-
مجموع الأنشطة
2008 -
تاريخ الانضمام
-
آخر نشاط
نوع المحتوي
الاقسام
المدونات
Store
التقويم
التحميلات
مكتبة الصور
المقالات
الأندية
دليل المواقع
الإعلانات
كل منشورات العضو الرسام
-
حكمه في كون ماء الاذن مر
قام الرسام بالرد على موضوع لـ ahmadde في نادي الفهلوى ديزاين للإبداع's ارشيف الموقع
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
النهي عن صوم يوم الجمعة محمول على صومه مفردا ن كما تبين في موضع آخر ولعل سببه: أن لا يخص يوم بعينه بعبادة معينة لما في التخصيص من التشبه باليهود في تخصيص السبت بالتجرد عن الأعمال الدنيوية إلا أن هذا ضعيف لأن اليهود لا يخصون يوم السبت بخصوص الصوم فلا يقوى التشبه بهم بل ترك الأعمال الدنيوية أقرب إلى التشبه بهم ولم يرد به النهي وإنما تؤخذ كراهته من قاعدة الكراهة التشبه بالكفار ومن قال: بأنه يكره التخصيص ليوم معين فقد أبطل تخصيص يوم الجمعة ولعله ينضم إلى ما ذكرناه من المعنى: أن اليوم لما كان فضيلا جدا على الأيام وهو يوم عيد هذه الملة كان الداعي إلى صومه قويا فنهى عنه حماية أن يتتابع الناس في صومه فيحصل فيه التشبه أو محذور إلحاق العوام إياه بالواجبات إذا أديم وتتابع الناس في صومه فيلحقون بالشرع ما ليس منه وأجاز مالك صومه مفردا وقال بعضهم: لم يبلغه الحديث أو لعله لم يبلغه.5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده».حديث أبي هريرة يبين المطلق في الرواية الأولى ويوضح أن المراد إفراده بالصوم ويظهر منه: أن العلة هي الإفراد بالصوم ويبقى النظر: هل ذلك مخصوص بهذا اليوم أم نعديه إلى قصد غيره بالتخصيص بالصوم؟ وقد أشرنا إلى الفرق بين تخصيصه وتخصيص غيره بأن الداعي هاهنا إلى تخصيصه عام بالنسبة إلى كل الأمة فالداعي إلى حماية الذريعة فيه أقوى من غيره فمن هذا الوجه: يمكن تخصيص النهي به ولو قدرنا أن العلة تقتضي عموم النهي عن التخصيص بصوم غيره ووردت دلائل تقتضي تخصيص البعض باستحباب صومه بعينه: لكانت مقدمة على العموم المستنبط من عموم العلة لجواز أن تكون العلة قد اعتبر فيها وصف من أوصاف محل النهي والدليل الدال على الاستحباب لم يتطرق إليه احتمال الرفع فلا يعارضه ما يحتمل فيه التخصيص ببعض أوصاف المحال.6- عن أبي عبيد مولى ابن أزهر- واسمه: سعد بن عبيد- قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر: تأكلون فيه من نسككم».مدلوله: المنع من صوم يومي العيد ويقتضي ذلك عدم صحة صومهما بوجه من الوجوه وعند الحنفية في الصحة مخالفة في بعض الوجوه فقالوا: إذا نذر صوم يوم العيد وأيام التشريق: صح نذره وخرج عن العهدة بصوم ذلك وطريقهم فيه: أن الصوم له جهة عموم وجهة خصوص فهو من حيث إنه صوم: يقع الامتثال به ومن حيث إنه صوم عيد: يتعلق به النهي والخروج عن العهدة: يحصل بالجهة الأولى أعني كونه صوما والمختار عند غيرهم: خلاف ذلك وبطلان النذر وعدم صحة الصوم: والذي يدعى من الجهتين بينهما تلازم هاهنا ولا انفكاك فيتمكن النهي من هذا الصوم فلا يصح أن يكون قربة فلا يصح نذره.بيانه: أن النهي ورد عن صوم يوم العيد والناذر له معلق لنذره بما تعلق به النهي وهذا بخلاف بالصلاة في الدار المغصوبة عند من يقول بصحتها فإنه لم يحصل التلازم بين جهة العموم أعني كونها صلاة وبين جهة الخصوص أعني كونها حصولا في مكان مغصوب وأعني بعدم التلازم ههنا: عدمه في الشريعة فإن الشره وجه الأمر إلى مطلق الصلاة والنهي إلى مطلق الغصب وتلازمهما واجتماعهما إنما هو في فعل المكلف لا في الشريعة فلم يتعلق النهي شرعا بهذا الخصوص بخلاف صوم يوم العيد فإن النهي ورد عن خصوصه فتلازمت جهة العموم وجهة الخصوص في الشريعة وتعلق النهي بعين ما وقع في النذر فلا يكون قربة.وتكلم أهل الأصول في قاعدة تقتضي النظر في هذه المسألة وهو أن النهي عند الأكثرين لا يدل على صحة المنهي عنه وقد نقلوا عن محمد بن الحسن: أنه يدل على صحة المنهي عنه.لأن النهي لابد فيه من إمكان المنهي عنه: إذ لا يقال للأعمى: لا تبصر: وللإنسان لا تطر فإذا هذا المنهي عنه- أعني صوم يوم العيد- ممكن وإذا أمكن ثبتت الصحة وهذا ضعيف لأن الصحة إنما تعتمد التصور والإمكان العقلي أو العادي والنهي يمنع التصور الشرعي فلا يتعارضان وكان محمد بن الحسن يصرف اللفظ في المنهي عنه إلى المعنى الشرعي.وفي الحديث دلالة على أن الخطيب يستحب له أن يذكر في خطبته ما يتعلق بوقته من الأحكام كذكر النهي عن صوم يوم العيد في خطبة العيد فإن الحاجة تمس إلى مثل ذلك وفيه إشعار وتلويح بأن علة الإفطار في يوم الضحى: الأكل من النسك.وفيه دليل على جواز الأكل من النسك وقد فرق الفقهاء بين الهدي والنسك وأجاز الأكل إلا من جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين وهدي التطوع إذا عطب قبل محله وجعل الهدي كجزاء الصيد وما وجب لنقص في حج أو عمرة.7- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: الفطر والنحر وعن الصماء وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد وعن الصلاة بعد الصبح والعصر» أخرجه مسلم بتمامه وأخرج البخاري الصوم فقط.أما صوم يوم العيد فقد تقدم وأما اشتمال الصماء فقال عبد الغافر الفارسي في مجمعه تفسير الفقهاء: أنه يشتمل بثوب ويرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فالنهي عنه لأنه يؤدي إلى التكشف وظهور العورة قال: وهذا التفسير لا يشعر به لفظ الصماء وقال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب فيستر به جميع جسده بحيث لا يترك فرجة يخرج منها يده واللفظ مطابق لهذا المعنى.والنهي عنه: يحتمل وجهين:أحدهما: أنه يخاف معه أن يدفع إلى حالة سادة لمتنفسه فيهلك عما تحته إذا لم تكن فيه فرجة والآخر: أنه إذا تخلل به فلا يتمكن من الاحتراس والاحتراز إن أصابه شيء أو نابه مؤذ ولا يمكنه أن يتقيه بيديه لإدخاله إياهما تحت الثوب الذي اشتمل به والله أعلم.وقد مر الكلام في النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر.وأما الاحتباء في الثوب الواحد: فيخشى منه تكشف العورة.8- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا».قوله: «في سبيل الله» العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد فإذا حمل عليه: كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين- أعني عبادة الصوم والجهاد- ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه والأول: أقرب إلى العرف وقد ورد في بعض الأحاديث: جعل الحج أو سفره في سبيل الله وهو استعمال وضعي.والخريف: يعبر به عن السنة فمعنى سبعين خريفا سبعون سنة وإنما عبر بالخريف عن السنة: من جهة أن السنة لا يكون فيها إلا خريف واحد فإذا مر الخريف فقد مضت السنة كلها وكذلك لو عبر بسائر الفصول عن العام كان سائغا بهذا المعنى إذ ليس في السنة إلا ربيع واحد وصيف واحد قال بعضهم: ولكن الخريف أولى بذلك لأنه الفضل الذي يحصل به نهاية ما بدأ في سائر الفصول لأن الأزهار تبدو في الربيع والثمار تتشكل صورها في الصيف وفيه يبدو نضجها ووقت الانتفاع بها أكلا وتحصيلا وادخارا في الخريف وهو المقصود منها فكان فصل الخريف أولى بأن يعبر به عن السنة من غيره والله أعلم..باب ليلة القدر: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر».فيه دليل على عظم الرؤيا والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها وقد تكلم الفقهاء فيما لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمره بأمر: هل يلزمه ذلك؟ وقيل فيه: إن ذلك إما أن يكون مخالفا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأحكام في اليقظة أولا فإن كان مخالفا عمل بما ثبت في اليقظة لأنا- وإن قلنا: بأن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المنقول من صفته فرؤياه حق- فهذا من قبيل تعارض الدليلين والعمل بأرجحهما وما ثبت في اليقظة فهو أرجح وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة: ففيه خلاف والاستناد إلى الرؤيا ههنا: في أمر ثبت استحبابه مطلقا وهو طلب ليلة القدر وإنما ترجح السبع الأواخر.لسبب المرائي الدالة على كونها في السبع الأواخر وهو استدلال على أمر وجودي إنه استحباب شرعي: مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي مع كونه غير مناف للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب طلب ليلة القدر وقد قالوا: يستحب في جميع الشهر.وفي الحديث دليل على أن ليلة القدر في شهر رمضان وهو مذهب الجمهور وقال بعض العلماء: إنها في جميع السنة وقالوا: لو قال في رمضان لزوجته: أنت طالق ليلة القدر لم تطلق حتى عليها سنة لأن كونها مخصوصة برمضان مظنون وصحة النكاح معلومة فلا تزال بيقين أنعني بيقين مرور ليلة القدر وفي هذا نظر لأنه إذا دلت الأحاديث على اختصاصها بالعشر الأواخر كان إزالة النكاح بناء على مستند شرعي وهو الأحاديث الدالة على ذلك والأحكام المقتضية لوقوع الطلاق يجوز أن تبنى على أخبار الآحاد ويرفع بها النكاح ولا يشترط في رفع النكاح أو أحكامه: أن يكون ذلك مستندا إلى خبر متواتر أو أمر مقطوع به اتفاقا نعم ينبغي أن ينظر إلى دلالة ألفاظ الأحاديث الدالة على اختصاصها بالعشر الأواخر ومرتبتها في الظهور والاحتمال فإن ضعفت دلالتها فلما قيل وجه.وفي الحديث دليل لمن رجح في ليلة القدر غير ليلة الحادي والعشرين والثالث والعشرين.2- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر».وحديث عائشة يدل على مادل عليه الحديث قبله مع زيادة الاختصاص بالوتر من السبع الأواخر.3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين- وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه- قال: من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر», فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين.وفي الحديث دليل لمن رجح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر ومن ذهب إلى أن ليلة القدر تنتقل في الليالي فله أن يقول: كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين ولا يلزم من ذلك: أن تترجح هذه الليلة مطلقا والقول بتنقلها حسن لأن فيه جمعا من الأحاديث وحثا على إحياء جميع تلك الليالي.وقوله: «يعتكف العشر الأوسط» الأقوى فيه: أن يقال الوسط والوسط بضم السين أو فتحها وأما الأوسط فكأنه تسمية لمجموع تلك الليالي والأيام وإنما رجح الأول: لأن العشر اسم لليالي فيكون وصفها الصحيح جمعا لا ئقا بها وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أن اعتكافه صلى الله عليه وسلم في ذلك العشر كان لطلب ليلة القدر وقبل أن يعلم أنها في العشر الأواخر.وقوله: «فوكف المسجد» أي قطر يقال: وكف البيت يكف وكفا ووكوفا: إذا قطر ووكف الدفع وكيفا ووكفانا: بمعنى قطر.وقد يأخذ من الحديث بعض الناس: أن مباشرة الجبهة بالمصلى في السجود غير واجب وهو من يقول: إنه لو سجد على كور العمامة- كالطاقة والطاقتين- صح ووجه الاستدلال: أنه إذا سجد في الماء والطين ففي السجود الأول: يعلق الطين بالجبهة فإذا سجد السجود الثاني: كان الطين الذي علق بالجبهة في السجود الأول حائلا في السجود الثاني عن مباشرة الجبهة بالأرض وفيه مع ذلك احتمال لأن يكون مسح ما علق بالجبهة أولا قبل السجود الثاني.والذي جاء في الحديث من قوله: «وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها اعتكافه» وقوله في آخر الحديث: «فرأيت أثر الماء والطين على جبهته من صبح إحدى وعشرين» يتعلق بمسألة تكلموا فيها وهي أن ليلة اليوم: هل هي السابقة عليه كما هو المشهور أو الآتية بعده كما نقل عن بعض أهل الحديث الظاهرية؟..باب الاعتكاف: 4- عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده».وفي لفظ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه».
-
النهي عن صوم يوم الجمعة محمول على صومه مفردا ن كما تبين في موضع آخر ولعل سببه: أن لا يخص يوم بعينه بعبادة معينة لما في التخصيص من التشبه باليهود في تخصيص السبت بالتجرد عن الأعمال الدنيوية إلا أن هذا ضعيف لأن اليهود لا يخصون يوم السبت بخصوص الصوم فلا يقوى التشبه بهم بل ترك الأعمال الدنيوية أقرب إلى التشبه بهم ولم يرد به النهي وإنما تؤخذ كراهته من قاعدة الكراهة التشبه بالكفار ومن قال: بأنه يكره التخصيص ليوم معين فقد أبطل تخصيص يوم الجمعة ولعله ينضم إلى ما ذكرناه من المعنى: أن اليوم لما كان فضيلا جدا على الأيام وهو يوم عيد هذه الملة كان الداعي إلى صومه قويا فنهى عنه حماية أن يتتابع الناس في صومه فيحصل فيه التشبه أو محذور إلحاق العوام إياه بالواجبات إذا أديم وتتابع الناس في صومه فيلحقون بالشرع ما ليس منه وأجاز مالك صومه مفردا وقال بعضهم: لم يبلغه الحديث أو لعله لم يبلغه.5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده».حديث أبي هريرة يبين المطلق في الرواية الأولى ويوضح أن المراد إفراده بالصوم ويظهر منه: أن العلة هي الإفراد بالصوم ويبقى النظر: هل ذلك مخصوص بهذا اليوم أم نعديه إلى قصد غيره بالتخصيص بالصوم؟ وقد أشرنا إلى الفرق بين تخصيصه وتخصيص غيره بأن الداعي هاهنا إلى تخصيصه عام بالنسبة إلى كل الأمة فالداعي إلى حماية الذريعة فيه أقوى من غيره فمن هذا الوجه: يمكن تخصيص النهي به ولو قدرنا أن العلة تقتضي عموم النهي عن التخصيص بصوم غيره ووردت دلائل تقتضي تخصيص البعض باستحباب صومه بعينه: لكانت مقدمة على العموم المستنبط من عموم العلة لجواز أن تكون العلة قد اعتبر فيها وصف من أوصاف محل النهي والدليل الدال على الاستحباب لم يتطرق إليه احتمال الرفع فلا يعارضه ما يحتمل فيه التخصيص ببعض أوصاف المحال.6- عن أبي عبيد مولى ابن أزهر- واسمه: سعد بن عبيد- قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر: تأكلون فيه من نسككم».مدلوله: المنع من صوم يومي العيد ويقتضي ذلك عدم صحة صومهما بوجه من الوجوه وعند الحنفية في الصحة مخالفة في بعض الوجوه فقالوا: إذا نذر صوم يوم العيد وأيام التشريق: صح نذره وخرج عن العهدة بصوم ذلك وطريقهم فيه: أن الصوم له جهة عموم وجهة خصوص فهو من حيث إنه صوم: يقع الامتثال به ومن حيث إنه صوم عيد: يتعلق به النهي والخروج عن العهدة: يحصل بالجهة الأولى أعني كونه صوما والمختار عند غيرهم: خلاف ذلك وبطلان النذر وعدم صحة الصوم: والذي يدعى من الجهتين بينهما تلازم هاهنا ولا انفكاك فيتمكن النهي من هذا الصوم فلا يصح أن يكون قربة فلا يصح نذره.بيانه: أن النهي ورد عن صوم يوم العيد والناذر له معلق لنذره بما تعلق به النهي وهذا بخلاف بالصلاة في الدار المغصوبة عند من يقول بصحتها فإنه لم يحصل التلازم بين جهة العموم أعني كونها صلاة وبين جهة الخصوص أعني كونها حصولا في مكان مغصوب وأعني بعدم التلازم ههنا: عدمه في الشريعة فإن الشره وجه الأمر إلى مطلق الصلاة والنهي إلى مطلق الغصب وتلازمهما واجتماعهما إنما هو في فعل المكلف لا في الشريعة فلم يتعلق النهي شرعا بهذا الخصوص بخلاف صوم يوم العيد فإن النهي ورد عن خصوصه فتلازمت جهة العموم وجهة الخصوص في الشريعة وتعلق النهي بعين ما وقع في النذر فلا يكون قربة.وتكلم أهل الأصول في قاعدة تقتضي النظر في هذه المسألة وهو أن النهي عند الأكثرين لا يدل على صحة المنهي عنه وقد نقلوا عن محمد بن الحسن: أنه يدل على صحة المنهي عنه.لأن النهي لابد فيه من إمكان المنهي عنه: إذ لا يقال للأعمى: لا تبصر: وللإنسان لا تطر فإذا هذا المنهي عنه- أعني صوم يوم العيد- ممكن وإذا أمكن ثبتت الصحة وهذا ضعيف لأن الصحة إنما تعتمد التصور والإمكان العقلي أو العادي والنهي يمنع التصور الشرعي فلا يتعارضان وكان محمد بن الحسن يصرف اللفظ في المنهي عنه إلى المعنى الشرعي.وفي الحديث دلالة على أن الخطيب يستحب له أن يذكر في خطبته ما يتعلق بوقته من الأحكام كذكر النهي عن صوم يوم العيد في خطبة العيد فإن الحاجة تمس إلى مثل ذلك وفيه إشعار وتلويح بأن علة الإفطار في يوم الضحى: الأكل من النسك.وفيه دليل على جواز الأكل من النسك وقد فرق الفقهاء بين الهدي والنسك وأجاز الأكل إلا من جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين وهدي التطوع إذا عطب قبل محله وجعل الهدي كجزاء الصيد وما وجب لنقص في حج أو عمرة.7- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: الفطر والنحر وعن الصماء وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد وعن الصلاة بعد الصبح والعصر» أخرجه مسلم بتمامه وأخرج البخاري الصوم فقط.أما صوم يوم العيد فقد تقدم وأما اشتمال الصماء فقال عبد الغافر الفارسي في مجمعه تفسير الفقهاء: أنه يشتمل بثوب ويرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فالنهي عنه لأنه يؤدي إلى التكشف وظهور العورة قال: وهذا التفسير لا يشعر به لفظ الصماء وقال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب فيستر به جميع جسده بحيث لا يترك فرجة يخرج منها يده واللفظ مطابق لهذا المعنى.والنهي عنه: يحتمل وجهين:أحدهما: أنه يخاف معه أن يدفع إلى حالة سادة لمتنفسه فيهلك عما تحته إذا لم تكن فيه فرجة والآخر: أنه إذا تخلل به فلا يتمكن من الاحتراس والاحتراز إن أصابه شيء أو نابه مؤذ ولا يمكنه أن يتقيه بيديه لإدخاله إياهما تحت الثوب الذي اشتمل به والله أعلم.وقد مر الكلام في النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر.وأما الاحتباء في الثوب الواحد: فيخشى منه تكشف العورة.8- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا».قوله: «في سبيل الله» العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد فإذا حمل عليه: كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين- أعني عبادة الصوم والجهاد- ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه والأول: أقرب إلى العرف وقد ورد في بعض الأحاديث: جعل الحج أو سفره في سبيل الله وهو استعمال وضعي.والخريف: يعبر به عن السنة فمعنى سبعين خريفا سبعون سنة وإنما عبر بالخريف عن السنة: من جهة أن السنة لا يكون فيها إلا خريف واحد فإذا مر الخريف فقد مضت السنة كلها وكذلك لو عبر بسائر الفصول عن العام كان سائغا بهذا المعنى إذ ليس في السنة إلا ربيع واحد وصيف واحد قال بعضهم: ولكن الخريف أولى بذلك لأنه الفضل الذي يحصل به نهاية ما بدأ في سائر الفصول لأن الأزهار تبدو في الربيع والثمار تتشكل صورها في الصيف وفيه يبدو نضجها ووقت الانتفاع بها أكلا وتحصيلا وادخارا في الخريف وهو المقصود منها فكان فصل الخريف أولى بأن يعبر به عن السنة من غيره والله أعلم..باب ليلة القدر: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر».فيه دليل على عظم الرؤيا والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها وقد تكلم الفقهاء فيما لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأمره بأمر: هل يلزمه ذلك؟ وقيل فيه: إن ذلك إما أن يكون مخالفا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الأحكام في اليقظة أولا فإن كان مخالفا عمل بما ثبت في اليقظة لأنا- وإن قلنا: بأن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المنقول من صفته فرؤياه حق- فهذا من قبيل تعارض الدليلين والعمل بأرجحهما وما ثبت في اليقظة فهو أرجح وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة: ففيه خلاف والاستناد إلى الرؤيا ههنا: في أمر ثبت استحبابه مطلقا وهو طلب ليلة القدر وإنما ترجح السبع الأواخر.لسبب المرائي الدالة على كونها في السبع الأواخر وهو استدلال على أمر وجودي إنه استحباب شرعي: مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي مع كونه غير مناف للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب طلب ليلة القدر وقد قالوا: يستحب في جميع الشهر.وفي الحديث دليل على أن ليلة القدر في شهر رمضان وهو مذهب الجمهور وقال بعض العلماء: إنها في جميع السنة وقالوا: لو قال في رمضان لزوجته: أنت طالق ليلة القدر لم تطلق حتى عليها سنة لأن كونها مخصوصة برمضان مظنون وصحة النكاح معلومة فلا تزال بيقين أنعني بيقين مرور ليلة القدر وفي هذا نظر لأنه إذا دلت الأحاديث على اختصاصها بالعشر الأواخر كان إزالة النكاح بناء على مستند شرعي وهو الأحاديث الدالة على ذلك والأحكام المقتضية لوقوع الطلاق يجوز أن تبنى على أخبار الآحاد ويرفع بها النكاح ولا يشترط في رفع النكاح أو أحكامه: أن يكون ذلك مستندا إلى خبر متواتر أو أمر مقطوع به اتفاقا نعم ينبغي أن ينظر إلى دلالة ألفاظ الأحاديث الدالة على اختصاصها بالعشر الأواخر ومرتبتها في الظهور والاحتمال فإن ضعفت دلالتها فلما قيل وجه.وفي الحديث دليل لمن رجح في ليلة القدر غير ليلة الحادي والعشرين والثالث والعشرين.2- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر».وحديث عائشة يدل على مادل عليه الحديث قبله مع زيادة الاختصاص بالوتر من السبع الأواخر.3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين- وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه- قال: من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر», فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين.وفي الحديث دليل لمن رجح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر ومن ذهب إلى أن ليلة القدر تنتقل في الليالي فله أن يقول: كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين ولا يلزم من ذلك: أن تترجح هذه الليلة مطلقا والقول بتنقلها حسن لأن فيه جمعا من الأحاديث وحثا على إحياء جميع تلك الليالي.وقوله: «يعتكف العشر الأوسط» الأقوى فيه: أن يقال الوسط والوسط بضم السين أو فتحها وأما الأوسط فكأنه تسمية لمجموع تلك الليالي والأيام وإنما رجح الأول: لأن العشر اسم لليالي فيكون وصفها الصحيح جمعا لا ئقا بها وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أن اعتكافه صلى الله عليه وسلم في ذلك العشر كان لطلب ليلة القدر وقبل أن يعلم أنها في العشر الأواخر.وقوله: «فوكف المسجد» أي قطر يقال: وكف البيت يكف وكفا ووكوفا: إذا قطر ووكف الدفع وكيفا ووكفانا: بمعنى قطر.وقد يأخذ من الحديث بعض الناس: أن مباشرة الجبهة بالمصلى في السجود غير واجب وهو من يقول: إنه لو سجد على كور العمامة- كالطاقة والطاقتين- صح ووجه الاستدلال: أنه إذا سجد في الماء والطين ففي السجود الأول: يعلق الطين بالجبهة فإذا سجد السجود الثاني: كان الطين الذي علق بالجبهة في السجود الأول حائلا في السجود الثاني عن مباشرة الجبهة بالأرض وفيه مع ذلك احتمال لأن يكون مسح ما علق بالجبهة أولا قبل السجود الثاني.والذي جاء في الحديث من قوله: «وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها اعتكافه» وقوله في آخر الحديث: «فرأيت أثر الماء والطين على جبهته من صبح إحدى وعشرين» يتعلق بمسألة تكلموا فيها وهي أن ليلة اليوم: هل هي السابقة عليه كما هو المشهور أو الآتية بعده كما نقل عن بعض أهل الحديث الظاهرية؟..باب الاعتكاف: 4- عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده».وفي لفظ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه».
