-
مجموع الأنشطة
44096 -
تاريخ الانضمام
-
آخر نشاط
نوع المحتوي
الاقسام
المدونات
Store
التقويم
التحميلات
مكتبة الصور
المقالات
الأندية
دليل المواقع
الإعلانات
كل منشورات العضو alfahloy-alfahloy
-
علّمنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن البغض في الله تعالى من أوثق عُرى الإيمان، ولا شك أن كمال إيمان الملائكة بربّها يجعلهم من أشدّ خلق الله بُغضاً للعصاةِ وكُرهاً لهم، وتتجلّى هذه الكراهية في أعظم صورها عند قيامهم بلعن الكفرة وأنواعٍ من العصاة، لأن اللعن في حقيقته: الإِبعاد عن رحمة الله تعالى. ولا شكّ أن لعن الملائكةٍ لأحدٍ من الناس، أو لنوعٍ من أنواعهم، ليس كلعنِ بني آدم لبعضهم؛ لأن الملائكة ملأٌ سماويٌ أعلى، بلغوا الكمال التام في العبادة واليقين الراسخ ما ليس للبشر الذين جُبلوا على النقص، ولمكانتهم هذه: كان دعاؤهم باللعن لمن استحقّ اللعن أدعى للقبول عند الله تعالى، وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتُغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها) رواه أبو داود، فمقتضى الحديث أن اللاعن إن كان أهلاً للعن عادتْ إليه، وإلا أصابت الملعون، وبطبيعة الحال فالملائكة ليستْ ممّن يستحقّون اللعن لعصمتهم، وهذا الأمر يفرض على من أراد النجاة وآثر السلامة في دينه، أن يتجنّب الأمور الداعية إلى لعن الملائكة. ونضع بين يدي القاريء عدداً ممّن تلعنهم الملائكة وتدعوا عليهم أن يطردهم الله تعالى من رحمته، وأن يُخرجهم من عفوه: الصنف الأوّل: لعن الملائكة لكاتم العلم الشرعي: دلّت النصوص الشرعيّة على استحقاق كاتم العلم الشرعي للعن الملائكة، قال الله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة:159)، وهذه الآية تتضمّن وعيداً شديداً في حق من قام بإخفاء ما أمر الله به أهل العلم وأخذَ الميثاق عليه، بضرورة بثّ العلم في الناس، وعدم كتمانه أو إخفائه، كما جاء في سورة آل عمران: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران: 187). وفي قوله تعالى: {ويلعنهم اللاعنون} دليلٌ على دعاء الملائكة على كاتمي العلم الشرعي؛ لأن لفظ: {اللاعنون} في عمومه يشمل الملائكة، لدلالة النصوص الأخرى التي سنوردها لاحقاً بأنهم ممّن يلعنون أجناساً من بني آدم، فيدخلون في هذا العموم دخولاً أوليّاً، ومما يدلّ على ذلك قول قتادة في تفسير هذه الآية : "هم الملائكة"، وقول الربيع بن أنس: "اللاعنون، من ملائكة الله والمؤمنين" وكلاهما أوردهما ابن جرير في تفسير هذه الآية. وسبحان الذي جعل الجزاء من جنس العمل، فالعالم الذي يُعلّم الناس الخير تستغفر له الخلائق حتى الحيتان في البحر، وتدعوا له بالرحمة، وفي المقابل: فإن من يكتم علماً ويُخفيه عن الناس، مخالفاً في ذلك كلّ التوجيهات الربّانية التي تنهى عن كتمانه، وتأمرُ بنشره، باعتباره الهدف الرساليّ الأعلى الذي يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلذلك يستحقّ اللعنة من الجميع بما فيهم الملائكة، وهذا المعنى متّسقٌ مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم علمه، ثم كتمه، أُلجم يوم القيامة بلجامٍ من نار) رواه أصحاب السنن عدا النسائي. وللشيخ السعدي كلامٌ لطيفٌ في هذا المعنى، يقول عن كاتمي العلم: " تقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة؛ لسعيهم في غشّ الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فَجُوزوا من جنس عملهم، كما أن معلّم الناس الخير، يصلي الله عليه وملائكته، حتى الحوت في جوف الماء؛ لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فَجُوزِيَ من جنس عمله، فالكاتم لما أنزل الله، مضادٌّ لأمر الله، مشاقٌّ لله، يبين الله الآيات للناس ويوضّحها، وهذا يطمسها، فهذا عليه هذا الوعيد الشديد". وأوّل من يدخل في هذه الآية دخولاً أوليّاً ويستحق بموجبها لعن الملائكة: أحبار اليهود ورهبان النصارى ممّن كتموا أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنكروا البيّنات والدلائل المبثوثة في كتبهم، والتي تُبشّر برسول الهدى وتؤكّد بعثته، قال أبو العالية: " نزلت في أهل الكتاب، كتموا صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- ..يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك"، وعلى الرغم من ذلك، فإن عموم الآية يشمل كلّ من اتّصف بهذه الصفة التي استوجبت اللعن، وهي: كتمان العلم، وترك بيان ما أوجب الله بيانه؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر عند علماء الأصول. الصنف الثاني: لعن الملائكة لمن سبّ أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-: الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، هم حواريّوا النبي صلى الله عليه و سلم وأتباعه، مدحهم الله في كتابه، وبالغ في ثنائهم، ووصفهم بأنهم أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم، وبيّن صفتهم كما جاءت في التوراة والإنجيل، والرّضا الإلهي عنهم هو حكمٌ أبديّ لا يمكن أن يتغيّر أو يتبدّل، لأن الله جلّ جلاله لا يُبدّل القول لديه كما أخبر عن نفسه، وهذا الرّضا مذكورٌ في قوله سبحانه: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ، ذلك الفوز العظيم}. (التوبة: 100). وهم النقلة لهذا الدين والمؤتمنون على نقله، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (أصحابي أَمَنَة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) رواه مسلم، وفوق ذلك: هم خير هذه الأمة قاطبةً، بنص الحديث النبوي: (خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم) كما جاء في الصحيحين. وقد صحّ في الخبر أن المجتريء على الصحابة بالشتم أو السب أو الاستنقاص، فهو مستحقٌ للعن الله له، ولعن الملائكة له، جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من سبّ أصحابي، فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين) رواه الطبراني في المعجم الكبير، وفي رواية عن أنس رضي الله عنه، فيها زيادة: (لا يقبل الله له صرفاً، ولا عدلاً يوم القيامة) رواها أبوبكر بن الخلال في كتابة "السنّة"، وقد قيل في معنى الصرف والعدل: "لا تقبل فريضته، ولا نافلته". ويبدو للناظر عند التأمّل في هذا الحديث، وفي مجموع الأدلّة التي جاءت تمدح هذا الجيل الربّاني الفريد، أن أسباب استحقاق من طعن في عدالة الصحابة أو في دينهم تعود إلى أحد سببين: أوّلهما: أن الله جلّ جلاله، قد بالغ في ثنائهم ومدحهم، كذلك الرسول –صلى الله عليه وسلم-، فقد تكاثرت عنه النصوص في تعداد فضائلهم جملة وتفصيلاً، فمن أعرض عن ذلك كلّه ثم بادر إلى سبّهم واستنقاصهم، فلا شك أنه مكذّبٌ لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ومنكرٌ لمقتضى تلك النصوص الصريحة الصحيحة البيّنة التي لا غموض فيها ولا لبس، ومخالفٌ لحكمٍ معلوم من الدين بالضرورة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفارٌ أو فسّاق، وأن هذه الأمة التي هي: {خير أمة أخرجت للناس} (آل عمران: 110)، وخيرُها هو القرن الأول، ومضمونها –يعني مضمون سب الصحابة- أن هذه الأمة شرّ الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارُها. وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام "، وهذا يفسّر ما نُقل عن جمعٍ من العلماء بكفر من سبّ الصحابة رضوان الله عليهم. ثانيهما: أننا ما علمنا شيئاً من الدين إلا من خلال الصحابة رضوان الله عليهم، فهم نقلةُ الدين وحاملوه إلى من بعدهم، فيكون الطعن في الصحابة طعنٌ في الدين الذي نقلوه لنا، قال الإمام أبو زرعة في هذا المعنى: " إذا رأيت الرجل يطعن في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن القرآن عندنا حقٌّ والسنة عندنا حق، وإنما نقل لنا القرآن والسنن أصحابُ محمد -صلى الله عليه وسلم- وهؤلاء يريدون أن يَجْرحوا شُهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى". الصنف الثالث: لعن الملائكة لمن أحدث حدثاً، أو آوى محُدثاً: عن أنس رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: (من أحدَثَ حَدَثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) رواه البخاري، وجاء في سنن أبي داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (من أحدث حَدَثاً، أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، فاللعن هنا يترتّب على مسألتين: الأولى: إحداث الحَدَث، وله عدّة معانٍ يحتملها اللفظ لغة ، منها: الابتداع في دين الله ما لم يأذن به الشارع، ومنها: الإحداث في أمور الدنيا، من الجرائم ونحوها، وقد جاء في روايةٍ ذكرها الإمام ابن بطّة في (الإبانة)، عن زيد بن أسلم رضي الله عنه، وفيها: قالوا: يا رسول الله، وما الحدث؟ فقال –صلى الله عليه وسلم-: (بدعةٌ تغيّر سنّة، أو مُثْلةٌ تغيّر قَوَداً، أو نُهبَةٌ تغيّر حقّاً) ومعنى قوله: (مُثْلةٌ تغيّر قَوَداً ) الخروج في العقوبات عن حدود الشريعة، وهي هنا: القصاص، ومعنى قوله: (نُهبَةٌ تغيّر حقّاً) وهو أخذ المال على وجه المغالبة، فكلّ هذه المعاني، تُذكر في مسألة إحداث الحدث. الثاني: إيواء المُحدث، ويشمل ذلك المبتدع في دين الله تعالى، أو إيواء الجاني ونصرته والدفاع عنه، ومنعهِ من خصمه، ومن دخل في المسألتين السابقتين فهو ملعونٌ من الملائكة على لسان الشريعة. الصنف الرابع: لعن الملائكة لمن يشير بحديدةٍ إلى أخيه: الأخوّة الإسلاميّة رابطةٌ متينةٌ يحرص الإسلام على بقائها متماسكةً قويّة، فهي مطلبٌ أعلى يتوج بعدد من الآداب السامية التي تُحافظ عليه، وتعزّز منه، وتزيده صلابةً ومتانة، فلا غرابةَ أن نرى النهي عن أيّ عملٍ أو قول أو سلوكٍ قد يُهدّد أو يكون سبباً في توهين هذه الرابطة. من هنا نُدرك، أن ما يقوم به البعض من إخافة أخيه وترويعه، بغض النظر عن مستوى ذلك الترويع أو مبعثه (الجد-الهزل) هو سلوكٌ مشين، يستوجب الذمّ والملامة، لا، بل يستوجب لعن الملائكة لمن اقترفه، فلا يكون ذلك التخويف مجرّد ذنبٍ أو لمم، بل هو كبيرةٌ من الكبائر التي تستوجب التوبة النصوح، ولا أدلّ على ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-: (من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه، حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه) رواه مسلم. إن الحديث يشير إلى ما يقوم به بعض الناس من تناول بعض الأسلحة أو الأدوات التي تقتل أو تُؤذي، فيتعامل معها باستخفاف بما قد يُهدّد سلامية الآخرين وأمنهم، خصوصاً وأن كثيراً من الجنايات التي تقع في الواقع إنما للخطأ فيها النصيب الأكبر، وصاحب الخطأ هنا غير معذور، بل هو مذموم بكلِّ وجه، وقد ورد في السنّة ما يفيد تحريم هذا الترويع للمسلمين، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً) رواه أبو داود في سننه. وقد فهم العلماء تعدّي هذا السلوك لمنزلة الصغائر، ودخوله في دائرة الكبائر، حتى ولو كان بقصد المزاح، قال النووي رحمه الله : " فيه تأكيد حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه، والتعرّض له بما قد يؤذيه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وإن كان أخاه لأبيه وأمه) مبالغةٌ في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواءٌ من يُتّهم فيه، ومن لا يُتّهم، وسواءٌ كان هذا هزلاً ولعباً أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال". وبمثْلِه قال الحافظ زين الدين العراقي: "فيه النهي عن الإشارة إلى المسلم بالسلاح، وهو نهي تحريم، فإن في الرواية الأخرى: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه)، ولعن الملائكة لا يكون إلا بحق، ولا يستحق اللعن إلا فاعل المحرم، ولا فرق في ذلك بين أن يكون على سبيل الجد أو الهزل". ومما سبق ندرك أن العلّة في النهي عن إشهار السلاح وما دونه مما قد يؤذي، لأجل مسألة الترويع والإخافة، وقد زادت نصوصٌ أخرى علّةً أخرى، أفادت باب الاحتياط والحماية في مثل هذه الأدوات المؤذية، فلا يأمنُ أحدٌ أن تخرج هذه الحديدة عن سيطرته فتؤذي أخاه دون قصد، وفي