألة الثالثة: للحديث تعلق بالتكفير قبل الحنث ومن يقول بجوازه قد يتعلق بالبداءة بقوله عليه السلام: «فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير» وهذا ضعيف لأن الواو لا تقتضي الترتيب, والمعطوف عليه بها كالجملة الواحدة وليس بجيد طريقة من يقول في مثل هذا: إن الفاء تقضي الترتيب والتعقيب فيقتضي ذلك: أن يكون التكفير مستعقبا لروية الخير في الحنث فإذا استعقبه التكفير: تأخر الحنث ضرورة وإنما قلنا إنه ليس بجيد لما بيناه من حكم الواو فلا فرق بين قولنا فكفر وائت الذي هو خير وبين قولنا فاعل هذين ولو قال كذلك لم يقتض ترتيبا ولا تقديما فكذلك إذا أتى بالواو.وهذه الطريقة التي أشرنا إليها ذكرها بعض الفقهاء في اشتراط الترتيب في الوضوء وقال: إن الآية تقتضي تقديم غسل الوجه بسبب الفاء وإذا وجب تقديم غسل الوجه وجب الترتيب في بقية الأعضاء اتفاقا وهو ضعيف لما بيناه.المسألة الرابعة: يقتضي الحديث: تأخير مصلحة الوفاء بمقتضى اليمين إذا كان غيره خيرا بنصه وأما مفهومه: فقد يشير بأن الوفاء بمقتضى اليمين عند عدم رؤية الخير في غيرها مطلوب وقد تنازع المفسرون في معنى قوله تعلى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] وحمله بعضهم على ما دل عليه الحديث ويكون معنى عرضة أي مانعا وأن تبروا بتقدير: ما أن تبروا.2- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني والله- إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها».في هذا الحديث: تقديم ما يقتضي الحنث في اللفظ على الكفارة إن كان معنى قوله عليه السلام وتحللتها التكفير عنها ويحتمل أن يكون معناه: إتيان ما يقتضي الحنث فإن التحلل نقيض العقد والعقد: هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها فيكون التحلل: الإتيان بخلاف مقتضاها.فإن قلت: فيكفي عن هذا قوله: «أتيت الذي هو خير منها» فإنه بإتيانه إياه تحصل مخالفة اليمين والتحلل منها فلا يفيد قوله عليه السلام حينئذ «وتحللت» فائدة زائدة على ما في قوله: «أتيت الذي هو خير منها».قلت: فيه فائدة التصريح والتنصيص على كون ما فعله محللا والإتيان به بلفظه يناسب الجواز والحل صريحا فإذا صرح بذلك كان أبلغ مما إذا أتى به على سبيل الاستلزام.وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكم المذكور باليمين بالله تعالى وهو يقتضي المبالغة في ترجيح الحنث على الوفاء عند هذه الحالة.وهذا الخير الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: أمر يرجع إلى مصالح الحنث المتعلقة بالمفعول المحلوف على تركه مثلا.وهذا الحديث له سبب مذكور في غير هذا الموضع وهو: «أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن يحملهم ثم حملهم».3- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم».ولمسلم: «فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».وفي رواية قال عمر: «فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ذاكرا ولا آثرا».يعني: حاكيا عن غيري: أنه حلف بها.الحديث: دليل على المنع من الحلف بغير الله تعالى واليمين منعقد عند الفقهاء باسم الذات وبالصفات العلية وأما اليمين بغير ذلك: فهو ممنوع واختلفوا في هذا المنع هل هو على التحريم أو على الكراهة؟ والخلاف موجود عند المالكية فالأقسام ثلاثة.الأول: ما يباح به اليمين وهو ما ذكرناه من أسماء الذات والصفات.والثاني: ما تحرم اليمين به بالاتفاق كالأنصاب والأزلام واللات والعزى فإن قصد تعظيمها فهو كفر كذا قال بعض المالكية معلقا للقول فيه حيث يقول فإن قصد تعظيمها فكفر وإلا فحرام القسم بالشيء تعظيم له وسيأتي حديث يدل إطلاقه على الكفر لمن حلف ببعض ذلك وما يشبهه ويمكن إجراؤه على ظاهره لدلالة اليمين بالشيء على التعظيم له.