-
الاعتكاف: الاحتباس واللزوم لشيء كيف كان وفي الشرع لزوم المسجد على وجه مخصوص والكلام فيه كالكلام في سائر الأسماء الشرعية.وحديث عائشة فيه استحباب مطلق الاعتكاف واستحبابه في رمضان بخصوصه وفي العشر الأواخر بخصوصها وفيه تأكيد هذا الاستحباب بما أشعر به اللفظ من المداومة وبما صرح به في الرواية الأخرى من قولها: «في كل رمضان» وبما دل عليه من عمل أزواجه من بعده وفيه دليل على استواء الرجل والمرأة في هذا الحكم.وقولها: «فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه» الجمهور على أنه إذا أراد اعتكاف العشر دخل معتكفه قبل غروب الشمس والدخول في أول ليلة منه وهذا الحديث قد يقتضي الدخول في أول النهار وغيره أقوى منه في هذه الدلالة ولكنه أول على أن الاعتكاف كان موجودا وأن دخوله في هذا الوقت لمعتكفه للانفراد عن الناس بعد الاجتماع بهم في الصلاة إلا أنه كان ابتداء دخول المعتكف ويكون المراد بالمعتكف هاهنا الموضع الذي خصه بذلك أو أعده له كما جاء: «أنه اعتكف في قبلة» وكما جاء أن أزوجه ضر بن أخبية ويشعر بذلك م في هذه الرواية: «دخل مكانه الذي اعتكف فيه» بلفظ الماضي.وقد يستدل بهذه الأحاديث على أن المسجد شرط في الاعتكاف من حيث أنه قصد لذلك وفيه مخالفة العادة في الاختلاط بالناس لاسيما النساء فلو جاز الاعتكاف في البيوت لما خالف المقتضي لعدم الاختلاط بالناس في المسجد وتحمل المشقة في الخروج لعوارض الخلقة وإيجاز بعض الفقهاء أن للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو الموضع الذي أعدته للصلاة وهيأته لذلك وقيل: أن بعضهم ألحق بها الرجل في ذلك.2- عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه).وفي رواية: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان».وفي رواية أن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كنت لأدخل البيت لحاجة والمريض فيها فما أسأل عنه إلا وأنا مارة).الترجيل: تسريح الشعر.فيه دليل على طهارة بدن الحائض وفيه دليل على أن خروج رأس المعتكف من المسجد لا يبطل اعتكافه وأخذ منه بعض الفقهاء أن خروج بعض البدن من المكان الذي حلف الإنسان على أن لا يخرج منه لا يوجب حنثه وكذلك دخول بعض بدنه إذا حلف أن لا يدخله من حيث أن امتناع الخروج من المسجد يوازن تعلق الحنث بالخروج لأن الحكم في كل واحد منهما متعلق بعدم الخروج فخروج بعض البدن إن اقتضى مخالفة ما علق عليه الحكم في أحد الموضعين اقتضى مخالفته في الآخر وحيث لم يقتض في أحدهما لم يقتض في الآخر لاتحاد المأخذ فيهما وكذلك تنقل هذه المادة في الدخول أيضا بأن تقول لو كان دخول البعض مقتضيا للحكم المعلق بدخول الكل لكان خروج البعض مقتضيا لحكم المعلق بخروج الجملة لكنه لا يقتضيها ثم فلا يقتضيه هنا وبيان الملازمة أن الحكم في الموضعين معلق بالجملة فإما أن يكون البعض موجبا لترتيب الحكم على الكل أو لا الخ.وقولها: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» كناية عما يضطر إليه من الحدث ولا شك في أن الخروج له غير مبطل للاعتكاف لأن الضرورة داعية إليه والمسجد مانع منه وكل ما ذكره الفقهاء أنه لا يخرج إليه أو اختلفوا في جواز الخروج إليه فهذا الحديث يدل على عدم الخروج إليه لعمومه فإذا ضم إلى ذل قرينة الحاجة إلى الخروج لكثير منه أو قيام الداعي الشرعي في بعضه كعيادة المريض وصلاة الجنازة وشبهه قويت الدلالة على المنع وفي الرواية الأخرى عن عائشة جواز عيادة المريض على وجه المرور من غير تعريج وفي لفظها إشعار بعدم عيادته على غير هذا الوجه.3- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة- وفي رواية- يوما في المسجد الحرام قال: «فأوف بنذرك» ولم يذكر بعض الرواة يوما ولا ليلة.في الحديث فوائد:أحدها: لزوم النذر للقربة وقد يستدل بعمومه من يقول بلزوم الوفاء بكل منذور.وثانيهما: يستدل به من يرى صحة النذر من الكافر وهو قول أو وجه في مذهب الشافعي والأشهر أنه لا يصح لأن النذر قربة والكافر ليس من أهل القرب ومن يقول بهذا يحتاج إلى أن يؤول الحديث بأنه أمر بأن يأتي باعتكاف يوم شبيه بما نذر لئلا يخل بعبادة نوى فعلها فأطلق عليه أنه منذور لشبهه بالمنذور وقيامه مقامه في فعل ما نواه من الطاعة وعلى هذا إما أن يكون قوله: «أوف بنذرك» من مجاز الحدث أو من مجاز التشبيه وظاهر الحديث خلافه فإن دل دليل أقوى من هذا الظاهر على أنه لا يصح التزام الكافر الاعتكاف احتيج إلى هذا التأويل وإلا فلا.وثالثها: استدل به على أن الصوم ليس بشرط لأن الليل ليس محلا للصوم وقد أمر بالوفاء بنذر الاعتكاف فيه وعدم اشتراط الصوم هو مذهب الشافعي واشتراطه مذهب مالك وأبي حنيفة وقد أول من اشترط الصوم قوله ليلة بيوم فإن الليلة تغلب في لسان العرب على اليوم حكي عنهم أنهم قالوا صمنا خمسا والخمس يطلق على الليالي فإنه لو أطلق على الأيام لقيل خمسة وأطلقت الليالي وأريدت الأيام أو يقال: المراد ليلة بيومها ويدل على ذلك أنه ورد بعض الروايات بلفظ: «اليوم».4- عن صفية بن حيي رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما فإنها صفية بنت حيي», فقالا: سبحان الله يا رسول الله, فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا- أو قال- شيئا».وفي رواية: «أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة» ثم ذكره بمعناه.صفية بنت حيي بن أخطب من شعب بني إسرائيل من سبط هارون عليه السلام نضيرية كانت عند سلام بتخفيف اللام ابن مشكم ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق فقيل يوم خيبر وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الهجرة وتوفيت في رمضان في زمن معاوية سنة خمسين من الهجرة.والحديث يدل على جواز زيارة المرأة المعتكف وجواز التحدث معه وفيه تأنيس الزائر بالمشي معه لاسيما إذا دعت الحاجة إلى ذلك كالليل وقد تبين بالرواية الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى معها إلى باب المسجد فقط.وفية دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إلية مما لا ينبغي وقد قال بعض العلماء إنه لو وقع ببالهما شيء لكفرا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تعليم أمته وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدي بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك تسبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم وقد قالوا إنه ينبغي للحاكم أن يبين وجه الحكم للمحكوم عليه.إذا خفي عليه وهو من باب نفي التهمه بالنسبة إلى الجور في الحكم.وفي الحديث دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه لا يؤاخذ به لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ولقوله عليه السلام في الوسوسة التي يتعاظم الإنسان أن يتكلم بها: «ذلك محض الإيمان» وقد فسروه بأن التعاظم لذلك محض الإيمان لا الوسوسة كيفما كانت ففيه دليل على أن تلك الوسوسة لا يؤاخذ بها نعم في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها وبين ما يقع شكا إشكال والله أعلم..كتاب الحج: 1- باب المواقيت:1- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لاهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم. هن لهم ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة».الحج- بفتح الحاء وكسرها القصد في اللغة وفي الشرع قصد مخصوص إلى محل مخصوص على وجه مخصوص.وقوله: «وقت» قيل أن التوقيت في الأصل ذكر الوقت والصواب أن يقال: تعليق الحكم بالوقت ثم استعمل في التحديد للشيء مطلقا لأن التوقيت تحديد بالوقت فيصير التحديد من لوازم التوقيت فيطلق عليه التوقيت.وقوله هاهنا وقت يحتمل أن يراد به التحديد أي حد هذه المواضع للحرام ويحتمل أن يراد بذلك تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بشرط إرادة الحج أو العمرة ومعنى توقيت هذه الأماكن للإحرام أنه لا يجوز مجاوزتها لمريد الحج أو العمرة إلا محرما وإن لم يكن في لفظة وقت من حيث هي هي تصريح بالوجوب فقد ورد في غير هذه الرواية: «يهل أهل المدينة» وهي صيغة خبر يراد به الأمر وورد أيضا في بعض الروايات لفظة الأمر.وفي ذكر هذه المواقيت مسائل:الأولى: إن توقيتها متفق عليه لأرباب هذه الأماكن وإما إيجاب الدم لمجاوزتها عند الجمهور فمن غير هذا الحديث ونقل عن بعضهم أن مجاوزها لا يصح حجه وله إلمام بهذا الحديث من وجه وكأنه يحتاج إلى مقدمة أخرى من حيث آخر أو غيره.الثانية: ذو الحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام أبعد المواقيت من مكة وهي على عشر مراحل أو تسع منها والجحفة بضم الجيم وسكون الحاء قيل: سميت بذلك لأن السيل اجتحفها في بعض الزمان وهي على ثلاث مراحل من مكة ويقال لها مهيعة بفتح الميم وسكون الهاء وقيل بكسر الهاء وقرن المنازل بفتح القاف وسكون الراء وصاحب الصحاح ذكر فتح الراء وغلظ في ذلك كما غلظ في أن أويسا القرني منسوب إليها وإنما هو منسوب إلى قرن بفتح القاف والراء بطن من مراد كما بين في الحديث الذي فيه ذكر طلب عمر له ويلملم بفتح الياء واللام وسكون الميم بعدها ويقال فيه ألمم قيل: هي على مرحلتين من مكة وكذلك قرن على مرحلتين أيضا.الثالثة: الضمير في قوله: «هن» لهذه المواقيت «لهن» أي لهذه الأماكن: المدينة والشام ونجد واليمن وجعلت هذه المواقيت لها والمراد أهلها والأصل أن يقال: هن لهم لأن المراد الأهل وقد ورد ذلك في بعض الروايات على الأصل.الرابعة: قوله: «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» يقتضي أنه إذا مر بهن من ليس بميقاته أحرم منهن ولم يجاوزهن غير محرم ومثل ذلك بأهل الشام يمر أحدهم بذي الحليفة فيلزمه الإحرام منها ولا يتجاوزها إلى الجحفة التي هي ميقاته وهو مذهب الشافعي وذكر بعض المصنفين: أنه لا خلاف فيه وليس كذلك لأن المالكية نصوا على أن له أن يتجاوز إلى الجحفة قالوا: والأفضل إحرامه منها أي من ذي الحليفة ولعله أن يحمل الكلام على أنه لا خلاف فيه في مذهب الشافعي وإن كان قد أطلق الحكم ولم تضفه إلى مذهب أحد وحكى أن لا خلاف وهذا أيضا محل نظر فإن قوله: «ولمن أتى عليهن من غير أهلهن» عام فيمن أتى يدخل تحته من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن ليس ميقاته بين يديها.وقوله ولأهل الشام الجحفة عام بالنسبة إلى من يمر بميقات آخر أولا فإذا قلنا بالعموم الأول دخل تحته الشامي الذي مر بذي الحليفة فيلزم أن يحرم منها وإذا عملنا بالعموم الثاني وهو أن لأهل الشام الجحفة دخل تحته هذا المار أيضا بذي الحليفة فيكون له التجاوز إليها فلكل واحد منها عموم من وجه فكما يحتمل أن يقال ولمن أتى عليهن من غير أهلهن مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه يحتمل أن يقال ولأهل الشام الجحفة مخصوص بمن لم يمر بشيء من هذه المواقيت.الخامسة: قوله: «ممن أراد الحج والعمرة» يقتضي تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما وأن من لم يرد ذلك إذا مر بأحد هذه المواقيت لا يلزمه الإحرام وله تجاوزها غير محرم.السادسة: استدل بقوله: «ممن أراد الحج والعمرة» على أنه لا يلزمه الإحرام بمجرد دخول.مكة وهو أحد قولي الشافعي من حيث أن من لم يرد الحج أو العمرة لا يلزمه الإحرام فيدخل تحته من يريد دخول مكة لغير الحج أو العمرة وهذا أولا يتعلق بأن المفهوم له عموم من حيث إن مفهومه: أن من لا يريد الحج أو العمرة لا يلزمه الإحرام من حيث المواقيت وهو عام يدخل تحته من لا يريد الحج أو العمرة ولا دخول مكة ومن لا يريد الحج والعمرة ويريد دخول مكة وفي عموم المفهوم نظر في الأصول وعلى تقدير أن يكون له عموم فإذا دل دليل على وجوب الإحرام لدخول مكة وكان ظاهر الدلالة لفظا قدم على هذا المفهوم لأن المقصود بالكلام: حكم الإحرام بالنسبة إلى هذه الأماكن ولم يقصد به بيان حكم الداخل إلى مكة والعموم إذا لم يقصد فدلالته ليست بتلك القوية إذا ظهر من السياق المقصود من اللفظ والذي يقتضيه اللفظ على تقدير تسليم العموم وتناوله لمن يريد مكة لغير الحج أو العمرة أنه لا يجب عليه الإحرام من المواقيت ولا يلزم من عدم هذا الوجوب عدم وجوب الإحرام لدخول مكة.السابعة: استدل به على أن الحج ليس على الفور لأن من مر بهذه المواقيت لا يريد الحج والعمرة يدخل تحته من لم يحج فيقتضي اللفظ أنه لا يلزمه الإحرام من حيث المفهوم فلو وجب على الفور للزمه أراد الحج أو لم يرده وفيه من الكلام ما في المسالة قبلها.الثامنة: قوله: «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ» يقتضي أن من منزله دون الميقات إذا أنشأ السفر للحج أو العمرة فميقاته منزله ولا يلزمه المسير إلى الميقات المنصوص عليه من هذه المواقيت.التاسعة: يقتضي أن أهل مكة يحرمون منها وهو مخصوص بالإحرام للحج فإن من أحرم بالعمرة ممن هو في مكة يحرم من أدنى الحل ويقتضي الحديث أن الإحرام من مكة نفسها وبعض الشافعية يرى أن الإحرام من الحرم كله جائز والحديث على خلافه ظاهرا ويدخل في أهل مكة من بمكة ممن ليس من أهلها.3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن» قال: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويهل أهل اليمن من يلملم».وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر «يهل» فيه ما ذكرناه من الدلالة على الأمر بالإهلال خبر يراد به الأمر ولم يذكر ابن عمر سماعه لميقات اليمن من النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ابن عباس فلذلك حسن أن يقدم حديث ابن عباس رضي الله عنهما
-
.باب ما يلبس المحرم من الثياب: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس». وللبخاري: «ولا تتنقب المرأة ولا تلبس القفازين». فيه مسائل: الأولى: أنه وقع السؤال عما يلبس المحرم فأجيب بما لا يلبس لأن ما لا يلبس محصور وما يلبس غير محصور إذ الإباحة هي الأصل وفيه تنبيه على أنه كان ينبغي وضع السؤال عما لا يلبس وفيه دليل على أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان ولو بتغيير أو زيادة ولا تشترط المطابقة. الثانية: اتفقوا على المنع من لبس ما ذكر في الحديث والفقهاء القياسيون عدوه إلى ما رأوه في معناه فالعمائم والبرانس تعدى إلى كل ما يغطى الرأس مخيطا أو غيره ولعل العمائم تنبيه على ما يغطيها من غير المخيط والبرانس تنبيه على ما يغطيها من المخيط فإنه قيل: إنها قلانس طوال كان يلبسها الزهاد في الزمان الأول والتنبيه بالقمص على تحريم المخيط بالبدن وما يساويه من المنسوج والتنبيه بالخفاف والقفازين وهو ما كانت النساء تلبسه في أيديهن وقيل أنه كان يحشى بقطن ويزر بأزرار فنبه بهما على كل ما يحيط بالعضو الخاص إحاطة مثلى في العادة ومنه السراويلات بإحاطتها بالوسط إحاطة المحيط. الثالثة: إذا لم يجد نعلين ليس خفين مقطوعين من أسفل الكعبين وعند الحنبلية لا يقطعهما وهذا الحديث يدل على خلاف ما قالوه فإن الأمر بالقطع هاهنا مع إتلافه المالية يدل على خلاف ما قالوه. الرابعة: اللبس هاهنا عند الفقهاء محمول على اللبس المعتاد في كل شيء مما ذكر فلو ارتدى بالقميص لم يمنع منه لأن اللبس المعتاد في القميص غير الارتداء واختلفوا في القباء إذا لبس من غير إدخال اليدين في الكمين ومن أوجب الفدية جعل ذلك من المعتاد فيه أحيانا واكتفى في التحريم فيه بذلك. الخامسة: لفظ المحرم يتناول من أحرم بالحج والعمرة معا والإحرام الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعمالهما وقد كان شيخنا العلامة أبو محمد بن عبد السلام يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدا ويبحث فيه كثيرا وإذا قيل له إنه النية اعترض عليه بأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه وشرطه الشيء غيره ويعترض على أنه التلبية بأنها ليست بركن والإحرام ركن هذا أو ما قرب منه وكان يحرم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء. السادسة: المنع من الزعفران والورس وهو نبت يكون باليمن يصبغ به دليل على المنع من أنواع الطيب وعداه القائسون إلى ما يساويه في المعنى من المطيبات وما اختلفوا فيه فاختلافهم بناء على أنه من الطيب أم لا؟. السابعة: نهي المرأة عن التنقب والقفازين يدل على أن حكم إحرام المرأة يتعلق بوجهها وكفيها والسر في ذلك وفي تحريم المخيط وغيره مما ذكر- والله أعلم- مخالفة العادة والخروج عن المألوف لإشعار النفس بأمرين. أحدهما: الخروج عن الدنيا والتذكر للبس الأكفان عند نزع المخيط. والثاني: تنبيه النفس على التلبس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها وذلك موجب للإقبال عليها والمحافظة على قوانينها وأركانها وشروطها وآدابها والله أعلم. 2- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخطب بعرفات «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل» يعني للمحرم. فيه مسألتان: إحداهما: قد يستدل به من لا يشترط القطع في الخفين عند عدم النعلين فإنه مطلق بالنسبة إلى القطع وعدمه وحمل المطلق هاهنا على المقيد جيد لأن الحديث الذي قيد فيه القطع قد وردت فيه صيغة الأمر وذلك زائد على الصيغة المطلقة فإن لم نعمل بها وأجزنا مطلق الخفين تركنا ما دل عليه الأمر بالقطع وذلك غير سائغ وهذا بخلاف ما لو كان المطلق والمقيد في جانب الإباحة فإن إباحة المطلق حينئذ تقتضي زيادة على ما دل عليه إباحة المقيد فإن أخذ بالزائد كان أولى إذ لا معارضة بين إباحة المقيد وإباحة ما زاد عليه وكذلك نقول في جانب النهي: لا يحمل المطلق فيه على المقيد لما ذكرنا من أن المطلق دال على النهي فيما زاد على صورة المقيد من غير معارض فيه وهذا يتوجه إذا كان الحديثان- مثلا- مختلفين باختلاف مخرجهما أما إذا كان المخرج للحديث. واحدا ووقع اختلاف على ما انتهت إليه الروايات فههنا نقول: إن الآتي بالقيد حفظ ما لم يحفظه المطلق من ذلك الشيخ فكأن الشيخ لم ينطق به إلا مقيدا فيتقيد من هذا الوجه وهذا الذي ذكرناه في الإطلاق والتقييد: مبنى على ما يقوله بعض المتأخرين من أن العام في الذوات مطلق في الأحوال لا يقتضي العموم وأما على مثل ما نختاره في مثل هذا العموم في الأحوال تبعا للعموم في الذوات: فهو من باب العام والخاص. الثانية: لبس السراويل إذا لم يجد إزارا يدل الحديث على جوازه من غير قطع وهو مذهب أحمد وهو قوي هاهنا إذ لم يرد بقطعه ما ورد في الخفين وغيره من الفقهاء لا يبيح السراويل على هيئته إذا لم يجد الإزار. 3- عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك». قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيهما: (لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل). التلبية: الإجابة وقيل في معنى لبيك إجابة بعد إجابة ولزوما لطاعتك فثنى للتوكيد واختلف أهل اللغة في أنه تثنية أم لا فمنهم من قال: إنه اسم مفرد لا مثنى ومنهم من قال: إنه مثنى وقيل: إن لبيك مأخوذ من ألب بالمكان ولب: إذا قام به أي أنا مقيم على طاعتك وقيل: إنه مأخوذ من الباب الشيء وهو خالصه أي إخلاصي لك. وقوله: «إن الحمد والنعمة لك» يروي فيه فتح الهمزة وكسرها والكسر أجود لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة فإن الحمد والنعمة لله على كل حال والفتح يدل على التعليل كأنه يقول: أجيب لهذا السبب والأول أعم. وقوله: «والنعمة لك» الأشهر فيه: الفتح ويجوز الرفع على الابتداء وخبر إن محذوف وسعديك كلبيك قيل: معناه مساعدة لطاعتك بعد مساعدة والرغباء إليك بسكون الغين فيه وجهان: أحدهما: ضم الراء. والثاني: فتحها فإن ضممت قصرت وإن فتحت مددت وهذا كالنعماء والنعمى. وقوله والعمل فيه حذف ويحتمل أن نقدره كالأول أي والعمل إليك أي إليك القصد به والانتهاء به إليك لتجازي عليه ويحتمل أن يقدر والعمل لك. وقوله والخير بيديك من باب إصلاح المخاطبة كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]. 4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم». وفي لفظ البخاري: «لا تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم». فيه مسائل: الأولى: اختلف الفقهاء في أن المحرم للمرأة من الاستطاعة أم لا؟ حتى لا يجب عليها الحج إلا بوجود المحرم والذين ذهبوا إلى ذلك: استدلوا بهذا الحديث فإن سفرها للحج من جملة الأسفار الداخلة تحت الحديث فيمتنع إلا مع المحرم والذين لم يشترطوا ذلك قالوا: يجوز أن تسافر مع رفقة مأمونين إلى الحج رجالا ونساء وفي سفرها مع امرأة واحدة: خلاف في مذهب الشافعي وهذه المسألة تتعلق بالنصين إذا تعارضا وكان كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه بيانه: أن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] يدخل تحته الرجال والنساء فيقتضي ذلك: أنه إذا وجدت الاستطاعة المتفق عليها: أن يجب عليها الحج وقوله عليه السالم: «لا يحل لامرأة»- الحديث خاص بالنساء عام في الأسفار فإذا قيل به وأخرج عنه سفر الحج لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال المخالف: نعمل بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فتدخل المرأة فيه ويخرج سفر الحج عن النهي فيقوم في كل واحد من النصين عموم وخصوص ويحتاج إلى الترجيح من خارج وذكر بعض الظاهرية أنه يذهب إلى دليل من خارج وهو قوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ولا يتجه ذلك فإنه عام في المساجد فيمكن أن يخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر في الخروج إليه بحديث النهي. الثانية: لفظ المرأة عام بالنسبة إلى سائر النساء وقال بعض المالكية: هذا عندي في الشابة وأما الكبيرة غير المشتهاة: فتسافر حيث شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم وخالفه بعض المتأخرين من الشافعية من حيث إن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة وقد قالوا: لكل ساقطة لاقطة والذي قاله المالكي: تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى وقد اختار هذا الشافعي: أن المرأة تسافر في الأمن ولا تحتاج إلى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة فتكون آمنة وهذا مخالف لظاهر الحديث. الثالثة: قوله: «مسيرة يوم وليلة» اختلف في هذا العدد في الأحاديث فروى: «فوق ثلاث» وروي: «مسيرة ثلاث ليال» وروي: «لا تسافر امرأة يومين» وروي: «مسيرة ليلة» وروي: «مسيرة يوم» وروي: «يوما وليلة» وروي: «بريدا» وهو أربع فراسخ وقد حملوا هذا الاختلاف على حسب اختلاف السائلين واختلاف المواطن وأن ذلك متعلق بأقل ما يقع عليه اسم السفر. الرابعة: (ذو المحرم) عام في محرم النسب كأبيها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها ومحرم الرضاع ومحرم المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها واستثنى بعضهم ابن زوجها فقال: يكره سفرها معه لغلبة الفساد في الناس بعد العصر الأول لأن كثيرا من الناس لا ينزل زوجة الأب في النفرة عنها منزلة محارم النسب والمرأة فتنة إلا فيما جبل الله عز وجل النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب والحديث عام فإن كانت هذه الكراهة للتحريم- مع محرمية ابن الزوج- فهو مخالف لظاهر الحديث بعيد وإن كانت كراهة تنزيه للمعنى المذكور فهو أقرب تشوفا إلى المعنى وقد فعلوا مثل ذلك في غير هذا الموضع وما يقويه ههنا: أن قوله: «لا يحل» استثنى منه السفر مع المحرم فيصير التقدير: إلا مع ذي محرم فيحل. ويبقى النظر في قولنا: «يحل» هل يتناول المكروه أم لا يتناوله؟ بناء على أن لفظة يحل تقتضي الإباحة المتساوية للطرفين فإن قلنا: لا يتناول المكروه فالأمر قريب مما قاله إلا أنه تخصيص يحتاج إلى دليل شرعي عليه وإن قلنا: يتناول فهو أقرب لأن ما قاله لا يكون حينئذ منافيا لما دل عليه اللفظ. والمحرم الذي يجوز معه السفر والخلوة: كل من حرم نكاح المرأة عليه لحرمتها على التأبيد بسبب مباح فقولنا على التأبيد احترازا من أخت الزوجة وعمتها وخالتها وقولها بسبب مباح احترازا من أم الموطوءة بشبهة فإنها ليست محرما بهذا التفسير فإن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة وقولنا لحرمتها احترازا من الملاعنة فإن تحريمها ليس لحرمتها بل تغليظا هذا ضابط مذهب الشافعية. الخامسة: لم يتعرض في هاتين الروايتين للزوج وهو موجود في رواية أخرى ولابد من إلحاقه بالحكم بالمحرم في جواز السفر معه اللهم إلا أن يستعملوا لفظة الحرمة في إحدى الروايتين في غير معنى المحرمية استعمالا لغويا فيما يقتضي الاحترام فيدخل فيه الزواج لفظا والله أعلم.
-
.باب الفدية: عن عبد الله بن معقل قال: جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت في خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: «ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى»- أو «ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى- أتجد شاة؟» فقلت: لا, قال: «فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع».وفي رواية: «فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام».الكلام عليه من وجوه:أحدها: معقل والد عبد الله- هذا- بفتح الميم وإسكان العين المهملة وكسر القاف وعبد الله- هذا- هو ابن معقل بن مقرن- بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة المهملة- مزني كوفي يكنى أبا الوليد متفق عليه وقال أحمد بن عبد الله فيه: كوفي تابعي ثقة من خيار التابعين.وعجرة بضم العين المهملة وسكون الجيم وفتح الراء المهملة وكعب ولده من بني سالم بن عوف وقيل من بلي وقيل: هو كعب بن عجرة بن أمية بن عدي مات سنة اثنتين وخمسين بالمدينة وله خمس وسبعون سنة متفق عليه.الثاني: في الحديث دليل على جواز حلق الرأس لأذى القمل وقاسوا عليه ما في معناه من الضرر والمرض.الثالث: قوله نزلت في يعنى آية الفدية وقوله خاصة يريد اختصاص سبب النزول به فإن اللفظ عام في الآية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة: 196] وهذه صيغة عموم.الرابع: قوله عليه السلام: «ما كنت أرى» بضم الهمزة أي أظن وقوله عليه السلام: «بلغ بك ما أرى» بفتح الهمزة يعني أشاهد وهو من رؤية العين والجهد بفتح الجيم: هو المشقة وأما الجهد- بضم الجيم- فهو الطاقة ولا معنى لها هاهنا إلا أن تكون الصيغتان بمعنى واحد.الخامس: قوله: «أو أطعم ستة مساكين» تبيين لعدد المساكين الذين تصرف إليهم الصدقة المذكورة في الآية وليس في الآية ذكر عددهم وأبعد من قال من المتقدمين: إنه يطعم عشرة مساكين لمخالفة الحديث وكأنه قاسه علىكفارة اليمين.السادس: قوله: «لكل مسكين نصف صاع» بيان لمقدار الإطعام ونقل عن بعضهم: أن نصف الصاع لكل مسكين: إنما هو في الحنطة فأما التمر والشعير وغيرهما: فيجب لك مسكين صاع وعن أحمد رواية: أن لكل مسكين مد حنطة أو نصف صاع من غيرها وقد ورد في بعض الروايات تعيين نصف الصاع من تمر لكل مسكين.السابع: الفرق بفتح الراء وقد تسكن وهو ثلاثة آصع مفسر من الروايتين أعني هذه الرواية وهي تقسيم الفرق على ثلاثة آصع والرواية الأخرى: هو تعيين نصف الصاع من تمر لكل مسكين.الثامن: قوله: «أو تهدي شاة» هو النسك المجمل في الآية قال أصحاب الشافعي: هي الشاة التي تجزي في الأضحية.وقوله: «أو صم ثلاثة أيام» تعيين الصوم المجمل في الآية وأبعد من قال من المتقدمين: إن الصوم عشرة أيام لمخالفة هذا الحديث ولفظ الآية والحديث معا يقتضي التخيير بين هذه الخصال الثلاث- أعني الصيام والصدقة والنسك- لأن كلمة أو تقتضي التخيير.وقوله: في الرواية: «أتجد شاة؟» فقلت: لا, فأمره أن يصوم ثلاثة أيام ليس المراد به: أن الصوم لا يجزي إلا عند عدم الهي قيل: بل هو محمول على أنه سأل عن النسك؟ فإن وجده أخبره بأنه يخيره بينه وبين الصيام والإطعام وإن عدمه فهو مخير بين الصيام والإطعام..باب حرمة مكة: 1- عن أبي شريح- خويلد بن عمرو- الخزاعي العدوي رضي الله عنه: أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص- وهو يبعث البعوث إلى مكة-: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به, أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر: أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب» فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة.الخربة: بالخاء المعجمة والراء المهملة: هي الخيانة وقيل: البلية وقيل: التهمة وأصلها في سرقة الإبل قال الشاعر:وتلك قربى مثل أن تناسبا ** أن تشبه الضرائب الضرائبا والخارب اللص يحب الخاربا الكلام عليه من وجوه:الأول: أبو شريح الخزاعي ويقال فيه: العدوي ويقال: الكعبي اسمه خويلد بن عمرو وقيل: هانئ بن عمرو أسلم قبل فتح مكة وتوفي بالمدينة سنة ثمان وستين.الثاني: قوله: (ائذن لي أيها الأمير في أن أحدثك) فيه حسن الأدب في المخاطبة للأكابر- لاسيما الملوك- لاسيما فيما يخالف مقصودهم لأن ذلك يكون أدعى للقبول لاسيما في حق من يعرف منه ارتكاب غرضه فإن الغلطة عليه قد تكون سببا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه.وقوله: (أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته أذناي ووعاه قلبي) تحقيق لما يريد أن يخبر به وقوله: (سمعته أذناي) نفي لوهم أن يكون رواه عن غيره وقوله: (ووعاه قلبي) تحقيق لفهمه والتثبت في تعقل معناه.الثالث: قوله: «فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما» يؤخذ منه أمران:أحدهما: تحريم القتال بمكة لأهل مكة وهو الذي يدل عليه سياق الحديث ولفظه وقد قال بذلك بعض الفقهاء قال القفال في شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص لا يجوز القتال بمكة قال: حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها وحكى الماوردي أيضا أن من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله إذا بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل قال وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على البغي إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها وقيل إن هذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الأم ونص عليه أيضا في آخر كتابه المسمى ب سير الواقدي وقيل إن الشافعي أجاب عن الأحاديث بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا لم يمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما إذا انحصر الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء والله أعلم.وأقول: هذا التأويل على خلاف الظاهر القوي الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي في قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك دما» وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين خصوصياته لإحلالها له ساعة من نهار وقال: (فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم) فأبان بهذا اللفظ أن المأذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن فيه لغيره والذي أذن للرسول فيه إنما هو مطلق القتال ولم يكن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم كما حمل عليه الحديث في هذا التأويل وأيضا فالحديث وسياقه يدل على أن هذا التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها وسفك الدم وذلك لا يختص بما يستأصل وأيضا فتخصيص الحديث بما يستأصل ليس لنا دليل على تعيين هذا الوجه بعينه لأن يحمل عليه الحديث فلو أن قاتلا أبدى معنى آخر وخص به الحديث لم يكن بأولى من هذا.والأمر الثاني: يستدل به أبو حنيفة في أن الملتجئ إلى الحرم لا يقتل به لقوله عليه السلام: «لا يحل لامرئ أن يسفك بها دما» وهذا عام تدخل فيه صورة النزاع قال: بل يلجأ إلى أن يخرج من الحرم فيقتل خارجه وذلك بالتضييق عليه.الرابع: العضد القطع عض: بفتح الضاد في الماضي يعض بكسر الضاد: يدل على تحريم قطع أشجار الحرم واتفقوا عليه فيما لا يستنبته الآدميون في العادة واختلف الفقهاء فيما يستنبته الآدميون والحديث عام في عض ما يسمى شجرا.الخامس: قد يتوهم أن قوله عليه السلام: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر» أنه يدل على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة والصحيح عند أكثر الأصوليين أنهم مخاطبون وقال بعضهم في الجواب عن هذا التوهم: لأن المؤمن هو الذي ينقاد لأحكامنا وينزجر عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه فجعل الكلام فيه وليس فيه أن غير المؤمن لا يكون مخاطبا بالفروع.وأقول: الذي أراه أن هذا الكلام من باب خطاب التهييج فإن مقتضاه أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه هذا هو المقتضى لذكر هذا الوصف ولو قيل: لا يحل لأحد مطلقا لم يحصل به الغرض وخطاب التهييج معلوم عند علماء البيان ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] إلى غير ذلك.السادس: في دليل على أن مكة فتحت عنوة وهو مذهب الأكثرين وقال الشافعي وغيره فتحت صلحا وقيل في تأويل الحديث أن القتال كان جائزا له صلى الله عليه وسلم في مكة فلو احتاج إليه لفعله ولكن ما احتاج إليه.وهذا التأويل يضعفه قوله عليه السلام: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم» فإنه يقتضي وجود قتال منه صلى الله عليه وسلم ظاهرا وأيضا السير التي دلت على وقوع القتال وقوله عليه السلام: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» إلى غيره من الأمان المعلق على أشياء مخصوصة تبعد هذا التأويل أيضا.السابع: قوله: «فليبلغ الشاهد الغائب» فيه تصريح بنقل العلم وإشاعة السنن والأحكام.وقول عمرو: «أنا أعلم منك بذلك يا أبا شريح» الخ هو كلامه ولم يسنده إلى رواية وقوله: «لا يعيذ عاصيا» أي لا يعصمه وقوله: «ولا فارا بخربة» قد فسرها المصنف ويقال فيها بضم الخاء وأصلها سرقة الإبل كما قال وتطلق على كل خيانة وفي صحيح البخاري أنها البالية وعن الخليل أنه قال: هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض وقيل هي العيب.2- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا», وقال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السماوات والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من النهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكة ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه», فقال العباس: يا رسول الله ألا الأذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال: «إلا الأذخر».القين: الحداد.قوله عليه السلام: «لا هجرة» نفي لوجوب الهجرة من مكة إلى المدينة فإن الهجرة تجب من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وقد صارت مكة دار إسلام بالفتح وإن لم يكن من هذه الجهة فيكون حكما ورد لرفع وجوب هجرة أخرى بغير هذا السبب ولا شك أنه تجب الهجرة اليوم من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لمن قدر على ذلك.وفي ضمن الحديث: الإخبار بأن مكة تصير دار إسلام أبدا.وقوله عليه السلام: «وإذا استنفرتم فانفروا» أي إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ولا شك أنه تتعين الإجابة والمبادرة إلى الجهاد في بعض الصور فأما إذا عين الإمام بعض الناس لفرض الكفاية فهل يتعين عليه؟ اختلفوا فيه ولعله يؤخذ من لفظ الحديث الوجوب في حق من عين للجهاد ويأخذ غيره بالقياس.وقوله عليه السلام: «ولكل جهاد ونية» يحتمل أن يريد به جهادا مع نية خالصة إذ غير الخالصة غير معتبرة فهي كالعدم في الاعتداد بها في صحة الأعمال ويحتمل أن يراد ولكن جهاد بالفعل أو نية الجهاد لمن يفعل كما قال عليه السلام: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق».وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض» تكلموا فيه مع قوله عليه السلام: «إن إبراهيم حرم مكة» فقيل بظاهر هذا وأن إبراهيم أظهر حرمتها بعدما نسيت والحرمة ثابتة من يوم خلق الله السماوات والأرض وقيل إن التحريم في زمن إبراهيم وحرمتها يوم خلق الله السماوات والأرض كتابتها في اللوح المحفوظ حراما وأما الظهور للناس ففي زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.وقوله: «فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال» يدل على أمرين:أحدهما: أن هذا التحريم يتناول القتال.والثاني: أن هذا الحكم ثابت لا ينسخ وقد تقدم ما في تحريم القتال أو إباحته.وقوله: «لا يعضد شوكته» دليل على أن قطع الشوك ممتنع كغيره وذهب إليه بعض مصنفي الشافعية والحديث معه وأباحه غيره من حيث إن الشوك مؤذ.وقوله: «ولا ينفر صيده» أي يزعج من مكانه وفيه دليل على طريق فحوى الخطاب أن قتله محرم فإنه إذا حرم تنفيره بأن يزعج من مكانه فقتله أولى.وقوله: «ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها» اللقطة بإسكان القاف وقد يقال بفتحها الشيء الملتقط وذهب الشافعي إلى أن لقطة الحرم لا تؤخذ للتملك وإنما تؤخذ لتعرف لا غير وذهب مالك إلى أنها كغيرها في التعريف والتملك ويستدل للشافعي بهذا الحديث.والخلى بفتح الخاء والقصر: الحشيش إذا كان رطبا واختلاؤه قطعه وقد تقدم والإذخر نبت معروف طيب الرائحة وقوله: «فإنه لقينهم» القين: الحداد لأنه يحتاج إليه في عمل النار وبيوتهم تحتاج إليه في التسقيف.وقوله عليه السلام: «إلا الإذخر» على الفور تتعلق به من يروي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم أو تفويض الحكم إليه من أهل الأصول وقيل: يجوز أن يكون يوحى إليه في زمن يسير فإن الوحي إلقاء في خفية وقد تظهر أماراته وقد لا تظهر.