هذا المعنى جاء حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار) رواه مسلم، والمعنى كما يقول الحافظ ابن حجر: "يُغري بينهم، حتى يضرب أحدهما الآخر بسلاحه، فيحقق الشيطان ضربته له". ولأنّ الأمر خطيرٌ، ومستوجبٌ لعن الملائكة، حرص النبي –صلى الله عليه وسلم- على تعليم أصحابه الآداب المُقتضية للسلامة والحرص عند تناول الأشياء المؤذية، فقد حدّث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: "مر رجل بسهامٍ في المسجد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أمسك بنصالها) متفق عليه، والنصلُ هو رأس السهم، وروى جابرٌ أيضاً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ بقومٍ في مجلس يسلّون سيفاً يتعاطونه بينهم غير مغمود –أي: ليس في جِرَابه وحافظته-، فقال: (ألم أزجركم عن هذا؟ فإذا سلّ أحدكم السيف فليغمده، ثم ليعطِهِ أخاه) رواه أحمد، وسلّ السيف: إخراجه من غِمْده. وينبغي للمتساهلين في دماء الناس وأعراضهم وممتلكاتهم أن يهزّهم هذا الحديث هزّاً، فإذا كان من يشير بيده بحديدة –وقد لا تكون مخصّصةً أو مستعملةً بالأساس للإيذاء-، مجرّد الإشارة، مستحقّاً للعن، فكيف بمن يُشير بسلاحه إلى أخيه وهو جادٌ، أم كيف بمن يصيب إخوانه عن قصدٍ وتعمّد؟ الصنف الخامس: لعن الملائكة لمن نقض عهد مسلم من صفات المسلم الأصيلة: الأمانة، بل هي من مقتضيات الإيمان الكُبرى؛ ومن دلائلها الواضحة، ولو لم تكن ذلك، ما كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يُكثر من التذكير بها، والتحذير من الإخلال بها، ذلك ما علمناه من شهادة أنس بن مالك رضي الله عنه حين قال: ما خطبنا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلا قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد. والغدرُ في الأمان الذي يُعطَى لأهل الكفر موجبٌ للّعنة الشاملة من الخالق ومن الخلق، بما فيهم الملائكة الكرام، ورد في ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفَرَ مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبلُ منه صرفٌ، ولا عدل) رواه البخاري ومسلم، ومعنى قوله: (أخفر مسلماً) أي: نقض أمانه وعهده. والحديث أوّل ما يتوجّه إلى نقض الأمان الذي يُعطيه أحدُ المسلمين لأيٍّ من المشركين، سواءٌ كان صاحبُه من أهل الذمّة من اليهود والنصارى أم كان من غيرهم، وبغض النظر عمّن قام بإعطاء هذا الأمان؛ لأن ذمّة المسلمين وعهدهم وأمانتهم واحدة، لا فرق بين مراتبهم ومنازلهم وأجناسهم في ذلك، وإجارة فردٌ من المسلمين لأحدٍ كأنها صكّ أمانٍ ناله من الأمة الإسلاميّة كلّها، لا يحقّ لأحدٍ أن يمسّ ذلك المؤتمن بسوء، ومن تعرّض لكافرٍ أمّنه مسلم فقد ارتكب أعظم الموبقات، فاستحقّ لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومما ورد بذلك في معناه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا من قتل نفسا معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أَخْفر بذمة الله؛ فلا يَرُحْ رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً) رواه الترمذي، ومعلومٌ أن المطرود من الجنّة لا يصيب ريحها الطيّب، فهو من باب التغليظ على صاحبها والتشديد عليه. والغدر: نقض العهد، وترك الوفاء به، ويُعتبر مسلكاً نفاقيّاً خطيراً جاء التحذير منه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أربعٌ من كُنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهنّ، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: -وذكر منها- إذا عاهد غدر) متفق عليه، وجاءت السنّة صراحةً لتبيّن فداحة هذا الخلق الذميم، وأنّه يُعدّ من الكبائر، حتى صار صاحبها خصيماً لله جلّ جلاله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (قال الله عز وجل :ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي، ثم غدر) رواه البخاري. الصنف السادس: لعن الملائكة للعبد الذي يوالي غير سيّده لا نعمة تعدل نعمة الحريّة، والمملوك مسلوبٌ لهذه الحريّة التي تمنعه من الحقوق التي يتمتّع بها الأحرار، فكان ولاء العبدِ لمن أعتقه؛ اعترافاً له بالجميل الذي امتنّ به مالكه عليه حين أخرجه من عالم العبوديّة والاسترقاق، إلى عوالم الحريّة والعزّة والسيادة. ومن الطبيعي أن يحفظ العبدُ لسيّده هذه النعمة العظيمة التي أسداها إليه بعتقه، فكيف بمن أضربَ صفحاً عن المنعمِ عليه، ثم ذهب ينتسب إلى غيره ويواليه؟ هل هناك كفرٌ للنعمة أعظم من هذه الحال؟ لأجل ذلك استحقّ العبدُ الناكرُ لمعروف سيّده الذي أعتقه اللعنة جاء في حديث علي رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم: (من والى قوما بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) متفق عليه. الصنف السابع: لعن الملائكة لمن انتسب إلى غير أبيه كذلك هي مذكورةٌ في حديث علي رضي الله عنه السابق، وفيه: (ومن ادعى إلى غير أبيه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً، ولا عدلاً)، فالحديث –كما يقول الإمام النووي- صريح في تغليظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه لما فيه من كفر النعمة، وتضييع حقوق الإرث والولاء، مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق. وبهذا المعنى جاء حديث سعد بن مالك رضي الله عنه، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (من ادّعى إلى غير أبيه، وهو يعلم، فالجنة عليه حرام) رواه البخاري. الصنف الثامن: لعن الملائكة للمرأة الممتنعة عن فراش زوجها قوام الزواج ومبناه على الألفة والمحبّة، والتواصل والتراحم، والمعاشرة الحسنة بالمعروف، وإعطاء كلّ ذي حقٍّ من الزوجين حقّه للآخر، كما قال الله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (البقرة: 228)، وفي هذا الإطار يكون امتناع الزوجة عن موافقة زوجها في طلب الفراش أمراً مستنكراً شرعاً، مستقبحاً عُرفاً؛ إذ أنه المقصود الأوّل للحياة الزوجيّة، والسبب الأوحد في دوام الذريّة، ولعظم هذه العلاقة من جهة، وعظم حقّ الزوج وضعفه أمام فتنة النساء، كانت المرأة الممتنعة عن حقّ زوجها مستوجبةً للعنة الملائكة لها. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تُصبح) متفق عليه، وفي روايةٍ أخرى: (إذا باتت المرأة هاجرة لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، أو تراجِع) وهي في سنن أبي داود، والشكّ منه. ومن مقتضيات العشرة بالمعروف: المبيت في فراش الزوجيّة، والقيام بحق الزوج، حيث لا يجوز لها ترك ذلك إلا لمانعٍ أو عذر شرعي، فإن فعلت ذلك، كانت مستحقّةً للعن الملائكة لها حتى تًصبح، أو تتراجع عن فعلها ذلك، بل تستحق ما هو أعظم من ذلك: سخط الرحمن عليها، حتى يرضى عنها زوجها، وجاء ذلك صريحاً في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها) فإذا كانت الأحاديث السابقة تعلّق اللعن بوقت الصباح، أو بعودتها عن ذنبها، فإن هذا الحديث علّق السخط الإلهي برضا الزوج، وقد يكون ذلك قبل طلوع الفجر، وقد يكون بعده، وربما يكون أكثر من ذلك، فسخط الزوج يوجب سخط الرب، وليس هناك امرأةٌ عاقلةٌ ترضى ببقائها في دائرة السخط الإلهي حتى يرضى عنها زوجها. الصنف الثامن: لعن الملائكة لمن يحولون دون تنفيذ شرع الله تعالى لا شكّ أن الله تعالى قد أنزل الكتاب ليكون حاكماً على الناس بالقسط: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (الناساء:105)، ومما جاء في أحكام الحدود وجوب اللعنة على من تعدّى على مسلمٍ فسفك دمه دون وجه حق، وهذا الحكم مذكورٌ في قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيماً} (النساء:93). إذا استحضرنا التوطئة السابقة، أمكننا فهم الحالة التي ورد فيها لعن الملائكة، جاءت –في أصل سياقها- في حديثٍ يبيّن حكماً شرعيّاً خاصّاً يتعلّق بالحدود، وهي حالة القتل التي تحدث حين يتخاصم الناس فيقتتلون، فيموت أحدهم دون أن يُدرى من الذي باشر قتله فيُطالب بالدية، فيُحكم بالدية على المجموعة، أما إذا عُرف القاتل فيُحكم عليه بالقتل قصاصاً، إلا أن يرضى أولياء الدم بالدية، أو يُصدرون عفوهم عنه، واستحقاق القاتل المتعمّد للقتل دون الاستثنائين السابقين –أي العفو أو الدية- أمرٌ نافذٌ لا يجوز التحايل عليه أو منعه بأيّ وجه، فمن سعى إلى عرقلة تنفيذ الحكم على القاتل، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال بعد أن ذكر حالة جهالة القاتل: (..