الثالث: ما يختلف فيه بالتحريم والكراهة وهو ما عدا ذلك مما يقتضي تعظيمه كفرا.وفي قول عمر رضي الله عنه ذاكرا ولا آثرا مبالغة في الاحتياط وأن لا يجري على اللسان ما صورته صورة الممنوع شرعا.4- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له: قل: إن شاء الله فلم يقل فطاف بهن فلم تلد منهم إلا امرأة واحدة: نصف إنسان», قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قال إن شاء الله: لم يحنث وكان دركا لحاجته».قوله: «قيل له: قل إن شاء الله» يعني قال له الملك.فيه دليل: على أن اتباع اليمن بالله بالمشيئة: يرفع حكم اليمين لقوله عليه السلام لم يحنث وفيه نظر وهذا ينقسم إلى ثلاثة أوجه.أحدها: أنها ترد المشيئة إلى الفعل المحلوف عليه كقوله مثلا لأدخلن الدار إن شاء الله وأراد: رد المشيئة إلى الدخول أي إن شاء الله دخولها وهذا هو الذي ينفعه الاستثناء بالمشيئة ولا يحنث إن لم يفعل.الثاني: أن يرد الاستثناء بالمشيئة إلى نفس اليمين فلا ينفعه الرجوع لوقوع اليمين وتيقن مشيئة الله.والثالث: أن يذكر على سبيل الأدب في تفويض الأمر إلى مشيئة الله وامتثالا لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 ,24] لا على قصد معنى التعليق وهذا لا يرفع حكم اليمين.ولا تعلق للحديث بتعليق الطلاق بالمشيئة والفقهاء مختلفون فيه ومالك يفرق بين الطلاق واليمين بالله ويوقع الطلاق وإن علق بالمشيئة بخلاف اليمين بالله لأن الطلاق حكم قد شاءه الله وهو مشكل جدا تركنا التعرض لتقريره لعدم تعلقه بالحديث.وقد يؤخذ من هذا الحديث أن الكناية في اليمين مع النية كالصريح في حكم اليمين من حيث إن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حكاه عن سليمان عليه السلام وهو قوله: «لأطوفن» ليس فيه التصريح باسم الله تعالى لكنه مقدر لأجل اللام التي دخلت على قوله: «لأطوفن» فإن كان قد قيل بذلك وأن اليمين تلزم بمثل هذا فالحديث حجة لمن قاله وإن لم يكن فيحتاج إلى تأويله وتقدير اللفظ باسم الله تعالى صريحا في المحكي وإن كان ساقطا في الحكاية وهذا ليس بممتنع في الحكاية فإن من قال والله لأطوفن فقد قال لأطوفن فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد.وقوله: «وكان دركا لحاجته» يراد به: أنه كان يحصل ما أراد.وقد يؤخذ من الحديث جواز الإخبار عن وقوع الشيء المستقبل بناء على الظن فإن هذا الإخبار أعني قول سليمان عليه السلام: «تلد كل امرأة منهن غلاما» لا يجوز أن يكون عن وحي وإلا لوجب وقوع مخبره وأجاز الفقهاء الشافعية اليمين على الظن في الماضي وقالوا: يجوز أن يحلف على خط أبيه وذكر بعضهم أضعف من هذا وأجاز الحلف في صورة بناء على قرينة ضعيفة.وأما بعض المالكية فإنه دل لفظه على احتمال في هذا الجواز وتردد أو على نقل خلاف أعني اليمين على الظن لأنه قال: والظاهر أن الظن كذلك وهو محتمل لما ذكرناه من الوجهين.وقد يؤخذ من الحديث أن الاستثناء إذا اتصل باليمين في اللفظ أنه يثبت حكمه وإن لم ينو من أول اللفظ وذلك أن الملك قال: قل إن شاء الله تعالى عند فراغه من اليمين فلو لم يثبت لما أفاد قوله ويمكن أن يجعل ذلك تأدبا لا لرفع حكم اليمين فلا يكون فيه حجة.وأقوى من ذلك في الدلالة قوله عليه السلام: «لو قال إن شاء الله لم يحنث» مع احتماله للتأويل.5- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان», ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية.يمين الصبر هي التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين والصبر الحبس فكأنه يحبس نفسه على هذا الأمر العظيم وهي اليمين الكاذبة ويقال لمثل هذه اليمين الغموس أيضا وفي الحديث وعيد شديد لفاعل ذلك وذلك لما فيها من أكل المال بالباطل ظلما وعدوانا والاستخفاف بحرمة اليمين بالله.وهذا الحديث يقتضي تفسير هذه الآية بهذا المعنى وفي ذلك اختلاف بين المفسرين ويترجح قول من ذهب إلى هذا المعنى بهذا الحديث وبيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني كتاب الله العزيز وهو أمر يحصل للصحابة بقرائن تحف بالقضايا.6- عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه», قلت: إذا يحلف ولا يبالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان».هذا الحديث فيه دلالة على الوعيد المذكور كالأول وفيه شيء آخر يتعلق بمسألة اختلف فيها الفقهاء وهو ما إذا ادعى على غريمه شيئا فأنكره وأحلفه ثم أراد إقامة البينة عليه بعد الإحلاف فله ذلك عند الشافعية وعند المالكية: ليس له ذلك إلا أن يأتي بعذر في ترك إقامة البينة يتوجه له وربما يتمسكون بقوله عليه السلام: «شاهداك أو يمينه» وفي حديث آخر: «ليس لك إلا ذلك» ووجه الدليل منه أن أو تقتضي أحد الشيئين فلو أجزنا إقامة.
-
.كتاب الأيمان والنذور: .مدخل: 1- عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير».فيه مسائل:المسألة الأولى: ظاهره يقتضي كراهية سؤال الإمارة مطلقا والفقهاء تصرفوا فيه بالقواعد الكلية فمن كان متعينا للولاية وجب عليه قبولها إن عرضت عليه وطلبها إن لم تعرض لأنه فرض كفاية لا يتأدى إلا به فيتعين عليه القيام به وكذا إذا لم يتعين وكان أفضل من غيره ومنعنا ولاية الفضول مع وجد الأفضل وإن كان غيره أفضل منه ولم نمنع تولية المفضول مع وجود الفاضل: فههنا يكره له أن يدخل في الولاية وأن يسألها وحرم بعضهم الطلب وكره للإمام أن يوليه وقال: إن ولاه انعقدت ولايته وقد استخطئ فيما قال ومن الفقهاء من أطلق القول بكراهية القضاء لأحاديث وردت فيه.المسألة الثانية: لما كان خطر الولاية عظيما بسبب أمور في الوالي وبسبب أمور خارجة عنه: كان طلبها تكلفا ودخولا في غرر عظيم فهو جدير بعدم العون ولما كانت إذا أتت من غير مسألة لم يكن فيها هذا التكلف: كانت جديرة بالعون على أعبائها وأثقالها.وفي الحديث: إشارة إلى ألطاف الله تعالى بالعبد بالإعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله تفضلا زائدا على مجرد التكليف والهداية إلى النجدين هي مسألة أصولية كثر فيها الكلام في فنها والذي يحتاج إليه في الحديث: ما أشرنا إليه الآن.المسألة الثالثة: للحديث تعلق بالتكفير قبل الحنث ومن يقول بجوازه قد يتعلق بالبداءة بقوله عليه السلام: «فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير» وهذا ضعيف لأن الواو لا تقتضي الترتيب, والمعطوف عليه بها كالجملة الواحدة وليس بجيد طريقة من يقول في مثل هذا: إن الفاء تقضي الترتيب والتعقيب فيقتضي ذلك: أن يكون التكفير مستعقبا لروية الخير في الحنث فإذا استعقبه التكفير: تأخر الحنث ضرورة وإنما قلنا إنه ليس بجيد لما بيناه من حكم الواو فلا فرق بين قولنا فكفر وائت الذي هو خير وبين قولنا فاعل هذين ولو قال كذلك لم يقتض ترتيبا ولا تقديما فكذلك إذا أتى بالواو.وهذه الطريقة التي أشرنا إليها ذكرها بعض الفقهاء في اشتراط الترتيب في الوضوء وقال: إن الآية تقتضي تقديم غسل الوجه بسبب الفاء وإذا وجب تقديم غسل الوجه وجب الترتيب في بقية الأعضاء اتفاقا وهو ضعيف لما بيناه.