-
.باب الفدية: عن عبد الله بن معقل قال: جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية؟ فقال: نزلت في خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: «ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى»- أو «ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى- أتجد شاة؟» فقلت: لا, قال: «فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع».وفي رواية: «فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام».الكلام عليه من وجوه:أحدها: معقل والد عبد الله- هذا- بفتح الميم وإسكان العين المهملة وكسر القاف وعبد الله- هذا- هو ابن معقل بن مقرن- بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة المهملة- مزني كوفي يكنى أبا الوليد متفق عليه وقال أحمد بن عبد الله فيه: كوفي تابعي ثقة من خيار التابعين.وعجرة بضم العين المهملة وسكون الجيم وفتح الراء المهملة وكعب ولده من بني سالم بن عوف وقيل من بلي وقيل: هو كعب بن عجرة بن أمية بن عدي مات سنة اثنتين وخمسين بالمدينة وله خمس وسبعون سنة متفق عليه.الثاني: في الحديث دليل على جواز حلق الرأس لأذى القمل وقاسوا عليه ما في معناه من الضرر والمرض.الثالث: قوله نزلت في يعنى آية الفدية وقوله خاصة يريد اختصاص سبب النزول به فإن اللفظ عام في الآية لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة: 196] وهذه صيغة عموم.الرابع: قوله عليه السلام: «ما كنت أرى» بضم الهمزة أي أظن وقوله عليه السلام: «بلغ بك ما أرى» بفتح الهمزة يعني أشاهد وهو من رؤية العين والجهد بفتح الجيم: هو المشقة وأما الجهد- بضم الجيم- فهو الطاقة ولا معنى لها هاهنا إلا أن تكون الصيغتان بمعنى واحد.الخامس: قوله: «أو أطعم ستة مساكين» تبيين لعدد المساكين الذين تصرف إليهم الصدقة المذكورة في الآية وليس في الآية ذكر عددهم وأبعد من قال من المتقدمين: إنه يطعم عشرة مساكين لمخالفة الحديث وكأنه قاسه علىكفارة اليمين.السادس: قوله: «لكل مسكين نصف صاع» بيان لمقدار الإطعام ونقل عن بعضهم: أن نصف الصاع لكل مسكين: إنما هو في الحنطة فأما التمر والشعير وغيرهما: فيجب لك مسكين صاع وعن أحمد رواية: أن لكل مسكين مد حنطة أو نصف صاع من غيرها وقد ورد في بعض الروايات تعيين نصف الصاع من تمر لكل مسكين.السابع: الفرق بفتح الراء وقد تسكن وهو ثلاثة آصع مفسر من الروايتين أعني هذه الرواية وهي تقسيم الفرق على ثلاثة آصع والرواية الأخرى: هو تعيين نصف الصاع من تمر لكل مسكين.الثامن: قوله: «أو تهدي شاة» هو النسك المجمل في الآية قال أصحاب الشافعي: هي الشاة التي تجزي في الأضحية.وقوله: «أو صم ثلاثة أيام» تعيين الصوم المجمل في الآية وأبعد من قال من المتقدمين: إن الصوم عشرة أيام لمخالفة هذا الحديث ولفظ الآية والحديث معا يقتضي التخيير بين هذه الخصال الثلاث- أعني الصيام والصدقة والنسك- لأن كلمة أو تقتضي التخيير.وقوله: في الرواية: «أتجد شاة؟» فقلت: لا, فأمره أن يصوم ثلاثة أيام ليس المراد به: أن الصوم لا يجزي إلا عند عدم الهي قيل: بل هو محمول على أنه سأل عن النسك؟ فإن وجده أخبره بأنه يخيره بينه وبين الصيام والإطعام وإن عدمه فهو مخير بين الصيام والإطعام..باب حرمة مكة: 1- عن أبي شريح- خويلد بن عمرو- الخزاعي العدوي رضي الله عنه: أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص- وهو يبعث البعوث إلى مكة-: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به, أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر: أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب» فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة.الخربة: بالخاء المعجمة والراء المهملة: هي الخيانة وقيل: البلية وقيل: التهمة وأصلها في سرقة الإبل قال الشاعر:وتلك قربى مثل أن تناسبا ** أن تشبه الضرائب الضرائبا والخارب اللص يحب الخاربا الكلام عليه من وجوه:الأول: أبو شريح الخزاعي ويقال فيه: العدوي ويقال: الكعبي اسمه خويلد بن عمرو وقيل: هانئ بن عمرو أسلم قبل فتح مكة وتوفي بالمدينة سنة ثمان وستين.الثاني: قوله: (ائذن لي أيها الأمير في أن أحدثك) فيه حسن الأدب في المخاطبة للأكابر- لاسيما الملوك- لاسيما فيما يخالف مقصودهم لأن ذلك يكون أدعى للقبول لاسيما في حق من يعرف منه ارتكاب غرضه فإن الغلطة عليه قد تكون سببا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه.وقوله: (أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته أذناي ووعاه قلبي) تحقيق لما يريد أن يخبر به وقوله: (سمعته أذناي) نفي لوهم أن يكون رواه عن غيره وقوله: (ووعاه قلبي) تحقيق لفهمه والتثبت في تعقل معناه.الثالث: قوله: «فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما» يؤخذ منه أمران:أحدهما: تحريم القتال بمكة لأهل مكة وهو الذي يدل عليه سياق الحديث ولفظه وقد قال بذلك بعض الفقهاء قال القفال في شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص لا يجوز القتال بمكة قال: حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها وحكى الماوردي أيضا أن من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله إذا بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل قال وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على البغي إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها وقيل إن هذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الأم ونص عليه أيضا في آخر كتابه المسمى ب سير الواقدي وقيل إن الشافعي أجاب عن الأحاديث بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا لم يمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما إذا انحصر الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شيء والله أعلم.وأقول: هذا التأويل على خلاف الظاهر القوي الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي في قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك دما» وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين خصوصياته لإحلالها له ساعة من نهار وقال: (فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم) فأبان بهذا اللفظ أن المأذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن فيه لغيره والذي أذن للرسول فيه إنما هو مطلق القتال ولم يكن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم كما حمل عليه الحديث في هذا التأويل وأيضا فالحديث وسياقه يدل على أن هذا التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها وسفك الدم وذلك لا يختص بما يستأصل وأيضا فتخصيص الحديث بما يستأصل ليس لنا دليل على تعيين هذا الوجه بعينه لأن يحمل عليه الحديث فلو أن قاتلا أبدى معنى آخر وخص به الحديث لم يكن بأولى من هذا.والأمر الثاني: يستدل به أبو حنيفة في أن الملتجئ إلى الحرم لا يقتل به لقوله عليه السلام: «لا يحل لامرئ أن يسفك بها دما» وهذا عام تدخل فيه صورة النزاع قال: بل يلجأ إلى أن يخرج من الحرم فيقتل خارجه وذلك بالتضييق عليه.الرابع: العضد القطع عض: بفتح الضاد في الماضي يعض بكسر الضاد: يدل على تحريم قطع أشجار الحرم واتفقوا عليه فيما لا يستنبته الآدميون في العادة واختلف الفقهاء فيما يستنبته الآدميون والحديث عام في عض ما يسمى شجرا.الخامس: قد يتوهم أن قوله عليه السلام: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر» أنه يدل على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة والصحيح عند أكثر الأصوليين أنهم مخاطبون وقال بعضهم في الجواب عن هذا التوهم: لأن المؤمن هو الذي ينقاد لأحكامنا وينزجر عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه فجعل الكلام فيه وليس فيه أن غير المؤمن لا يكون مخاطبا بالفروع.وأقول: الذي أراه أن هذا الكلام من باب خطاب التهييج فإن مقتضاه أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه هذا هو المقتضى لذكر هذا الوصف ولو قيل: لا يحل لأحد مطلقا لم يحصل به الغرض وخطاب التهييج معلوم عند علماء البيان ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] إلى غير ذلك.السادس: في دليل على أن مكة فتحت عنوة وهو مذهب الأكثرين وقال الشافعي وغيره فتحت صلحا وقيل في تأويل الحديث أن القتال كان جائزا له صلى الله عليه وسلم في مكة فلو احتاج إليه لفعله ولكن ما احتاج إليه.وهذا التأويل يضعفه قوله عليه السلام: «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم» فإنه يقتضي وجود قتال منه صلى الله عليه وسلم ظاهرا وأيضا السير التي دلت على وقوع القتال وقوله عليه السلام: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» إلى غيره من الأمان المعلق على أشياء مخصوصة تبعد هذا التأويل أيضا.السابع: قوله: «فليبلغ الشاهد الغائب» فيه تصريح بنقل العلم وإشاعة السنن والأحكام.وقول عمرو: «أنا أعلم منك بذلك يا أبا شريح» الخ هو كلامه ولم يسنده إلى رواية وقوله: «لا يعيذ عاصيا» أي لا يعصمه وقوله: «ولا فارا بخربة» قد فسرها المصنف ويقال فيها بضم الخاء وأصلها سرقة الإبل كما قال وتطلق على كل خيانة وفي صحيح البخاري أنها البالية وعن الخليل أنه قال: هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض وقيل هي العيب.2- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا», وقال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السماوات والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من النهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكة ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاه», فقال العباس: يا رسول الله ألا الأذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال: «إلا الأذخر».القين: الحداد.قوله عليه السلام: «لا هجرة» نفي لوجوب الهجرة من مكة إلى المدينة فإن الهجرة تجب من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وقد صارت مكة دار إسلام بالفتح وإن لم يكن من هذه الجهة فيكون حكما ورد لرفع وجوب هجرة أخرى بغير هذا السبب ولا شك أنه تجب الهجرة اليوم من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لمن قدر على ذلك.وفي ضمن الحديث: الإخبار بأن مكة تصير دار إسلام أبدا.وقوله عليه السلام: «وإذا استنفرتم فانفروا» أي إذا طلبتم للجهاد فأجيبوا ولا شك أنه تتعين الإجابة والمبادرة إلى الجهاد في بعض الصور فأما إذا عين الإمام بعض الناس لفرض الكفاية فهل يتعين عليه؟ اختلفوا فيه ولعله يؤخذ من لفظ الحديث الوجوب في حق من عين للجهاد ويأخذ غيره بالقياس.وقوله عليه السلام: «ولكل جهاد ونية» يحتمل أن يريد به جهادا مع نية خالصة إذ غير الخالصة غير معتبرة فهي كالعدم في الاعتداد بها في صحة الأعمال ويحتمل أن يراد ولكن جهاد بالفعل أو نية الجهاد لمن يفعل كما قال عليه السلام: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق».وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض» تكلموا فيه مع قوله عليه السلام: «إن إبراهيم حرم مكة» فقيل بظاهر هذا وأن إبراهيم أظهر حرمتها بعدما نسيت والحرمة ثابتة من يوم خلق الله السماوات والأرض وقيل إن التحريم في زمن إبراهيم وحرمتها يوم خلق الله السماوات والأرض كتابتها في اللوح المحفوظ حراما وأما الظهور للناس ففي زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام.وقوله: «فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال» يدل على أمرين:أحدهما: أن هذا التحريم يتناول القتال.والثاني: أن هذا الحكم ثابت لا ينسخ وقد تقدم ما في تحريم القتال أو إباحته.وقوله: «لا يعضد شوكته» دليل على أن قطع الشوك ممتنع كغيره وذهب إليه بعض مصنفي الشافعية والحديث معه وأباحه غيره من حيث إن الشوك مؤذ.وقوله: «ولا ينفر صيده» أي يزعج من مكانه وفيه دليل على طريق فحوى الخطاب أن قتله محرم فإنه إذا حرم تنفيره بأن يزعج من مكانه فقتله أولى.وقوله: «ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها» اللقطة بإسكان القاف وقد يقال بفتحها الشيء الملتقط وذهب الشافعي إلى أن لقطة الحرم لا تؤخذ للتملك وإنما تؤخذ لتعرف لا غير وذهب مالك إلى أنها كغيرها في التعريف والتملك ويستدل للشافعي بهذا الحديث.والخلى بفتح الخاء والقصر: الحشيش إذا كان رطبا واختلاؤه قطعه وقد تقدم والإذخر نبت معروف طيب الرائحة وقوله: «فإنه لقينهم» القين: الحداد لأنه يحتاج إليه في عمل النار وبيوتهم تحتاج إليه في التسقيف.وقوله عليه السلام: «إلا الإذخر» على الفور تتعلق به من يروي اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم أو تفويض الحكم إليه من أهل الأصول وقيل: يجوز أن يكون يوحى إليه في زمن يسير فإن الوحي إلقاء في خفية وقد تظهر أماراته وقد لا تظهر.
-
.باب ما يجوز قتله: 1- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور».ولمسلم: «يقتل خمس فواسق في الحل والحرم».فيه مباحث:الأول: المشهور في الرواية: «خمس» بالتنوين «فواسق» ويجوز «خمس فواسق» بالإضافة من غير تنوين وهذه الرواية التي ذكرها المصنف تدل على صحة المشهور فإنه أخبر عن خمس بقوله: «كلهن فواسق» وذلك يقتضي أن ينون: «خمس» فيكون فواسق خبرا وبين التنوين والإضافة في هذا فرق دقيق في المعنى وذلك أن الإضافة تقتضي الحكم على خمس من الفواسق بالقتل وربما أشعر التخصيص بخلاف الحكم في غيرها وبطريق المفهوم وأما مع التنوين فإنه يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى وقد يشعر بأن الحكم المرتب على ذلك- وهو القتل- معلل بما جعل وصفا وهو الفسق فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم وهو التخصيص.الثاني: الجمهور على جواز قتل هذه المذكورة في الحديث والحديث دليل على ذلك وعن بعض المتقدمين أن الغراب يرمى ولا يقتل.الثالث: اختلفوا في الاقتصار على هذه الخمسة أو التعدية لما هو أكثر منها بالمعنى فقيل: بالاقتصار عليها وهو المذكور في كتب الحنفية ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين لأبي حنيفة: أنا أبا حنيفة ألحق الذئب بها وعدوا ذلك من مناقضاته والذين قالوا بالتعدية اختلفوا في المعنى الذي به التعدية فنقل عن بعض الشارحين: أن الشافعي قال: المعنى في جواز قتلهن: كونهن مما لا يؤكل فكل ما لا يؤكل قتله جائز للمحرم ولا فدية عليه وقال مالك المعنى فيه كونهن مؤذيات فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله وما لا فلا.وهذا عندي فيه نظر فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد وإنما يرى الشافعي جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير المأكول وأما جواز الإقدام على قتل ما لا يؤكل مما ليس فيه ضرر: فغير هذا ومقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه: أنه لا يجوز اصطياد الأسد والنمر ومنا في معناهما من بقية السباع العادية والشافعية يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس وهو الذي الأذى الطبيعي والعدوان المركب في هذه الحيوانات والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عدى القائسون إلى كل ما وجد فيه المعنى ذلك الحكم كما في الأشياء الستة التي في الربا وقد وافقه أبو حنيفة على التعدية فيها وإن اختلف هو والشافعي في المعنى الذي يعدى به.وأقول: المذكور ثم: هو تعليق الحكم بالألقاب وهو لا يقتضي مفهوما عند الجمهور فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ والمذكور هاهنا مفهوم عدد وقد قال به جماعة فيكون اللفظ مقتضيا للتخصيص وإلا بطلت فائدة التخصيص بالعدد وعلى هذا المعنى عول بعض مصنفي الحنفية في التخصيص بالخمس المذكورات- أعني مفهوم العدد- وذكر غير ذلك مع هذا أيضا.واعلم أن التعدية بمعنى الأذى إلى كل إلى كل مؤذ: قوي بالإضافة إلى تصرف القائسين فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق وهو الخروج عن الحد وأما التعليل بحرمة الأكل: ففيه إبطال ما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق لأن مقتضى العلة: أن يتقيد الحكم بها وجودا وعدما فإن لم يتقيد وثبت الحكم حيث تعدم: بطل تأثيراها بخصوصها في الحكم حيث ثبت الحكم مع انتفائها وذلك بخلاص ما دل عليه النص من التعليل بها.البحث الرابع: القائلون بالتخصيص بالخمسة المذكورة وما جاء معها في حديث آخر- من ذكر الحية- وفوا بمقتضى العدد والقائلون بالتعدية إلى غيرها يحتاجون إلى ذكر السبب في تخصيص المذكورات بالذكر وقال من علل بالأذى: إنما خصت بالذكر لينبه بها على ما في معناها وأنواع الأذى مختلف فيها فيكون ذكر كل نوع منها منبها على جواز قتل ما فيه ذلك النوع فنبه بالحية والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع كالبرغوث مثلا عند بعضهم ونبه بالفأرة على ما أذاه بالنقب والتقريض كابن عرس ونبه بالغراب والحدأة على ما أذاه بالاختطاف كالصقر والباز ونبه بالكلب على كل عاد بالعقر والافتراس بطبعه كالأسد والفهد والنمر.وأما من قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل: فقد أحالوا التخصيص في الذكر بهذه الخمسة على الغالب فإنها الملابسات للناس والمخالطات في الدور بحيث يعم أذاها فكان ذلك سببا للتخصيص والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم على ما عرف في الأصول إلا أن خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضا عليهم في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية.وتقريره: أن إلحاق المسكوت بالمنطوق قياسا شرطه مساواة الفرع للأصل أو رجحانه أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر فلا إلحاق ولما كانت هذه الأشياء عامة الأذى- كما ذكرتم- ناسب أن يكون ذلك سببا لإباحة قتلها لعموم ضررها وهذا المعنى معدوم فيما لا يعم ضرره مما لا يخالط في المنازل فلا تدعوا الحاجة إلى إباحة قتله كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات فلا يلحق به.وأجاب الأولون عن هذا بوجهين:أحدهما: أن الكلب العقور نادر وقد أبيح قتله.والثاني: معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر ألا ترى أن تأثير الفأرة بالنقب- مثلا- والحدأة بخطف شيء يسير لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف الأنفس؟ فكان إباحة القتل أول.البحث الخامس: اختلفوا في الكلب العقور فقيل: هو الإنسي المتخذ وقيل: هو كل ما يعدو كالأسد والنمر واستدل هؤلاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب: «بأن يسلط الله عليه كلبا من كلابه افترسه السبع» فدل على تسميته بالكلب ويرجح الأولون قولهم: بأن إطلاق اسم الكلب على غير الإنسي المتخذ: خلاف العرف واللفظة إذا نقلها أهل العرف إلى معنى كان حملها عليه أولى من حملها على المعنى اللغوي.البحث السادس: اختلفوا في صغار هذه الأشياء وهي عند المالكية منقسمة فأما صغار الغراب والحدأة: ففي قتلهما قولان لهم والمشهور: القتل ودليلهم عموم الحديث في قوله: «الغراب والحدأة» وأما من منع القتل للصغار: فاعتبر الصفة التي علل بها القتل وهي الفسق على ما شهد به إيماء اللفظ وهذا الفسق معدوم في الصغار حقيقة والحكم يزول بزوال علته وأما صغار الكلاب ففيها قولان لهم أيضا وأما صغار غير ذلك من المستثنيات المذكورة في الحديث: فتقتل وظاهر اللفظ والإطلاق: يقتضي أن تدخل الصغار لانطلاق لفظ: «الغراب والحدأة» وغيرهما عليها وأما الكلب العقور: فإنه أبيح قتله بصفة تتقيد الإباحية بها ليست موجودة في الصغير ولا هي معلومة الوجود في حالة الكبر على تقدير البقاء بخلاف غيره فإنه عند الكبر ينتهي بطبعه إلى الأذى قطعا.البحث السابع: استدل به على أنه يقتل في الحرم من لجأ إلى الحرم بعد قتله لغيره مثلا على ما هو مذهب الشافعي وعلل ذلك بأن إباحة قتل هذه الأشياء في الحرم: معلل بالفسق والعدوان فيعم الحكم بعموم العلة والقاتل عدوانا فاسق بعدوانه فتوجد العلة في قتله فيقتل بالأولى لأنه مكلف وهذه الفواسق فسقها طبعي ولا تكليف عليها والمكلف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه وهذا عندي ليس بالهين وفيه غور فليتنبه له والله أعلم..باب دخول مكة وغيرها: 1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: «اقتلوه».ثبت من قول ابن شهاب في رواية مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرما ذلك اليوم) وظاهر كون المغفر على رأسه يقتضي ذلك ولكنه محتمل أن يكون لعذر وأخذ من هذا: أن المريد لدخول مكة إذا كان محاربا يباح له دخولها بغير إحرام لحاجة المحارب إلى التستر بما يقيه وقع السلاح.وابن خطل بفتح الخاء والطاء: اسمه عبد العزى وإباحة النبي صلى الله عليه وسلم لقتله قد يتسم به في مسألة إباحة قتل الملتجئ إلى الحرم.ويجاب عنه بأن ذلك محمول على الخصوصية التي دل عليها قوله عليه السلام: «ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار».2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى».كداء بفتح الكاف والمد والثنية السفلى المعروف فيها كدا بضم الكاف والقصر وثم موضع آخر يقال له كدي بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء وليس هو السفلى على المعروف والثنية طريق بين الجبلين والمشهور: استحباب الدخول من كداء وإن لم تكن طريق الداخل إلى مكة فيعرج إليها وقيل: إنما دخل النبي صلى الله عليه وسلم منها لأنها على طريقه فلا يستحب لمن ليست على طريقه وفيه نظر.3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا: كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين.فيه أمران:أحدهما: قبول خبر الواحد وهو فرد من أفراد لا تحصى كما قدمناه وفيه جواز الصلاة في الكعبة وقد اختلف في ذلك ومالك فرق بين الفرض والنفل فكره الفرض أو منعه وخفف في النفل لأنه مظنة التخفيف في الشروط.وفي الحديث: دليل أيضا على جواز الصلاة بين الأساطين والأعمدة وإن كان يحتمل أن يكون صلى في الجهة التي بينهما وإن لم يكن في مسامتتهما حقيقة وقد وردت في ذلك كراهة فإن لم يصح سندها قدم هذا الحديث وعمل بحقيقة قوله: (بين العمودين) وإن صح سندها: أول بما ذكرناه: أنه صلى في سمت ما بينهما وإن كانت آثارا فقط: قدم المسند عليها.4- عن عمر رضي الله عنه: (أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).فيه دليل على استحباب تقبيل الحجر الأسود وقول عمر هذا الكلام في ابتداء تقبيله: ليبين أنه فعل ذلك اتباعا وليزيل بذلك الوهم الذي كان ترتب في أذهان الناس في أيام الجاهلة ويحقق عدم الانتفاع بالأحجار من حيث هي هي كما كانت الجاهلية تعتقد في الأصنام.5- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها: إلا الإبقاء عليهم).
-
.باب ما يجوز قتله: 1- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور».ولمسلم: «يقتل خمس فواسق في الحل والحرم».فيه مباحث:الأول: المشهور في الرواية: «خمس» بالتنوين «فواسق» ويجوز «خمس فواسق» بالإضافة من غير تنوين وهذه الرواية التي ذكرها المصنف تدل على صحة المشهور فإنه أخبر عن خمس بقوله: «كلهن فواسق» وذلك يقتضي أن ينون: «خمس» فيكون فواسق خبرا وبين التنوين والإضافة في هذا فرق دقيق في المعنى وذلك أن الإضافة تقتضي الحكم على خمس من الفواسق بالقتل وربما أشعر التخصيص بخلاف الحكم في غيرها وبطريق المفهوم وأما مع التنوين فإنه يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى وقد يشعر بأن الحكم المرتب على ذلك- وهو القتل- معلل بما جعل وصفا وهو الفسق فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم وهو التخصيص.الثاني: الجمهور على جواز قتل هذه المذكورة في الحديث والحديث دليل على ذلك وعن بعض المتقدمين أن الغراب يرمى ولا يقتل.الثالث: اختلفوا في الاقتصار على هذه الخمسة أو التعدية لما هو أكثر منها بالمعنى فقيل: بالاقتصار عليها وهو المذكور في كتب الحنفية ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين لأبي حنيفة: أنا أبا حنيفة ألحق الذئب بها وعدوا ذلك من مناقضاته والذين قالوا بالتعدية اختلفوا في المعنى الذي به التعدية فنقل عن بعض الشارحين: أن الشافعي قال: المعنى في جواز قتلهن: كونهن مما لا يؤكل فكل ما لا يؤكل قتله جائز للمحرم ولا فدية عليه وقال مالك المعنى فيه كونهن مؤذيات فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله وما لا فلا.وهذا عندي فيه نظر فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد وإنما يرى الشافعي جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير المأكول وأما جواز الإقدام على قتل ما لا يؤكل مما ليس فيه ضرر: فغير هذا ومقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه: أنه لا يجوز اصطياد الأسد والنمر ومنا في معناهما من بقية السباع العادية والشافعية يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس وهو الذي الأذى الطبيعي والعدوان المركب في هذه الحيوانات والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عدى القائسون إلى كل ما وجد فيه المعنى ذلك الحكم كما في الأشياء الستة التي في الربا وقد وافقه أبو حنيفة على التعدية فيها وإن اختلف هو والشافعي في المعنى الذي يعدى به.وأقول: المذكور ثم: هو تعليق الحكم بالألقاب وهو لا يقتضي مفهوما عند الجمهور فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ والمذكور هاهنا مفهوم عدد وقد قال به جماعة فيكون اللفظ مقتضيا للتخصيص وإلا بطلت فائدة التخصيص بالعدد وعلى هذا المعنى عول بعض مصنفي الحنفية في التخصيص بالخمس المذكورات- أعني مفهوم العدد- وذكر غير ذلك مع هذا أيضا.واعلم أن التعدية بمعنى الأذى إلى كل إلى كل مؤذ: قوي بالإضافة إلى تصرف القائسين فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق وهو الخروج عن الحد وأما التعليل بحرمة الأكل: ففيه إبطال ما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق لأن مقتضى العلة: أن يتقيد الحكم بها وجودا وعدما فإن لم يتقيد وثبت الحكم حيث تعدم: بطل تأثيراها بخصوصها في الحكم حيث ثبت الحكم مع انتفائها وذلك بخلاص ما دل عليه النص من التعليل بها.البحث الرابع: القائلون بالتخصيص بالخمسة المذكورة وما جاء معها في حديث آخر- من ذكر الحية- وفوا بمقتضى العدد والقائلون بالتعدية إلى غيرها يحتاجون إلى ذكر السبب في تخصيص المذكورات بالذكر وقال من علل بالأذى: إنما خصت بالذكر لينبه بها على ما في معناها وأنواع الأذى مختلف فيها فيكون ذكر كل نوع منها منبها على جواز قتل ما فيه ذلك النوع فنبه بالحية والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع كالبرغوث مثلا عند بعضهم ونبه بالفأرة على ما أذاه بالنقب والتقريض كابن عرس ونبه بالغراب والحدأة على ما أذاه بالاختطاف كالصقر والباز ونبه بالكلب على كل عاد بالعقر والافتراس بطبعه كالأسد والفهد والنمر.وأما من قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل: فقد أحالوا التخصيص في الذكر بهذه الخمسة على الغالب فإنها الملابسات للناس والمخالطات في الدور بحيث يعم أذاها فكان ذلك سببا للتخصيص والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم على ما عرف في الأصول إلا أن خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضا عليهم في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية.وتقريره: أن إلحاق المسكوت بالمنطوق قياسا شرطه مساواة الفرع للأصل أو رجحانه أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر فلا إلحاق ولما كانت هذه الأشياء عامة الأذى- كما ذكرتم- ناسب أن يكون ذلك سببا لإباحة قتلها لعموم ضررها وهذا المعنى معدوم فيما لا يعم ضرره مما لا يخالط في المنازل فلا تدعوا الحاجة إلى إباحة قتله كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات فلا يلحق به.وأجاب الأولون عن هذا بوجهين:أحدهما: أن الكلب العقور نادر وقد أبيح قتله.والثاني: معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر ألا ترى أن تأثير الفأرة بالنقب- مثلا- والحدأة بخطف شيء يسير لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف الأنفس؟ فكان إباحة القتل أول.البحث الخامس: اختلفوا في الكلب العقور فقيل: هو الإنسي المتخذ وقيل: هو كل ما يعدو كالأسد والنمر واستدل هؤلاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب: «بأن يسلط الله عليه كلبا من كلابه افترسه السبع» فدل على تسميته بالكلب ويرجح الأولون قولهم: بأن إطلاق اسم الكلب على غير الإنسي المتخذ: خلاف العرف واللفظة إذا نقلها أهل العرف إلى معنى كان حملها عليه أولى من حملها على المعنى اللغوي.البحث السادس: اختلفوا في صغار هذه الأشياء وهي عند المالكية منقسمة فأما صغار الغراب والحدأة: ففي قتلهما قولان لهم والمشهور: القتل ودليلهم عموم الحديث في قوله: «الغراب والحدأة» وأما من منع القتل للصغار: فاعتبر الصفة التي علل بها القتل وهي الفسق على ما شهد به إيماء اللفظ وهذا الفسق معدوم في الصغار حقيقة والحكم يزول بزوال علته وأما صغار الكلاب ففيها قولان لهم أيضا وأما صغار غير ذلك من المستثنيات المذكورة في الحديث: فتقتل وظاهر اللفظ والإطلاق: يقتضي أن تدخل الصغار لانطلاق لفظ: «الغراب والحدأة» وغيرهما عليها وأما الكلب العقور: فإنه أبيح قتله بصفة تتقيد الإباحية بها ليست موجودة في الصغير ولا هي معلومة الوجود في حالة الكبر على تقدير البقاء بخلاف غيره فإنه عند الكبر ينتهي بطبعه إلى الأذى قطعا.البحث السابع: استدل به على أنه يقتل في الحرم من لجأ إلى الحرم بعد قتله لغيره مثلا على ما هو مذهب الشافعي وعلل ذلك بأن إباحة قتل هذه الأشياء في الحرم: معلل بالفسق والعدوان فيعم الحكم بعموم العلة والقاتل عدوانا فاسق بعدوانه فتوجد العلة في قتله فيقتل بالأولى لأنه مكلف وهذه الفواسق فسقها طبعي ولا تكليف عليها والمكلف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه وهذا عندي ليس بالهين وفيه غور فليتنبه له والله أعلم..باب دخول مكة وغيرها: 1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: «اقتلوه».ثبت من قول ابن شهاب في رواية مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرما ذلك اليوم) وظاهر كون المغفر على رأسه يقتضي ذلك ولكنه محتمل أن يكون لعذر وأخذ من هذا: أن المريد لدخول مكة إذا كان محاربا يباح له دخولها بغير إحرام لحاجة المحارب إلى التستر بما يقيه وقع السلاح.وابن خطل بفتح الخاء والطاء: اسمه عبد العزى وإباحة النبي صلى الله عليه وسلم لقتله قد يتسم به في مسألة إباحة قتل الملتجئ إلى الحرم.ويجاب عنه بأن ذلك محمول على الخصوصية التي دل عليها قوله عليه السلام: «ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار».2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى».كداء بفتح الكاف والمد والثنية السفلى المعروف فيها كدا بضم الكاف والقصر وثم موضع آخر يقال له كدي بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء وليس هو السفلى على المعروف والثنية طريق بين الجبلين والمشهور: استحباب الدخول من كداء وإن لم تكن طريق الداخل إلى مكة فيعرج إليها وقيل: إنما دخل النبي صلى الله عليه وسلم منها لأنها على طريقه فلا يستحب لمن ليست على طريقه وفيه نظر.3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا: كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين.فيه أمران:أحدهما: قبول خبر الواحد وهو فرد من أفراد لا تحصى كما قدمناه وفيه جواز الصلاة في الكعبة وقد اختلف في ذلك ومالك فرق بين الفرض والنفل فكره الفرض أو منعه وخفف في النفل لأنه مظنة التخفيف في الشروط.وفي الحديث: دليل أيضا على جواز الصلاة بين الأساطين والأعمدة وإن كان يحتمل أن يكون صلى في الجهة التي بينهما وإن لم يكن في مسامتتهما حقيقة وقد وردت في ذلك كراهة فإن لم يصح سندها قدم هذا الحديث وعمل بحقيقة قوله: (بين العمودين) وإن صح سندها: أول بما ذكرناه: أنه صلى في سمت ما بينهما وإن كانت آثارا فقط: قدم المسند عليها.4- عن عمر رضي الله عنه: (أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).فيه دليل على استحباب تقبيل الحجر الأسود وقول عمر هذا الكلام في ابتداء تقبيله: ليبين أنه فعل ذلك اتباعا وليزيل بذلك الوهم الذي كان ترتب في أذهان الناس في أيام الجاهلة ويحقق عدم الانتفاع بالأحجار من حيث هي هي كما كانت الجاهلية تعتقد في الأصنام.5- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها: إلا الإبقاء عليهم).
-
قيل: إن هذا القدوم لم يكن في الحجة وإنما كان في عمرة القضاء فأخذ من هذا: أنه نسخ منه عدم الرمل فيما بين الركنين فإنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: «رمل من الحجر إلى الحجر» وذكر: أنه كان في الحج فيكون متأخرا فيقدم على المتقدم.وفيه دليل على استحباب الرمل والأكثرون على استحبابه مطلقا في طواف القدوم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وإن كانت العلة التي ذكرها ابن عباس قد زالت فيكون استحبابه في ذلك الوقت لتلك العلة وفيما بعد ذلك تأسيا واقتداء بما فعل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من الحكمة: تذكر الوقائع الماضية للسلف الكرام وفي طي تذكرها ك مصالح دينية إذ يتبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله تعالى والمبادرة إليه وبذل الأنفس في ذلك وبهذه النكتة يظهر لك أن كثيرا من الأعمال التي وقعت في الحج ويقال فيها إنها تعبد ليست كما قيل ألا ترى أنا إذا فعلناها وتذكرنا أسبابها: حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله فكان هذا التذكر باعثا لنا على مثل ذلك ومقررا في أنفسنا تعظيم الأولين وذلك معنى معقول.مثاله: السعي بين الصفا والمروة إذا فعناه وتذكرنا أن سببه: قصة هاجر مع ابنها وترك الخليل لهما في ذلك المكان الموحش منفردين منقطعي أسباب الحياة بالكلية مع ما أظهره الله تعالى لهما من الكرامة والآية في إخراج الماء لهما- كان في ذلك مصالح عظيمة أي في التذكر لتلك الحال وكذلك رمي الجمار إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه: رمي إبليس بالجمار في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبح ولده: حصل من ذلك مصالح عظيمة النفع في الدين.وفي الحديث: جواز تسمية الطوافات بالأشواط لقوله: «فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة» ونقل عن بعض المتقدمين وعن الشافعي: أنهما كرها هذه التسمية والحديث على خلافه.وإنما ذكر في هذا الحديث: «أنهم لم يرملوا بين الركنين اليمانيين» لأن المشركين لم يكونوا يرون المسلمين إذا كانوا في هذا المكان.6- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود- أول ما يطوف- يخب ثلاثة أشواط).فيه دليل على الاستلام للركن وذكر بعض مصنفي الشافعية المتأخرين أن استلام الركن يستحب مع استلام الحجر أيضا وله متمسك بهذا الحديث وإن كان يحتمل أن يكون معنى قوله: (استلم الركن) استلم الحجر وعبر بقوله: (استلم الركن) عن كونه استلم الحجر فإن الحجر بعض الركن كما أنه إذا قال: (استلم الركن) إنما يريد بعضه وفيه دليل على الخبب في جميع الأشواط الثلاث وفيه دليل على تقديم الطواف في ابتداء قدوم مكة.7- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن).المحجن: عصا محنية الرأس.فيه دليل على جواز الطواف راكبا وقيل: إن الأفضل: المشي وإنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا لتظهر أفعاله فيقتدى بها وهذا يؤخذ منه أصل كبير وهو أن الشيء قد يكون راجحا بالنظر إلى محله من حيث هو فإذا عارضه أمر آخر أرجح منه: قدم على الأول من غير أن تزول الفضيلة الأولى حتى إذا زال ذلك المعارض الراجح: عاد الحكم الأول من حيث هو هو وهذا إنما يقوى إذا قام الدليل على أن ترك الأول إنما هو لأجل المعارض الراجح وقد يؤخذ ذلك بقرائن ومناسبات وقد يضعف وقد يقوى بحسب اختلاف المواضع وهاهنا يصطدم الظاهر مع المتعبين للمعاني.واستدل بالحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه من حيث إنه لا يؤمن بول البعير في أثناء الطواف في المسجد ولو كان نجسا لم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم المسجد للنجاسة وقد منع لتعظيم المساجد ما هو أخف من هذا.وفي الحديث دليل على الاستلام بالمحجن إذا تعذر الوصول إلى الاستلام باليد وليس فيه تعرض لتقبيله.8- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين).اختلف الناس: هل تعم الأركان كلها بالاستلام أم لا؟ والمشهور بين علماء الأمصار: ما دل عليه هذا الحديث وهو اختصاص الإسلام بالركنين اليمانيين وعلته: أنهما على قواعد إبراهيم عليه السام وأما الركنان الآخران فاستقصرا عن قواعد إبراهيم كذا ظن ابن عمر وهو تعليل مناسب وعن بعض الصحابة: أنه كان يستلم الأركان كلها ويقول: (ليس شيء من البيت مهجورا) واتباع ما دل عليه الحديث أولى فإن الغالب على العبادات: الاتباع لاسيما إذا وقع التخصيص مع توهم الاشتراك في العلة وهنا أمر زائد وهو إظهار معنى للتخصيص غير موجود فيما ترك فيه الاستلام..باب التمتع: 1- عن أبي جمرة- نصر بن عمران الضبعي- قال: (سألت ابن عباس عن المتعة؟ فأمرني بها وسألته عن الهدي؟ فقال: فيه جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم قال: وكان ناس كرهوها فنمت فرأيت في المنام كأن إنسانا ينادي: حج مبرور ومتعة متقبلة فأتيت ابن عباس فحدثته فقال: الله أكبر سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم).أبو حمزة بالجيم والراء المهملة نصر بالصاد المهملة الضبعي: بضم الضاد المعجمة وفتح الباء ثاني الحروف وبالعين المهملة متفق عليه.وقوله: (سألت ابن عباس عن المتعة) الظاهر: أنه يريد بها الإحرام بالعمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه.وقوله: (أمرني بها) يدل على جوازها عنده من غير كراهة وسيأتي في الحديث.قوله وكان ناس كرهوها وذلك منقول عن عمر رضي الله عنه وعن غيره على أن الناس اختلفوا فيما كرهه عمر من ذلك: هل هي المتعة التي ذكرناها أو فسخ الحج إلى العمرة؟ والأقرب: أنها هذه فقيل: إن هذه الكراهة والنهي من باب الحمل على الأولى والمشورة به على وجه المبالغة.وقوله: (رأيت في المنام كأن إنسانا ينادي) الخ فيه: استئناس بالرؤيا فيم يقوم عليه الدليل الشرعي لما دل الشرع عليه من عظم قدرها وأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وهذا الاستئناس والترجيح لا ينافي الأصول.وقول ابن عباس: (الله أكبر سنة أبي القاسم) يدل على أنه تأيد بالرؤيا واستبشر بها وذلك دليل على ما قلناه.2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي من الحليفة ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: «من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله», فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم انصرف فأتى الصفا وطاف بالصفا بالبيت عند المقام ركعتين ثم انصرف فأتى الصفا وطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهدى وساق الهدي من الناس.قوله: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم) قيل: هو محمول على التمتع اللغوي وهو الانتفاع ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قارنا عند قوم والقران فيه تمتع وزيادة- إذ فيه إسقاط أحد العملين وأحد الميقاتين- سمي تمتعا على هذا باعتبار الوضع اللغوي وقد يحمل قوله تمتع على الأمر بذلك كما قيل بمثل هذا في حجة النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلفت الأحاديث وأريد بينها ويدل على هذا التأويل المحتمل: ما ذكرناه وأن ابن عمر- راوي هذا الحديث- هو الذي روى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد).وقوله: (وساق الهدي) فيه دليل على استحباب سوق الهدي من الأماكن البعيدة وقوله: (فبدأ فأهل بالعمرة ثم بالحج) نص في الإهلال بهما.ولما ذهب بعض الناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قارن- بمعنى أنه أحرم بهما معا- احتاج إلى تأويل قوله: «أهل بالعمرة ثم بالحج» فإنه على خلاف اختياره فيجعل الإهلال في قوله: «أهل بالعمرة ثم بالحج» على رفع الصوت بالتلبية ويكون قد قدم فيها لفظ الإحرام بالعمرة على لفظه بالحج ولا يراد به تقديم الإحرام بالعمرة على الإحرام بالحج لأنه خلاف ما رواه واعلم أنه لا نحتاج الجمع بين الأحاديث إلى ارتكاب كون القران بمعنى: تقديم الإحرام بالحج على الإحرام بالعمرة فإنه يمكن الجمع وإن كان قد وقع الإحرام بالعمرة أو لا فالتأويل الذي ذكره على الوجه الذي ذكره: غير محتاج إليه في طريق الجمع.وقوله: «فتمتع الناس إلى آخره» حمل على التمتع اللغوي فإنهم لم يكونوا متمتعين بمعنى التمتع المشهور فإنهم لم يحرموا بالعمرة ابتداء وإنما تمتعوا بفسخ الحج إلى العمرة على ما جاء في الأحاديث فقد استعمل التمتع في معناه اللغوي أو يكونون تمتعوا بفسخ الحج إلى العمرة كمن أحرم بالعمرة ابتداء في نظرا إلى المآل ثم إنهم أحرموا بالحج بعد ذلك فكانوا متمتعين ن.وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان منكم قد أهدى»- إلى آخره موافق لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقوله: «فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة» دليل على طلب هذا الطواف في الابتداء.وقوله: «فليقصر» أي من شعره وهو التقصير في العمرة عند التحلل منها قيل: وإنما لم يأمره بالحلق حتى يبقى على الرأس ما يحلقه في الحج فإن الحلاق في الحج أفض من الحلاق في العمرة كما ذكر بعضهم واستدل بالأمر في قوله: «فليحلق» على أن الحلاق نسك وقيل: في قوله: «فليحلل» إن المراد به: يصير حلالا إذ لا يحتاج بعد فعل أفعال العمرة والحلاق فيها: إلى تجديد فعل آخر ويحتمل عندي أن يكون المراد بالأمر بالإحلال: هو فعل ما كان حراما عليه في حال الإحرام من جهة الإحرام ويكون الأمر للإباحة.وقوله: «فمن لم يجد الهدي» يقتضي تعلق الرجوع إلى الصوم عن الهدي بعدم وجدانه حينئذ وإن كان قادرا عليه في بلده لأن صيامه ثلاثة أيام في الحج إذا عدم الهدي يقتضي الاكتفاء بهذا البدل في الحال لقوله: «ثلاثة أيام في الحج» وأيام الحج محصورة فلا يمكن أن يصوم في الحج إلا إذا كان قادرا على الصوم في الحال عاجزا عن الهدي في الحال وذلك ما أردناه.وقوله صلى الله عليه وسلم: «في الحج» هو نص كتاب الله تعالى فيستدل به على أنه لا يجوز للمتمتع الصيام قبل دخوله في الحج لا من حيث المفهوم فقط بل من حيث تعلق الأمر بالصوم الموصوف بكونه في الحج وأما الهدي قبل الدخول في الحج: فقيل: لا يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي والمشهور من مذهبه: جواز الهدي بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج وأبعد من هذا: من أجاز الهدي قبل التحلل من العمرة من العلماء وقد يستدل به من يجيز للمتمتع صوم أيام التشريق بعد إثبات مقدمة وهي أن تلك الأيام من الحج أو تلك الأفعال الباقية ينطلق عليها: أنها من الحج أو وقتها من وقت الحج.وقوله: «إذا رجع إلى أهله» دليل لأحد القولين للعلماء في أن المراد بالرجوع من قوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] هو الرجوع إلى الأهل لا الرجوع من منى إلى مكة.وقوله: «واستلم الركن أول شيء» دليل استحباب ابتداء الطواف بذلك: «ثم خب ثلاثة أطواف» دليل على استحباب الخبب وهو الرمل في طواف القدوم.وقوله: «ثلاثة أطواف» يدل على تعميم هذه الثلاثة بالخبب على خلاف ما تقدم من حديث ابن عباس وقد ذكرنا ما فيه.وقوله: «عند المقام ركعتين» دليل على استحباب أن تكون ركعتا الطواف عند المقام و«طوافه بين الصفا والمروة» عقيب طواف القدوم: دليل على مشروعية ذلك على هذا الوجه واستحباب أن يكون السعي عقيب طواف القدوم وقد قال بعض الفقهاء: إنه يشترط في السعي: أن يكون عقيب طواف كيف كان وقال بعضهم: لابد أن يكون عقيب طواف واجب وهذا القائل يرى أن طواف القدوم واجب وإن لم يكن ركنا.وقوله: «ثم لم يحلل» الخ امتثالا لقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ودليل على أن ذلك حكم القارن.