المسألة الرابعة: يقتضي الحديث: تأخير مصلحة الوفاء بمقتضى اليمين إذا كان غيره خيرا بنصه وأما مفهومه: فقد يشير بأن الوفاء بمقتضى اليمين عند عدم رؤية الخير في غيرها مطلوب وقد تنازع المفسرون في معنى قوله تعلى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] وحمله بعضهم على ما دل عليه الحديث ويكون معنى عرضة أي مانعا وأن تبروا بتقدير: ما أن تبروا.2- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني والله- إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها».في هذا الحديث: تقديم ما يقتضي الحنث في اللفظ على الكفارة إن كان معنى قوله عليه السلام وتحللتها التكفير عنها ويحتمل أن يكون معناه: إتيان ما يقتضي الحنث فإن التحلل نقيض العقد والعقد: هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها فيكون التحلل: الإتيان بخلاف مقتضاها.فإن قلت: فيكفي عن هذا قوله: «أتيت الذي هو خير منها» فإنه بإتيانه إياه تحصل مخالفة اليمين والتحلل منها فلا يفيد قوله عليه السلام حينئذ «وتحللت» فائدة زائدة على ما في قوله: «أتيت الذي هو خير منها».قلت: فيه فائدة التصريح والتنصيص على كون ما فعله محللا والإتيان به بلفظه يناسب الجواز والحل صريحا فإذا صرح بذلك كان أبلغ مما إذا أتى به على سبيل الاستلزام.وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكم المذكور باليمين بالله تعالى وهو يقتضي المبالغة في ترجيح الحنث على الوفاء عند هذه الحالة.وهذا الخير الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: أمر يرجع إلى مصالح الحنث المتعلقة بالمفعول المحلوف على تركه مثلا.وهذا الحديث له سبب مذكور في غير هذا الموضع وهو: «أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن يحملهم ثم حملهم».3- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم».ولمسلم: «فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».وفي رواية قال عمر: «فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ذاكرا ولا آثرا».يعني: حاكيا عن غيري: أنه حلف بها.الحديث: دليل على المنع من الحلف بغير الله تعالى واليمين منعقد عند الفقهاء باسم الذات وبالصفات العلية وأما اليمين بغير ذلك: فهو ممنوع واختلفوا في هذا المنع هل هو على التحريم أو على الكراهة؟ والخلاف موجود عند المالكية فالأقسام ثلاثة.الأول: ما يباح به اليمين وهو ما ذكرناه من أسماء الذات والصفات.والثاني: ما تحرم اليمين به بالاتفاق كالأنصاب والأزلام واللات والعزى فإن قصد تعظيمها فهو كفر كذا قال بعض المالكية معلقا للقول فيه حيث يقول فإن قصد تعظيمها فكفر وإلا فحرام القسم بالشيء تعظيم له وسيأتي حديث يدل إطلاقه على الكفر لمن حلف ببعض ذلك وما يشبهه ويمكن إجراؤه على ظاهره لدلالة اليمين بالشيء على التعظيم له.الثالث: ما يختلف فيه بالتحريم والكراهة وهو ما عدا ذلك مما يقتضي تعظيمه كفرا.وفي قول عمر رضي الله عنه ذاكرا ولا آثرا مبالغة في الاحتياط وأن لا يجري على اللسان ما صورته صورة الممنوع شرعا.4- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له: قل: إن شاء الله فلم يقل فطاف بهن فلم تلد منهم إلا امرأة واحدة: نصف إنسان», قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قال إن شاء الله: لم يحنث وكان دركا لحاجته».قوله: «قيل له: قل إن شاء الله» يعني قال له الملك.فيه دليل: على أن اتباع اليمن بالله بالمشيئة: يرفع حكم اليمين لقوله عليه السلام لم يحنث وفيه نظر وهذا ينقسم إلى ثلاثة أوجه.أحدها: أنها ترد المشيئة إلى الفعل المحلوف عليه كقوله مثلا لأدخلن الدار إن شاء الله وأراد: رد المشيئة إلى الدخول أي إن شاء الله دخولها وهذا هو الذي ينفعه الاستثناء بالمشيئة ولا يحنث إن لم يفعل.الثاني: أن يرد الاستثناء بالمشيئة إلى نفس اليمين فلا ينفعه الرجوع لوقوع اليمين وتيقن مشيئة الله.والثالث: أن يذكر على سبيل الأدب في تفويض الأمر إلى مشيئة الله وامتثالا لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 ,24] لا على قصد معنى التعليق وهذا لا يرفع حكم اليمين.ولا تعلق للحديث بتعليق الطلاق بالمشيئة والفقهاء مختلفون فيه ومالك يفرق بين الطلاق واليمين بالله ويوقع الطلاق وإن علق بالمشيئة بخلاف اليمين بالله لأن الطلاق حكم قد شاءه الله وهو مشكل جدا تركنا التعرض لتقريره لعدم تعلقه بالحديث.وقد يؤخذ من هذا الحديث أن الكناية في اليمين مع النية كالصريح في حكم اليمين من حيث إن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حكاه عن سليمان عليه السلام وهو قوله: «لأطوفن» ليس فيه التصريح باسم الله تعالى لكنه مقدر لأجل اللام التي دخلت على قوله: «لأطوفن» فإن كان قد قيل بذلك وأن اليمين تلزم بمثل هذا فالحديث حجة لمن قاله وإن لم يكن فيحتاج إلى تأويله وتقدير اللفظ باسم الله تعالى صريحا في المحكي وإن كان ساقطا في الحكاية وهذا ليس بممتنع في الحكاية فإن من قال والله لأطوفن فقد قال لأطوفن فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد.وقوله: «وكان دركا لحاجته» يراد به: أنه كان يحصل ما أراد.وقد يؤخذ من الحديث جواز الإخبار عن وقوع الشيء المستقبل بناء على الظن فإن هذا الإخبار أعني قول سليمان عليه السلام: «تلد كل امرأة منهن غلاما» لا يجوز أن يكون عن وحي وإلا لوجب وقوع مخبره وأجاز الفقهاء الشافعية اليمين على الظن في الماضي وقالوا: يجوز أن يحلف على خط أبيه وذكر بعضهم أضعف من هذا وأجاز الحلف في صورة بناء على قرينة ضعيفة.وأما بعض المالكية فإنه دل لفظه على احتمال في هذا الجواز وتردد أو على نقل خلاف أعني اليمين على الظن لأنه قال: والظاهر أن الظن كذلك وهو محتمل لما ذكرناه من الوجهين.وقد يؤخذ من الحديث أن الاستثناء إذا اتصل باليمين في اللفظ أنه يثبت حكمه وإن لم ينو من أول اللفظ وذلك أن الملك قال: قل إن شاء الله تعالى عند فراغه من اليمين فلو لم يثبت لما أفاد قوله ويمكن أن يجعل ذلك تأدبا لا لرفع حكم اليمين فلا يكون فيه حجة.وأقوى من ذلك في الدلالة قوله عليه السلام: «لو قال إن شاء الله لم يحنث» مع احتماله للتأويل.5- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان», ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية.يمين الصبر هي التي يصبر فيها نفسه على الجزم باليمين والصبر الحبس فكأنه يحبس نفسه على هذا الأمر العظيم وهي اليمين الكاذبة ويقال لمثل هذه اليمين الغموس أيضا وفي الحديث وعيد شديد لفاعل ذلك وذلك لما فيها من أكل المال بالباطل ظلما وعدوانا والاستخفاف بحرمة اليمين بالله.وهذا الحديث يقتضي تفسير هذه الآية بهذا المعنى وفي ذلك اختلاف بين المفسرين ويترجح قول من ذهب إلى هذا المعنى بهذا الحديث وبيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني كتاب الله العزيز وهو أمر يحصل للصحابة بقرائن تحف بالقضايا.6- عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه», قلت: إذا يحلف ولا يبالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان».هذا الحديث فيه دلالة على الوعيد المذكور كالأول وفيه شيء آخر يتعلق بمسألة اختلف فيها الفقهاء وهو ما إذا ادعى على غريمه شيئا فأنكره وأحلفه ثم أراد إقامة البينة عليه بعد الإحلاف فله ذلك عند الشافعية وعند المالكية: ليس له ذلك إلا أن يأتي بعذر في ترك إقامة البينة يتوجه له وربما يتمسكون بقوله عليه السلام: «شاهداك أو يمينه» وفي حديث آخر: «ليس لك إلا ذلك» ووجه الدليل منه أن أو تقتضي أحد الشيئين فلو أجزنا إقامة.