-
وقوله: «وفعل مثل ما فعل من ساق الهدي» يبين أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن ساق الهدي في حديث آخر بأن لا يحل منها حتى يحل منهما جميعا.3- عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: «إني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحره».فيه دليل على استحباب التلبيد لشعر الرأس عند الإحرام والتلبيد أن يجعل في الشعر ما يسكنه ويمنعه من الانتفاش كالصبر أو الصمغ وما أشبه ذلك وفيه دليل على أن للتلبيد أثرا في تأخير الإحلال إلى النحر وفيه: أن من ساق الهدي لم يحل حتى يوم النحر وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].وقولها: «ما شأن الناس حلوا ولم تحل؟» هذا الإحلال: والذي وقع للصحابة في فسخهم الحج إلى العمرة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك ليحلوا بالتحلل من العمرة ولم يحل هو صلى الله عليه وسلم لأنه كان قد ساق الهدي.وقولها: «من عمرتك» يستدل به على أنه كان صلى الله عليه وسلم قارنا ويكون المراد من قولها من عمرتك أي من عمرتك التي مع حجتك وقيل من بمعنى الباء أي لم تحل بعمرتك أي العمرة التي تحلل بها الناس وهو ضعيف لوجهين أحدهما:أحدهما: كون من بمعنى الباء.والثاني: أن قولها عمرتك تقتضي الإضافة فيه تقرر عمرة له تضاف إليه والعمرة التي يقع بها التحلل لم تكن متقررة ولا موجودة وقيل: يراد بالعمرة الحج بناء على النظر إلى الوضع اللغوي وهو أن العمرة الزيارة والزيارة موجودة في الحج أي موجودة المعنى فيه وهو ضعيف أيضا لأن الإسم إذا انتقل إلى حقيقة عرفية كانت اللغوية مهجورة في الاستعمال.4- عن عمران بن حصين قال: أنزلت أية المتعة في كتاب الله تعالى ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء قال البخاري يقال: إنه عمر.ولمسلم: (نزلت آية المتعة- يعني متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات) ولهما بمعناه.يراد بآية المتعة قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وفي الحديث إشارة إلى جواز نسخ القرآن بالسنة لأنه قوله لم ينه عنها نفي منه لما يقتضي رفع الحكم بالجواز الثابت بالقرآن فلو لم يكن هذا الرفع ممكنا لما احتاج إلى قوله ولم ينه عنها ومراده بنفي نسخ القرآن: الجواز وينفي ورود السنة بالنهي: تقرر الحكم ودوامه إذ لا طريق لرفع إلا أحد هذين الأمرين وقد يؤخذ منه: أن الإجماع لا ينسخ به إذ لو نسخ به لقال: ولم يتفق على المنع لأن الاتفاق حينئذ يكون سببا لرفع الحكم فكان يحتاج إلى نفيه كما نفى نزول القرآن بالنسخ وورود السنة بالنهي.وقوله قال رجل برأيه ما شاء هو كما ذكر في الأصل عن البخاري: أن المراد بالرجل عمر رضي الله عنه وفيه دليل على أن الذي نهى عنه عمر: هو متعة الحج المشهورة وهو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج ثم الحج في عامه خلافا لمن حمله على أن المراد: المتعة بفسخ الحج إلى العمرة أو لمن حمله على متعة النساء لأن شيئا من هاتين المتعتين لم ينزل قرآن بجوازه والنهي المذكور قد قيل فيه: إنه نهي تنزيه وحمل على الأولى والأفضل وحذرا أن يترك الناس الأفضل ويتتابعوا على غيره طلبا للتخفيف على أنفسهم..باب الهدي: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرتها وقلدها- أو قلدتها- ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلا).فيه دليل على استحباب بعث الهدي من البلاد البعيدة لمن لا يسافر معه ودليل على استحباب تقليده للهدي وإشعاره من بلده بخلاف ما إذا سار مع الهدي فإنه يؤخر الإشعار إلى حين الإحرام.وفيه دليل على استحباب الإشعار في الجملة خلافا لمن أنكره وهو شق صفحة السنام طولا وسلت الدم عنه واختلف الفقهاء هل يكون في الأيمن أو في الأيسر؟ ومن أنكره قال: إنه مثلة والعمل بالسنة أولى.وفيه دليل على أن من بعث بهدية لا تحرم عليه محظورات الإحرام ونقل فيه الخلاف عن بعض المتقدمين وهو مشهور عن ابن عباس وفيه دليل على استحباب فتل القلائد.2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنما).في هذا الحديث دليل على إهداء الغنم.3- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: «اركبها» قال: إنها بدنة قال: «اركبها» فرأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها.وفي لفظ قال: في الثانية أو الثالثة: «اركبها ويلك» أو «ويحك».اختلفوا في ركوب البدنة المهداة على مذاهب فنقل عن بعضهم أنه أوجب ذلك لأن صيغة الأمر وردت به مع ما يناصف إلى ذلك من مخالفة سيرة الجاهلية من مجانبة السائبة والوصيلة والحامي وتوقيها ورد على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب هدية ولا أمر الناس بركوب الهدايا ومنهم من قال: يركبها مطلقا من غير اضطرار تمسكا بظاهر هذا الحديث ومنهم من قال: لا يركبها إلا عند الحاجة فيركبها من غير إضرار وهذا المنقول من مذهب الشافعي رحمه الله لأنه جاء في الحديث: «اركبها إذا احتجت إليها» فحمل ذلك المطلق على المقيد ومنهم من منع من ركوبها إلا لضرورة.وقوله: «ويلك» كلمة تستعمل في التغليظ على المخاطب وفيها هاهنا وجهان:أحدهما: أن تجري على هذا المعنى وإنما استحق صاحب البدنة ذلك لمراجعته وتأخر امتثاله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الراوي في الثانية أو الثالثة.والثاني: أن لا يراد بها موضوعها الأصلي ويكون مما جرى على لسان العرب في المخاطبة من غير لموضوعه كما قيل في قوله عليه السلام: «تربت يداك» و«أفلح وأبيه إن صدق» وكما في قول العرب ويله وتحوه ومن يمنع ركوب البدنة من غير حاجة يحمل هذه الصورة على ظهور الحاجة إلى ركوبها في الواقعة المعينة.4- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنة وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزار منها شيئا, وقال: «نحن نعطيه من عندنا».فيه دليل على جواز الاستنابة في القيام على الهدي وذبحه والتصدق به.وقوله: «وأن أتصدق بلحمها» يدل على التصدق بالجميع ولا شك أنه أفضل مطلقا وواجب في بعض الدماء وفيه دليل على أن الجلود تجري مجرى اللحم في التصدق لأنها من جملة ما ينتفع به فحكمها حكمة.وقوله: «أن لا أعطي الجزار منها شيئا» ظاهرة عدم الإعطاء مطلقا لكل وجه ولا شك في امتناعه إذا كان المعطى أجرة الذبح لأنه معاوضة ببعض الهدي والمعاوضة في الأخرى كالبيع وأما إذا أعطى الأجرة خارجا عن اللحم المعطى وكان اللحم زائدا على الأجرة فالقياس أن جوز ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نحن نعطيه من عندنا» وأطلق المنع من إعطائه منها ولم يقيد المنع بالأجرة والذي يخشى منه في هذا أن تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه الجزار من اللحم فيعود إلى المعاوضة في نفس الأمر فمن يميل إلى المنع نم الذرائع يخشى من مثل هذا.5- عن زياد بن جبير قال: (رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته فنحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم).فيه دليل على استحباب نحر الإبل من قيام ويشير إليه قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي سقطت وهو يشعر بكونها كانت قائمة.وفيه دليل على استحباب أن تكون معقولة وورد في حديث صحيح ما يدل على أن تكون معقولة اليد اليسرى وبعضهم سوى بين نحرها باركة وقائمة ونقل عن بعضهم أنه قال: تنحر باركة والسنة أولى والله أعلم..باب الغسل للمحرم: عن عبد الله بن حنين: أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه وقال المسور: لا يغسل رأسه قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك ابن عباس يسألك: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل.وفي رواية: «فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدا».القرنان العامودان الذان تشد فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة.الأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد: موضع معين بين مكة والمدينة.وفي الحديث دليل على جواز المناظرة في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها إذا غلب على ظن المختلفين فيها حكم وفيه دليل على الرجوع إلى من يظن به أن عنده علما فيما اختلف فيه.وفيه دليل على قبول خبر الواحد وإن العمل به سائغ شائع بين الصحابة لأن ابن عباس أرسل عبد الله بن حنين ليستعلم له علم المسألة ومن ضرورته قبول خبره عن أبي أيوب فيما أرسل فيه والقرنان فسرهما المصنف.وفيه دليل على التستر عند الغسل وفيه دليل على جواز الاستعانة في الطهارة لقول أبي أيوب اصبب وقد ورد في الاستعانة أحاديث صحيحة وورد في تركها شيء لا يقابلها في الصحة.وفيه دليل على جواز السلام على المتطهر في حال طهارته بخلاف من هو على الحدث وفيه دليل على جواز الكلام في أثناء الطهارة فيه دليل على تحريك اليد على الرأس في غسل المحرم إذا لم يؤد إلى نتف الشعر.وقوله: (أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه؟) يشعر بأن ابن عباس كان عنده علم بأصل الغسل فإن السؤال عن كيفية الشيء إنما يكون بعد العلم بأصله وفيه دليل على أن غسل البدن كان عنده متقرر الجواز إذ لم يسأل عنه وإنما سأل عن كيفية غسل الرأس ويحتمل أن يكون ذلك لأنه موضع الإشكال في المسألة إذ الشعر عليه وتحريك اليد فيه يخاف منه نتف الشعر.وفيه دليل على جواز غسل المحرم وقد أجمع عليه إذا كان جنبا أو كانت المرأة حائضا فطهرت وبالجملة الأغسال الواجبة وأما إذا كان تبردا من غير وجوب فقد اختلفوا فيه ف الشافعي يجيزه وزاد أصحابه فقالوا له: أن يغسل رأسه بالسدر والخطمي ولا فدية عليه وقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية أعني غسل رأسه بالخطمي وما في معناه فإن استدل بالحديث على هذا المختلف فيه فلا يقوى لأن المذكور حكاية حال لا عموم لفظ وحكاية الحال تحتمل أن تكون هي المختلف فيها وتحتمل أن لا ومع الاحتمال لا تقوم حجة..باب فسخ الحج إلى العمرة: 1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وقدم علي رضي الله عنه من اليمن فقال: أهللت بما أهل النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة فيطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت», وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلم طهرت وطافت بالبيت قالت: يا رسول الله ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج.قوله: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم) الإهلال: أصله رفع الصوت ثم استعمل في التلبية استعمالا شائعا ويعبر به عن الإحرام.وقوله: (بالحج) ظاهره يدل على الإفراد وهو رواية جابر.وقوله: (و ليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة) كالمقدمة لما أمروا به من فسخ الحج إلى العمرة إذ لم يكن هدي.
-
وقوله: «وفعل مثل ما فعل من ساق الهدي» يبين أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن ساق الهدي في حديث آخر بأن لا يحل منها حتى يحل منهما جميعا.3- عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: «إني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحره».فيه دليل على استحباب التلبيد لشعر الرأس عند الإحرام والتلبيد أن يجعل في الشعر ما يسكنه ويمنعه من الانتفاش كالصبر أو الصمغ وما أشبه ذلك وفيه دليل على أن للتلبيد أثرا في تأخير الإحلال إلى النحر وفيه: أن من ساق الهدي لم يحل حتى يوم النحر وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].وقولها: «ما شأن الناس حلوا ولم تحل؟» هذا الإحلال: والذي وقع للصحابة في فسخهم الحج إلى العمرة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك ليحلوا بالتحلل من العمرة ولم يحل هو صلى الله عليه وسلم لأنه كان قد ساق الهدي.وقولها: «من عمرتك» يستدل به على أنه كان صلى الله عليه وسلم قارنا ويكون المراد من قولها من عمرتك أي من عمرتك التي مع حجتك وقيل من بمعنى الباء أي لم تحل بعمرتك أي العمرة التي تحلل بها الناس وهو ضعيف لوجهين أحدهما:أحدهما: كون من بمعنى الباء.والثاني: أن قولها عمرتك تقتضي الإضافة فيه تقرر عمرة له تضاف إليه والعمرة التي يقع بها التحلل لم تكن متقررة ولا موجودة وقيل: يراد بالعمرة الحج بناء على النظر إلى الوضع اللغوي وهو أن العمرة الزيارة والزيارة موجودة في الحج أي موجودة المعنى فيه وهو ضعيف أيضا لأن الإسم إذا انتقل إلى حقيقة عرفية كانت اللغوية مهجورة في الاستعمال.4- عن عمران بن حصين قال: أنزلت أية المتعة في كتاب الله تعالى ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء قال البخاري يقال: إنه عمر.ولمسلم: (نزلت آية المتعة- يعني متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات) ولهما بمعناه.يراد بآية المتعة قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وفي الحديث إشارة إلى جواز نسخ القرآن بالسنة لأنه قوله لم ينه عنها نفي منه لما يقتضي رفع الحكم بالجواز الثابت بالقرآن فلو لم يكن هذا الرفع ممكنا لما احتاج إلى قوله ولم ينه عنها ومراده بنفي نسخ القرآن: الجواز وينفي ورود السنة بالنهي: تقرر الحكم ودوامه إذ لا طريق لرفع إلا أحد هذين الأمرين وقد يؤخذ منه: أن الإجماع لا ينسخ به إذ لو نسخ به لقال: ولم يتفق على المنع لأن الاتفاق حينئذ يكون سببا لرفع الحكم فكان يحتاج إلى نفيه كما نفى نزول القرآن بالنسخ وورود السنة بالنهي.وقوله قال رجل برأيه ما شاء هو كما ذكر في الأصل عن البخاري: أن المراد بالرجل عمر رضي الله عنه وفيه دليل على أن الذي نهى عنه عمر: هو متعة الحج المشهورة وهو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج ثم الحج في عامه خلافا لمن حمله على أن المراد: المتعة بفسخ الحج إلى العمرة أو لمن حمله على متعة النساء لأن شيئا من هاتين المتعتين لم ينزل قرآن بجوازه والنهي المذكور قد قيل فيه: إنه نهي تنزيه وحمل على الأولى والأفضل وحذرا أن يترك الناس الأفضل ويتتابعوا على غيره طلبا للتخفيف على أنفسهم..باب الهدي: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرتها وقلدها- أو قلدتها- ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلا).فيه دليل على استحباب بعث الهدي من البلاد البعيدة لمن لا يسافر معه ودليل على استحباب تقليده للهدي وإشعاره من بلده بخلاف ما إذا سار مع الهدي فإنه يؤخر الإشعار إلى حين الإحرام.وفيه دليل على استحباب الإشعار في الجملة خلافا لمن أنكره وهو شق صفحة السنام طولا وسلت الدم عنه واختلف الفقهاء هل يكون في الأيمن أو في الأيسر؟ ومن أنكره قال: إنه مثلة والعمل بالسنة أولى.وفيه دليل على أن من بعث بهدية لا تحرم عليه محظورات الإحرام ونقل فيه الخلاف عن بعض المتقدمين وهو مشهور عن ابن عباس وفيه دليل على استحباب فتل القلائد.2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنما).في هذا الحديث دليل على إهداء الغنم.3- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: «اركبها» قال: إنها بدنة قال: «اركبها» فرأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها.وفي لفظ قال: في الثانية أو الثالثة: «اركبها ويلك» أو «ويحك».اختلفوا في ركوب البدنة المهداة على مذاهب فنقل عن بعضهم أنه أوجب ذلك لأن صيغة الأمر وردت به مع ما يناصف إلى ذلك من مخالفة سيرة الجاهلية من مجانبة السائبة والوصيلة والحامي وتوقيها ورد على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب هدية ولا أمر الناس بركوب الهدايا ومنهم من قال: يركبها مطلقا من غير اضطرار تمسكا بظاهر هذا الحديث ومنهم من قال: لا يركبها إلا عند الحاجة فيركبها من غير إضرار وهذا المنقول من مذهب الشافعي رحمه الله لأنه جاء في الحديث: «اركبها إذا احتجت إليها» فحمل ذلك المطلق على المقيد ومنهم من منع من ركوبها إلا لضرورة.وقوله: «ويلك» كلمة تستعمل في التغليظ على المخاطب وفيها هاهنا وجهان:أحدهما: أن تجري على هذا المعنى وإنما استحق صاحب البدنة ذلك لمراجعته وتأخر امتثاله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الراوي في الثانية أو الثالثة.والثاني: أن لا يراد بها موضوعها الأصلي ويكون مما جرى على لسان العرب في المخاطبة من غير لموضوعه كما قيل في قوله عليه السلام: «تربت يداك» و«أفلح وأبيه إن صدق» وكما في قول العرب ويله وتحوه ومن يمنع ركوب البدنة من غير حاجة يحمل هذه الصورة على ظهور الحاجة إلى ركوبها في الواقعة المعينة.4- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنة وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزار منها شيئا, وقال: «نحن نعطيه من عندنا».فيه دليل على جواز الاستنابة في القيام على الهدي وذبحه والتصدق به.وقوله: «وأن أتصدق بلحمها» يدل على التصدق بالجميع ولا شك أنه أفضل مطلقا وواجب في بعض الدماء وفيه دليل على أن الجلود تجري مجرى اللحم في التصدق لأنها من جملة ما ينتفع به فحكمها حكمة.وقوله: «أن لا أعطي الجزار منها شيئا» ظاهرة عدم الإعطاء مطلقا لكل وجه ولا شك في امتناعه إذا كان المعطى أجرة الذبح لأنه معاوضة ببعض الهدي والمعاوضة في الأخرى كالبيع وأما إذا أعطى الأجرة خارجا عن اللحم المعطى وكان اللحم زائدا على الأجرة فالقياس أن جوز ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نحن نعطيه من عندنا» وأطلق المنع من إعطائه منها ولم يقيد المنع بالأجرة والذي يخشى منه في هذا أن تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه الجزار من اللحم فيعود إلى المعاوضة في نفس الأمر فمن يميل إلى المنع نم الذرائع يخشى من مثل هذا.5- عن زياد بن جبير قال: (رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته فنحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم).فيه دليل على استحباب نحر الإبل من قيام ويشير إليه قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي سقطت وهو يشعر بكونها كانت قائمة.وفيه دليل على استحباب أن تكون معقولة وورد في حديث صحيح ما يدل على أن تكون معقولة اليد اليسرى وبعضهم سوى بين نحرها باركة وقائمة ونقل عن بعضهم أنه قال: تنحر باركة والسنة أولى والله أعلم..باب الغسل للمحرم: عن عبد الله بن حنين: أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه وقال المسور: لا يغسل رأسه قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك ابن عباس يسألك: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل.وفي رواية: «فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدا».القرنان العامودان الذان تشد فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة.الأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد: موضع معين بين مكة والمدينة.وفي الحديث دليل على جواز المناظرة في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها إذا غلب على ظن المختلفين فيها حكم وفيه دليل على الرجوع إلى من يظن به أن عنده علما فيما اختلف فيه.وفيه دليل على قبول خبر الواحد وإن العمل به سائغ شائع بين الصحابة لأن ابن عباس أرسل عبد الله بن حنين ليستعلم له علم المسألة ومن ضرورته قبول خبره عن أبي أيوب فيما أرسل فيه والقرنان فسرهما المصنف.وفيه دليل على التستر عند الغسل وفيه دليل على جواز الاستعانة في الطهارة لقول أبي أيوب اصبب وقد ورد في الاستعانة أحاديث صحيحة وورد في تركها شيء لا يقابلها في الصحة.وفيه دليل على جواز السلام على المتطهر في حال طهارته بخلاف من هو على الحدث وفيه دليل على جواز الكلام في أثناء الطهارة فيه دليل على تحريك اليد على الرأس في غسل المحرم إذا لم يؤد إلى نتف الشعر.وقوله: (أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه؟) يشعر بأن ابن عباس كان عنده علم بأصل الغسل فإن السؤال عن كيفية الشيء إنما يكون بعد العلم بأصله وفيه دليل على أن غسل البدن كان عنده متقرر الجواز إذ لم يسأل عنه وإنما سأل عن كيفية غسل الرأس ويحتمل أن يكون ذلك لأنه موضع الإشكال في المسألة إذ الشعر عليه وتحريك اليد فيه يخاف منه نتف الشعر.وفيه دليل على جواز غسل المحرم وقد أجمع عليه إذا كان جنبا أو كانت المرأة حائضا فطهرت وبالجملة الأغسال الواجبة وأما إذا كان تبردا من غير وجوب فقد اختلفوا فيه ف الشافعي يجيزه وزاد أصحابه فقالوا له: أن يغسل رأسه بالسدر والخطمي ولا فدية عليه وقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية أعني غسل رأسه بالخطمي وما في معناه فإن استدل بالحديث على هذا المختلف فيه فلا يقوى لأن المذكور حكاية حال لا عموم لفظ وحكاية الحال تحتمل أن تكون هي المختلف فيها وتحتمل أن لا ومع الاحتمال لا تقوم حجة..باب فسخ الحج إلى العمرة: 1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وقدم علي رضي الله عنه من اليمن فقال: أهللت بما أهل النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة فيطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت», وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلم طهرت وطافت بالبيت قالت: يا رسول الله ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج.قوله: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم) الإهلال: أصله رفع الصوت ثم استعمل في التلبية استعمالا شائعا ويعبر به عن الإحرام.وقوله: (بالحج) ظاهره يدل على الإفراد وهو رواية جابر.وقوله: (و ليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة) كالمقدمة لما أمروا به من فسخ الحج إلى العمرة إذ لم يكن هدي.
-
وقوله: «وفعل مثل ما فعل من ساق الهدي» يبين أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن ساق الهدي في حديث آخر بأن لا يحل منها حتى يحل منهما جميعا.3- عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: «إني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحره».فيه دليل على استحباب التلبيد لشعر الرأس عند الإحرام والتلبيد أن يجعل في الشعر ما يسكنه ويمنعه من الانتفاش كالصبر أو الصمغ وما أشبه ذلك وفيه دليل على أن للتلبيد أثرا في تأخير الإحلال إلى النحر وفيه: أن من ساق الهدي لم يحل حتى يوم النحر وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].وقولها: «ما شأن الناس حلوا ولم تحل؟» هذا الإحلال: والذي وقع للصحابة في فسخهم الحج إلى العمرة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك ليحلوا بالتحلل من العمرة ولم يحل هو صلى الله عليه وسلم لأنه كان قد ساق الهدي.وقولها: «من عمرتك» يستدل به على أنه كان صلى الله عليه وسلم قارنا ويكون المراد من قولها من عمرتك أي من عمرتك التي مع حجتك وقيل من بمعنى الباء أي لم تحل بعمرتك أي العمرة التي تحلل بها الناس وهو ضعيف لوجهين أحدهما:أحدهما: كون من بمعنى الباء.والثاني: أن قولها عمرتك تقتضي الإضافة فيه تقرر عمرة له تضاف إليه والعمرة التي يقع بها التحلل لم تكن متقررة ولا موجودة وقيل: يراد بالعمرة الحج بناء على النظر إلى الوضع اللغوي وهو أن العمرة الزيارة والزيارة موجودة في الحج أي موجودة المعنى فيه وهو ضعيف أيضا لأن الإسم إذا انتقل إلى حقيقة عرفية كانت اللغوية مهجورة في الاستعمال.4- عن عمران بن حصين قال: أنزلت أية المتعة في كتاب الله تعالى ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء قال البخاري يقال: إنه عمر.ولمسلم: (نزلت آية المتعة- يعني متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات) ولهما بمعناه.يراد بآية المتعة قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وفي الحديث إشارة إلى جواز نسخ القرآن بالسنة لأنه قوله لم ينه عنها نفي منه لما يقتضي رفع الحكم بالجواز الثابت بالقرآن فلو لم يكن هذا الرفع ممكنا لما احتاج إلى قوله ولم ينه عنها ومراده بنفي نسخ القرآن: الجواز وينفي ورود السنة بالنهي: تقرر الحكم ودوامه إذ لا طريق لرفع إلا أحد هذين الأمرين وقد يؤخذ منه: أن الإجماع لا ينسخ به إذ لو نسخ به لقال: ولم يتفق على المنع لأن الاتفاق حينئذ يكون سببا لرفع الحكم فكان يحتاج إلى نفيه كما نفى نزول القرآن بالنسخ وورود السنة بالنهي.وقوله قال رجل برأيه ما شاء هو كما ذكر في الأصل عن البخاري: أن المراد بالرجل عمر رضي الله عنه وفيه دليل على أن الذي نهى عنه عمر: هو متعة الحج المشهورة وهو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج ثم الحج في عامه خلافا لمن حمله على أن المراد: المتعة بفسخ الحج إلى العمرة أو لمن حمله على متعة النساء لأن شيئا من هاتين المتعتين لم ينزل قرآن بجوازه والنهي المذكور قد قيل فيه: إنه نهي تنزيه وحمل على الأولى والأفضل وحذرا أن يترك الناس الأفضل ويتتابعوا على غيره طلبا للتخفيف على أنفسهم..باب الهدي: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرتها وقلدها- أو قلدتها- ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حلا).فيه دليل على استحباب بعث الهدي من البلاد البعيدة لمن لا يسافر معه ودليل على استحباب تقليده للهدي وإشعاره من بلده بخلاف ما إذا سار مع الهدي فإنه يؤخر الإشعار إلى حين الإحرام.وفيه دليل على استحباب الإشعار في الجملة خلافا لمن أنكره وهو شق صفحة السنام طولا وسلت الدم عنه واختلف الفقهاء هل يكون في الأيمن أو في الأيسر؟ ومن أنكره قال: إنه مثلة والعمل بالسنة أولى.وفيه دليل على أن من بعث بهدية لا تحرم عليه محظورات الإحرام ونقل فيه الخلاف عن بعض المتقدمين وهو مشهور عن ابن عباس وفيه دليل على استحباب فتل القلائد.2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنما).في هذا الحديث دليل على إهداء الغنم.3- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: «اركبها» قال: إنها بدنة قال: «اركبها» فرأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها.وفي لفظ قال: في الثانية أو الثالثة: «اركبها ويلك» أو «ويحك».اختلفوا في ركوب البدنة المهداة على مذاهب فنقل عن بعضهم أنه أوجب ذلك لأن صيغة الأمر وردت به مع ما يناصف إلى ذلك من مخالفة سيرة الجاهلية من مجانبة السائبة والوصيلة والحامي وتوقيها ورد على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب هدية ولا أمر الناس بركوب الهدايا ومنهم من قال: يركبها مطلقا من غير اضطرار تمسكا بظاهر هذا الحديث ومنهم من قال: لا يركبها إلا عند الحاجة فيركبها من غير إضرار وهذا المنقول من مذهب الشافعي رحمه الله لأنه جاء في الحديث: «اركبها إذا احتجت إليها» فحمل ذلك المطلق على المقيد ومنهم من منع من ركوبها إلا لضرورة.وقوله: «ويلك» كلمة تستعمل في التغليظ على المخاطب وفيها هاهنا وجهان:أحدهما: أن تجري على هذا المعنى وإنما استحق صاحب البدنة ذلك لمراجعته وتأخر امتثاله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الراوي في الثانية أو الثالثة.والثاني: أن لا يراد بها موضوعها الأصلي ويكون مما جرى على لسان العرب في المخاطبة من غير لموضوعه كما قيل في قوله عليه السلام: «تربت يداك» و«أفلح وأبيه إن صدق» وكما في قول العرب ويله وتحوه ومن يمنع ركوب البدنة من غير حاجة يحمل هذه الصورة على ظهور الحاجة إلى ركوبها في الواقعة المعينة.4- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنة وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزار منها شيئا, وقال: «نحن نعطيه من عندنا».فيه دليل على جواز الاستنابة في القيام على الهدي وذبحه والتصدق به.وقوله: «وأن أتصدق بلحمها» يدل على التصدق بالجميع ولا شك أنه أفضل مطلقا وواجب في بعض الدماء وفيه دليل على أن الجلود تجري مجرى اللحم في التصدق لأنها من جملة ما ينتفع به فحكمها حكمة.وقوله: «أن لا أعطي الجزار منها شيئا» ظاهرة عدم الإعطاء مطلقا لكل وجه ولا شك في امتناعه إذا كان المعطى أجرة الذبح لأنه معاوضة ببعض الهدي والمعاوضة في الأخرى كالبيع وأما إذا أعطى الأجرة خارجا عن اللحم المعطى وكان اللحم زائدا على الأجرة فالقياس أن جوز ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نحن نعطيه من عندنا» وأطلق المنع من إعطائه منها ولم يقيد المنع بالأجرة والذي يخشى منه في هذا أن تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه الجزار من اللحم فيعود إلى المعاوضة في نفس الأمر فمن يميل إلى المنع نم الذرائع يخشى من مثل هذا.5- عن زياد بن جبير قال: (رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته فنحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم).فيه دليل على استحباب نحر الإبل من قيام ويشير إليه قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي سقطت وهو يشعر بكونها كانت قائمة.وفيه دليل على استحباب أن تكون معقولة وورد في حديث صحيح ما يدل على أن تكون معقولة اليد اليسرى وبعضهم سوى بين نحرها باركة وقائمة ونقل عن بعضهم أنه قال: تنحر باركة والسنة أولى والله أعلم..باب الغسل للمحرم: عن عبد الله بن حنين: أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه وقال المسور: لا يغسل رأسه قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك ابن عباس يسألك: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل.وفي رواية: «فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدا».القرنان العامودان الذان تشد فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة.الأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد: موضع معين بين مكة والمدينة.وفي الحديث دليل على جواز المناظرة في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها إذا غلب على ظن المختلفين فيها حكم وفيه دليل على الرجوع إلى من يظن به أن عنده علما فيما اختلف فيه.وفيه دليل على قبول خبر الواحد وإن العمل به سائغ شائع بين الصحابة لأن ابن عباس أرسل عبد الله بن حنين ليستعلم له علم المسألة ومن ضرورته قبول خبره عن أبي أيوب فيما أرسل فيه والقرنان فسرهما المصنف.وفيه دليل على التستر عند الغسل وفيه دليل على جواز الاستعانة في الطهارة لقول أبي أيوب اصبب وقد ورد في الاستعانة أحاديث صحيحة وورد في تركها شيء لا يقابلها في الصحة.وفيه دليل على جواز السلام على المتطهر في حال طهارته بخلاف من هو على الحدث وفيه دليل على جواز الكلام في أثناء الطهارة فيه دليل على تحريك اليد على الرأس في غسل المحرم إذا لم يؤد إلى نتف الشعر.وقوله: (أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه؟) يشعر بأن ابن عباس كان عنده علم بأصل الغسل فإن السؤال عن كيفية الشيء إنما يكون بعد العلم بأصله وفيه دليل على أن غسل البدن كان عنده متقرر الجواز إذ لم يسأل عنه وإنما سأل عن كيفية غسل الرأس ويحتمل أن يكون ذلك لأنه موضع الإشكال في المسألة إذ الشعر عليه وتحريك اليد فيه يخاف منه نتف الشعر.وفيه دليل على جواز غسل المحرم وقد أجمع عليه إذا كان جنبا أو كانت المرأة حائضا فطهرت وبالجملة الأغسال الواجبة وأما إذا كان تبردا من غير وجوب فقد اختلفوا فيه ف الشافعي يجيزه وزاد أصحابه فقالوا له: أن يغسل رأسه بالسدر والخطمي ولا فدية عليه وقال مالك وأبو حنيفة: عليه الفدية أعني غسل رأسه بالخطمي وما في معناه فإن استدل بالحديث على هذا المختلف فيه فلا يقوى لأن المذكور حكاية حال لا عموم لفظ وحكاية الحال تحتمل أن تكون هي المختلف فيها وتحتمل أن لا ومع الاحتمال لا تقوم حجة..باب فسخ الحج إلى العمرة: 1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وقدم علي رضي الله عنه من اليمن فقال: أهللت بما أهل النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة فيطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت», وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلم طهرت وطافت بالبيت قالت: يا رسول الله ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج.قوله: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم) الإهلال: أصله رفع الصوت ثم استعمل في التلبية استعمالا شائعا ويعبر به عن الإحرام.وقوله: (بالحج) ظاهره يدل على الإفراد وهو رواية جابر.وقوله: (و ليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة) كالمقدمة لما أمروا به من فسخ الحج إلى العمرة إذ لم يكن هدي.
-
وهذا البحث كله إنما يحتاج إليه بالنسبة إلى الرواية التي جاء فيها السؤال عن تقديم الحلق على الرمي وأما على الرواية التي ذكرها المصنف: فلا تعلم من أوجب الدم وحمل نفي الحرج على نفي الإثم فيشكل عليه تأخير بيان وجوب الدم فإن الحاجة تدعو إلى تبيان هذا الحكم فلا يؤخر عنها بيانه.ويمكن أن يقال: إن ترك ذكره في الرواية لا يلزمه منه ترك ذكره في نفس الأمر.وأما من أسقط الدم وجعل ذلك مخصوصا بحالة عدم الشعور: فإنه يحمل: «لا حرج» على نفي الإثم والدم معا فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ويبني أيضا على القاعدة: في أن الحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز اطراحه وإلحاق غيره مما لا يساويه به ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة والحكم علق به فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه فإن تمسك بقول الراوي فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج فإنه قد يشعر بأن الترتيب مطلقا غير مراعى في الوجوب.فجوابه: أن الراوي لم يحك لفظا عاما عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي جواز التقديم والتأخير مطلقا وإنما أخبر عن قوله عليه الصلاة والسلام: «لا حرج» بالنسبة إلى كل ما سئل عنه من التقديم والتأخير حينئذ هذا الإخبار من الراوي: إنما تعلق بما وقع السؤال عنه وذلك مطلق بالنسبة إلى حال السؤال وكنه وقع عن العمد أو عدمه والمطلق لا يدل على أحد الخاصيين بعينه فلا يبقى حجة في حال العمد والله أعلم.6- عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي: (أنه حج مع ابن مسعود فرآه رمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم).فيه دليل على رمي الجمرة الكبرى بسبع كغيرها ودليل على استحباب هذه الكيفية في الوقوف لرميا ودليل على أن هذه الجمرة ترمى من بطن الوادي ودليل على مراعاة كل شيء من هيئات الحج التي وقعت من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال ابن مسعود هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة.البقرة قاصدا بذلك الإعلام به ليفعل وفيه دليل على جواز قولنا سورة البقرة وقد نقل عن الحجاج بن يوسف: أنه نهى عن ذلك وأمر أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة فرد عليه بهذا الحديث.7- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ارحم المحلقين», قالوا: والمقصرين يا رسول الله قال: «اللهم ارحم المحلقين», قالوا: والمقصرين يا رسول الله, قال: «والمقصرين».الحديث دليل على جواز الحلق والتقصير معا وعلى أن الحلق أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر في الدعاء للمحلقين واقتصر في الدعاء للمقصرين على مرة وقد تكلموا في أن هذا كان في الحديبية أو في حجة الوداع وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أنه في الحديبية ولعله وقع فيهما معا وهو الأقرب وقد كان في كلا الوقتين توقف من الصحابة في الحلق أما في الحديبية: فلأنهم عظم عليهم الرجوع قبل تمام مقصودهم من الدخول إلى مكة وكمال نسكهم وأما في الحج فلأنهم شق عليهم فسخ الحج إلى العمرة وكان من قصر منهم شعره اعتقد: أنه أخف من الحلق إذ هو يدل على الكراهة للشيء فكرر النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء للمحلقين لأنهم بادروا إلى امتثال الأمر وأتموا فعل ما أمروا به من الحلق وقد ورد التصريح بهذه العالة في بعض الروايات فقيل لأنهم لم يشكوا.8- عن عائشة رضي الله عنها قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهلة فقلت: يا رسول الله إنها حائض قال: «أحابستنا هي؟», قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر قال: «اخرجوا».وفي لفظ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عقري حلقي أطافت يوم النحر؟», قيل: نعم قال: «فانفري».فيه دليل على أمور:أحدها: أن طواف الإفاضة لابد منه وأن المرأة إذا حاضت لا تنفر حتى تطوف لقوله صلى الله عليه وسلم: «أحابستنا هي؟» فقيل: إنها قد أفاضت- إلى آخره فإن في سياقه يدل على أن عدم طواف الإفاضة موجب للحبس.وثانيهما: أن الحائض يسقط عنها طواف الوداع ولا تقعد لأجله لقوله فانفري.وثالثهما: قوله عقري مفتوح العين ساكن القاف وحلقي مفتوح الحاء سكان اللام والكلام في هاتين اللفظتين من وجوه.منها: ضبطهم فالمشهور عن المحدثين- حتى لا يكاد يعرف غيره- أن آخر اللفظتين ألف التأنيث المقصورة من غير تنوين وقال بعضهم عقرا حلقا بالتنوين لأنه يشعر أن الموضع موضع دعاء فأجراه مجرى كلام العرب في الدعاء بألفاظ المصادر فإنها منونة موضع دعاء فأجراه مجرى كلام العرب في الدعاء بألفاظ المصادر فإنها منونة كقولهم سقيا ورعيا وجدعا وكيا ورأى أن عقرى بألف التأنيث نعت لا دعاء والذي ذكره المحدثون صحيح أيضا.ومنها: ما تقتضيه هاتان اللفظتان فقيل عقرى بمعنى: عقرها لله وقيل: عقر قومها وقيل: جعلها عاقر لا تلد وأما حلقى فإما بمعنى حلق شهرها أو بمعنى أصابها وجع في حلقها أو بمعنى تحلق قومها بشؤمها.ومنها: أن هذا من الكلام الذي كثر في لسان العرب حتى لا يراد به أصل موضعه كقولهم: ترتب يداك وما أشعره قاتله الله وأفلح وأبيح إلى ذلك من الألفاظ التي لا يقصد أصل موضوعها لكثرة استعمالها.9- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض).فيه دليل على أن طواف الوداع واجب لظاهر الأمر وهو مذهب الشافعي ويجب الدم بتركه وهذا بعد تقرير أن إخبار الصحابي عن صيغة الأمر كحكايته لها ولا دم فيه عند مالك ولا وجوب له عنده.وفيه دليل على سقوطه عن الحائض وفيه خلاف عن بعض السلف أعني ابن عمر أو ما يقرب- أي من الخلف- منه.10- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له).أخذ منه أمران:أحدهما: حكم المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج وواجباته: وهذا من حيث قوله: (أذن للعباس من أجل سقايته) فإنه يقتضي الإذن لهذه العلة المخصوصة وأن غيرها لم يحصل فيه الإذن.الثاني: أنه يجوز المبيت لأجل السقاية ومدلول الحديث: تعليق هذا الحكم بوصف السقاية وباسم العباس: فتكلم الفقهاء في أن هذا من الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم فأما غير العباس: فلا يختص به الحكم اتفاقا لكن اختلفوا فيما زاد على ذلك: فمنهم من قال: يختص هذا الحكم بآل العباس ومنهم من عمه في بني هاشم ومنهم من عم وقال: كل من احتاج إلى المبيت للسقاية فله ذلك وأما تعليقه بسقاية العباس: فمنهم من خصصه بها حتى لو عملت سقاية أخرى لم يرخص في المبيت لأجلها والأقرب: ابتاع المعنى وأن العلة: الحاجة إلى إعداد الماء للشاربين.11- وعنه- أي عن ابن عمر- قال: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع لكل واحدة منهما إقامة ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما).فيه دليل على جمع التأخير بمزدلفة وهي جمع لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان وقت الغروب بعرفة فلم يجمع بينهما بالمزدلفة إلا وقد أخر المغرب وهذا الجمع لا خلاف فيه وإنما اختلفوا: هل هو بعذر النسك أو بعذر السفر؟ وفائدة الخلف: أن من ليس بمسافر يجمع فيه هل يجمع بين هاتين الصلاتين أم لا؟ والمنقول عن مذهب أبي حنيفة: أن الجمع بعذر النسك وظاهر مذهب الشافعي: أنه بعذر السفر ولبعض أصحابه وجه: أنه بعذر السفر ولبعض أصحابه وجه: أنه بعذر النسك.ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الصلاتين في طول سفره ذلك فإن كان لم يجمع في نفس الأمر فيقوى أن يكون للنسك لأن الحكم المتجدد عن تجدد أمر يقتضي إضافة ذلك الحكم إلا ذلك الأمر وإن كان قد جمع: إما بأن يرد في ذلك نقل خاص أو يؤخذ من قول ابن عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ جد به السير جمع بين المغرب والعشاء فقد تعارض في هذا الجمع سببان: السفر والنسك فيبقى النظر في ترجيح الإضافة إلى أحدهما على أن في الاستدلال بحديث ابن عمر على هذا الجمع نظرا من حيث إن السير لم يكن مجدا في ابتداء هذه الحركة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا عند دخول وقت صلاة المغرب وأنشأ الحركة بعد ذلك فالجد إنما يكون بعد الحركة أما في الابتداء: فلا وقد كان يمكن أن تقام المغرب بعرفة ولا يحصل جد السير بالنسبة إليها وإنما يتناول الحديث: ما إذا كان الجد والسير موجودا عند دخول وقتها فهذا أمر محتمل.واختلف الفقهاء أيضا: فيما لو أراد الجمع بغير جمع كما لو جمع في الطريق أو بعرفة على التقديم هل يجمع أم لا؟ والذين عللوا الجمع بالسفر: يجيزون الجمع مطلقا والذين يعللونه بالنسك: نقل عن بعضهم: أنه لا يجمع إلا بالمكان الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المزدلفة إقامة لوظيفة النسك على الوجه الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم.ومما يتعلق بالحديث: الكلام في الأذان والإقامة لصلاتي الجمع وقد ذكر فيه: أنه جمع بإقامة لكل واحدة ولم يذكر الأذان.وحاصل مذهب الشافعي رحمه الله: أن الجمع إما أن يكون على وجه التقديم أو على وجه التأخير فإن كان على وجه التقديم: أذن للأولى لأن الوقت لها وأقام لكل واحدة ولم يؤذن للثانية إلا على وجه غريب لبعض أصحابه وإن كان على وجه التأخير- كما في هذا الجمع- صلاها بإقامتين كما في ظاهر الحديث وأجروا في الأذان للأولى الخلاف الذي في الأذان للفائتة ودلالة الحديث على عدم الأذان دلالة سكون أعني الحديث الذي ذكره المصنف.ويتعلق بالحديث أيضا: عدم التنفل بين صلاتي الجمع لقوله: (ولم يسبح بينهما) والسبحة صلاة النافلة على المشهور والمسألة معبر عنها: بوجوب الموالاة بين صلاتي الجمع والمنقول عن ابن حبيب من أصحاب مالك: أن له أن ينتقل أعني للجامع بين الصلاتين ومذهب الشافعي: أن المولاة بين الصلاتين شرط في جمع التقديم وفيها في جمع التأخير خلاف لأن الوقت للصلاة الثانية فجاز تأخيرها وإذا قلنا بوجوب الموالاة فلا يقطعهما قدر الإقامة ولا قدر التيمم لمن يتيمم ولا قدر الأذان لمن يقول بالأذان لكل واحدة من صلاتي الجمع وقد حكيناه وجها لبعض الشافعية وهو قول في مذهب مالك أيضا لمن أراد أن يستدل بالحديث على عدم جواز التنفل بين صلاتي الجمع؟ فلمخالفه أن يقول: هو فعل والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب ويحتاج إلى ضميمة أمر آخر إليه.ومما يؤكده- أعني كلام المخالف- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنفل بعدهما كما في الحديث مع أنه لا خلاف في جواز ذلك فيشعر ذلك بأن ترك التنفل لم يكن لما ذكر من وجوب الموالاة وقد ورد بعض الروايات: «أنه فصل بين هاتين الصلاتين بحط الرحال» وهو يحتاج إلى مسافة في الوقت ويدل على جواز التأخير وقد تكرر من المصنف إيراد أحاديث في هذا الباب لا تناسب ترجمته..باب المحرم يأكل من صيد الحلال: 1- عن أبي قتادة الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا فخرجوا معه فصرف طائفة منهم- فيهم أبو قتادة- وقال: «خذوا ساحل البحر حتى نلتقي».فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فلم يحرم فينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك؟ فقال: «منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟» قالوا: لا, قال: «فكلوا ما بقي من لحمها».وفي رواية قال: «هل معكم منه شيء؟» فقلت: نعم, فناولته العضد فأكلها.تكلموا في كون أبي قتادة لم يكن محرما مع كونهم خرجوا للحج ومروا بالميقات ومن كان كذلك وجب عليه الإحرام من الميقات وأجيب بوجوه:منها وهو ضعيف أنه لم يكن مريدا للحج والعمرة.
-
منها: ما دل عليه أول هذا الحديث من أنه أرسل إلى جهة أخرى لكشفها وكان الالتقاء بعد مضي مكان الميقات.ومنها: أنه قبل توقيت الميقات.والأتان: الأنثى من الحمار وقولهم: (نأكل من لحم صيد ونحن محرمون) ورجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: دليل على أمرين:أحدهما: جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أكلوه باجتهاد.والثاني: وجوب الرجوع إلى النصوص عند تعارض الأشباه والاحتمالات.وقوله صلى الله عليه وسلم: «منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها» فيه دليل على أنهم لو فعلوا ذلك لكان سببا للمنع.وقوله عليه السلام: «فكلوا ما بقي من لحمها» دليل على جواز أكل المحرم لحم الصيد إذا لم يكن من دلالة ولا إشارة وقد اختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد على مذاهب.أحدها: أنه ممنوع مطلقا صيد لأجله أو لا وهذا مذكور عن بعض السلف ودليله: حديث الصعب على ما سنذكره.والثاني: إنه ممنوع إن صاده أو صيد لأجله سواء كان بإذنه أو بغير إذنه وهو مذهب مالك والشافعي.والثالث: إنه إن كان باصطياده أو بإذنه أو بدلالته حرم وإن كان على غير ذلك: لم يحرم.وحديث أبي قتادة- هذا- يدل على جواز أكله في الجملة وهو على خلاف مذهب الأول ويدل ظاهره: على أنه إذا لم يشر المحرم إليه ولا دل عليه: يجوز أكله فإنه ذكر الموانع المانعة من أكله والظاهر: أنه لو كان غيرها مانعا لذكر.وإنما احتج الشافعي على تحريم ما صيد لأجله مطلقا وإن لم يكن بدلالته وإذنه: بأمور أخرى منها: حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لحم الصيد لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم».والذي في الرواية الأخرى: من قوله عليه السلام: «هل معكم منه شيء؟» فيه أمران:أحدهما: تبسط الإنسان إلى صاحبه في طلب مثل هذا.والثاني: زيادة تطييب قلوبهم في موافقتهم في الأكل وقد تقدم لنا قوله عليه السلام: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي» والإشارة إلى أن ذلك لطلب موافقتهم في الحلق فإنه كان أطيب لقلوبهم.2- عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء- أو بودان- فرده عليه فلما رأى ما في وجهي قال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) وفي لفظ لمسلم: «رِجْلُ حِمَارٍ» وفي لفظ: «شق حمار» وفي لفظ: «عجز حمار».ووجه هذا الحديث: أنه ظن أنه صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله.الصعب بالصاد المهملة والعين المهملة أيضا وجثامة بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة وفتح الميم.وقوله: (أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) الأصل: أن يتعدى أهدى بإلى وقد يتعدى باللام ويكون بمعناه وقد يحتمل أن تكون اللام بمعنى أجل وهو ضعيف.وقوله: (حمارا وحشيا) ظاهره: أنه أهداه بجملته وحمل على أنه كان حيا وعليه يدل تبويب البخاري رحمه الله وقيل: إنه تأويل مالك رحمه الله وعلى مقتضاه: يستدل بالحديث على منع وضع المحرم يده على الصيد بطريق التملك بالهدية ويقاس عليها: ما في معناها من البيع.والهبة إلا أنه رد هذا التأويل بالروايات التي ذكرها المصنف عن مسلم من قوله عجز حمار أو شق حمار أو رجل حمار فإنها قوية الدلالة على كون المهدى بعضا وغير حي فيحتمل قوله: (حمارا وحشيا) المجاز وتسمية البعض باسم الكل أو فيه حذف مضاف ولا تبقى فيه دلالة على ما ذكره من تملك الصيد بالهبة على هذا التقدير.وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم»«إنا» الأولى مكسورة الهمزة لأنها ابتدائية والثانية مفتوحة: لأنها حذف منها اللام التي للتعليل وأصله: إلا لأنا.وقوله: «لم نرده» المشهور عند المحدثين: فيه فتح الدال وهو خلاف مذهب المحققين من النحاة ومقتضى مذهب سيبيويه وهم ضم الدال وذلك في كل مضاعف مجزوم أو موقوف اتصل به هاء ضمير المذكر وذلك معلل عندهم بأن الهاء حرف خفي فكأن الواو تالية للدال لعدم الاعتداد بالهاء وما قبل الواو: يضم وعبروا عن ضمتها لما بعدها وهذا بخلاف ضمير المؤنث إذا اتصل بالمضاعف المشدد فإنه يفتح باتفاق وحكى في مثل هذا الأول الموقوف لغتان أخريان إحداهما: الفتح كما يقول المحدثون والثانية: الكسر وأنشد فيه:قال أبو ليلى لحبلى: مده **حتى إذا مددته فشده إن أبا ليلى نسيج وحده وقوله عليه السلام: «إلا أنا حرم» يتمسك به في منع أكل المحرم لحم الصيد مطلقا فإنه علل بمجرد الإحرام والذين أباحوا أكله: لا يكون مجرد الإحرام عندهم علة وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده لأنه صيد لأجله جمعا بينه وبين حديث أبي قتادة والحرم جمع حرام.والأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد وودان فتح الواو وتشديد الدال آخره نون: موضعان معروفان فيما بين مكة والمدينة.ولمسألة أكل المحرم الصيد تعلق بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] وهل المراد بالصيد: نفس الاصطياد أو المصيد؟ وللاستقصاء فيه موضع غير هذا ولكن تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حرم قد يكون إشارة إليه.وفي اعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للصعب: تطييب لقلبه لما عرض له من الكراهة في رد هديته ويؤخذ منه: استحباب مثل ذلك من الاعتذار.وقوله: «فلما رأى ما في وجهي» يريد من الكراهة بسبب الرد..كتاب البيوع: .مدخل: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع».وما في معناه من حديث حكيم بن حزام وهو:2- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا- أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما».الحديث: يتعلق بمسألة إثبات خيار المجلس في البيع وهو يدل عليه وبه قال الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث ونفاه مالك وأبو حنيفة ووافق ابن حبيب- من أصحاب مالك- من أثبته والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عنه والذي يحضرنا الآن من ذلك وجوه:أحدها: أنه حديث خالفه راويه وكل ما كان كذلك: لم يعمل به.أما الأول: فلأن مالكا رواه ولم يقل به.وأما الثاني: فلأن الراوي إذا خالف فإما أن يكون مع علمه بالصحة فيكون فاسقا فلا تقبل روايته وإما أن يكون لا مع علمه بالصحة فهو أعلم بعلل ما روى فيتبع في ذلك.وأجيب عن ذلك بوجهين:أحدهما: منع المقدمة الثانية وهو أن الراوي إذا خالف لم يعمل بروايته وقوله إذا كان مع علمه بالصحة كان فاسقا ممنوع لجواز أن يعلم بالصحة ويخالف لمعارض راجح عنده ولا يلزم تقليده فيه وقوله إن كان لا مع علمه بالصحة وهو أعلم بروايته فيتبع في ذلك ممنوع أيضا لأنه إذا ثبت الحديث بعدالة النقلة وجب العمل به ظاهرا فلا يترك بمجرد الوهم والاحتمال.الوجه الثاني: أن هذا الحديث مروي من طرق فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية مالك لم يتعذر من جهة أخرى وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ- أعني أن مخالفة الراوي لروايته تقدم في العمل بها- فإنه على هذا التقدير: يتوقف العمل برواية مالك ولا يلزم من بطلان مأخذ معين بطلان مأخذ الحكم في نفس الأمر.الوجه الثاني من الاعتذارات: أن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وخبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول فهذا غير مقبول.أما الأول: لأن البياعات مما تتكرر مرات لا تحصى ومثل هذا تعم البلوى بمعرفة حكمه وأما الثاني: فلأن العادة تقتضي أن ما عمت به البلوى يكون معلوما عند الكافة فانفراد الواحد به على خلاف العادة فيرد.وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.أما الأولى- وهو أن البيع بما تعم به البلوى- فالبيع كذلك ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ وليس الفسخ مما تعم به البلوى في البياعات فإن الظاهر من الإقدام على البيع: الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه فالحاجة إلى معرفة حكم الفسخ لا تكون عامة.وأما الثانية: فلأن المعتمد في الرواية على عدالة الراوي وجزمه بالرواية وقد وجد ذلك وعدم نيل غيره لا يصلح معارضا لجواز عدم سماعه للحكم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين وعلى تقدير السماع: فجائز أن يعرض مانع من النقل أعني نقل غير هذا الراوي فإنما يكون ما ذكر إذا اقتضت العادة أن لا يخفى الشيء عن أهل التواتر وليست الأحكام الجزئية من هذا القبيل.الوجه الثالث من الاعتذارات: هذا حديث مخالف للقياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها وما كان كذلك لا يعمل به.أما الأول: فنعني بمخالف الأصول القياسية: ما ثبت الحكم في أصله قطعا وثبت كون الفرع في معنى المنصوص لم يخالف إلا فيما يعلم عروة عن مصلحة تصلح أن تكون مقصودة بشرع الحكم وهاهنا كذلك فإن منع الغير من إبطال حق الغير: ثابت بعد التفرق قطعا وما قبل التفرق في معناه لم يفترقا إلا فيما يقطع بتعريه عن المصلحة.وأما الثاني: فلأن القاطع مقدم على المظنون لا محالة وخبر الواحد مظنون وأجيب عنه: بمنع المقدمتين معا.أما الأولى: فلا نسلم عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما لا يعتبر من المصالح وذلك لأن البيع يقع بغتة من غير ترو وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه فيناسب إثبات الخيار لكل.واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته الخيار لكل واحد من المتعاقدين دفعا لضرر الندم فيما لعله يتكرر وقوعه ولم يمكن إثباته مطلقا فيما بعد التفرق وقبله فإنه رفع لحكمة العقد والوثوق بالتصرف فجعل مجلس العقد حريما لاعتبار هذه المصلحة وهذا معنى معتبر لا يستوي فيه ما قبل التفرق مع ما بعده.وأما الثانية: فلا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يرد فإن الأصل يثبت بالنصوص والنصوص ثابتة في الفروع المعينة وغاية ما في الباب أن يكون الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها أو تعبدا فيجب اتباعه.الوجه الرابع من الاعتذارات: هذا حديث معارض لإجماع أهل المدينة وعملهم وما كان كذلك يقدم عليه العمل فهذا يقدم عليه العمل.أما الأول: فلأن مالكا قال عقيب روايته وليس لهذا عندنا حد معلوم ولا أمر معمول به فيه.وأما الثاني: فلما اختص به أهل المدينة من سكناهم في مهبط الوحي ووفاة الرسول بين أظهرهم ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ فمخالفتهم لبعض الأخبار تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل به من ناسخ أو دليل راجح ولا تهمة تلحقهم فيتعين اتباعهم وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعملهم.وجوابه من وجهين:أحدهما: منع المقدمة الأولى وهو كون المسألة من إجماع أهل المدينة وبيانه من ثلاثة أوجه:منها: أنا تأملنا لفظ مالك فلم نجده مصرحا بأن المسألة إجماع أهل المدينة ويعرف ذلك بالنظر في ألفاظه.ومنها: أن هذا الإجماع إما أن يراد به إجماع سابق أو لاحق والأول باطل لأن ابن عمر رأس المفتين في المدينة في وقته وقد كان يرى إثبات خيار المجلس.والثاني: أيضا باطل فإن ابن أبي ذئب- من أقران مالك ومعاصريه- وقد أغلظ على مالك لما بلغه مخالفته للحديث.