ومن قَتَل عمداً فَقَودُ يديه، فمن حال بينه وبينه –بين القتل والقصاص- فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين) رواه أبو داود، ومعنى: (فقودُ يديه) أي يُقتصُّ منه بما جنتْ يدُهُ عمداً. إذن فهي تسعةُ أصنافٍ من الناس، استحقّ كل واحدٍ منها لعنة الملائكة، بسبب ما اقترفه من المعاصي المستوجبة لتلك اللعنة، ونحن ندرك هنا أن هذا اللعن الصادر من الملائكة إنما هو بأمرِ الله لها، وبيان الرب لاستحقاق أصحابها لها، فالملائكةُ لا يفعلون إلا ما يؤمرون، نسأل الله تعالى أن يجرينا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
-
من الآيات التي توضح موقف المؤمنين الأتقياء مما يعتريهم من شؤون هذه الحياة الدنيا قوله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (الأعراف:201)، فالآية تخبر عن المتقين من عباد الله، الذين أطاعوه فيما أمر، وتركوا ما عنه زجر، أنهم إذا وسوس لهم شياطين الإنس والجن، تذكروا عقاب الله وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا، واستعاذوا بالله، ورجعوا إليه من قريب، وقد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه؛ إذ هم في مواجهة ما ينتابهم من وساوس الإنس والجن لا ملجأ لهم إلا إلى الله، فهو العاصم لهم مما يراد بهم، وهو المسدد خطاهم إلى الصراط القويم. ولنا مع هذه الآية الوقفات التالية: الوقفة الأولى: قرأ جمهور القراء {طائف} وقرأ آخرون (طيف)، وهما قراءتان متواترتان، قال النحاس: معنى (طيف) في اللغة ما يتخيل في القلب، أو يُرى في النوم، وكذا معنى (طائف). وقيل: الطيف والطائف معنيان مختلفان، فالأول: التخيل. والثاني: الشيطان نفسه. وقد روي عن مجاهد أن (الطيف) هو الغضب. قال القرطبي: "ويسمى الجنون، والغضب، والوسوسة طيفاً؛ لأنه لمة من الشيطان، تشبه بلمة الخيال". وأطلق (الطائف) هنا على الخاطر الذي يخطر في النفس، يبعث على فعل شيء نهى الله عن فعله، شبه ذلك الخاطر في مبدأ جولانه في النفس بحلول الطائف قبل أن يستقر. الوقفة الثانية: قوله سبحانه: {إذا مسهم} (المس) في أصل اللغة كاللمس، ومما يفترقان فيه أن (المس) يقال في كل ما ينال الإنسان من شر، وأذى بخلاف (اللمس). وقد ذُكر (المس) في القرآن في مواضع: مس الضر، والضراء، والبأساء، والسوء، والشر، والعذاب، والكبر، والقرح، واللغوب، والشيطان، وطائف الشيطان، ولم يذكر فيه مس الخير والنفع إلا في قوله سبحانه: {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين} (المعارج:19-22)، فقد ذُكر {الخير} هنا في مقابلة {الشر}، ولكن المقام مقام منع الخير لا فعله، واستعمل (المس) و(المسيس) بمعنى الجماع، وهو مجاز مشهور كاستعماله في الجنون مجازاً. الوقفة الثالثة: هذه الآية سُبقت بآية تأمر بالتعوذ من الشيطان، وهي قوله تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} (الأعراف:200)، وجاءت الآية التي معنا بمنـزلة التعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان، إذا أحس بوسوسته؛ ولذلك افتتحت بـ {إن} التي هي لمجرد الاهتمام. فيكون الغرض من الأمر بالاستعاذة بالله مجاهدةَ الشيطان، والتيقظ لكيده، وأن ذلك التيقظ سنة المتقين، ومنهج السلف الصالحين. فالآية تأكيد وتقرير لما قبلها من وجوب الاستعاذة بالله تعالى، عند وسوسة الشيطان، وأن المتقين هذه عادتهم. قال ابن عاشور: "ولعل الله ادخر خصوصية الاستعاذة لهذه الأمة، فكثر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان، وكثر ذلك في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، كما ادخر لنا يوم الجمعة". الوقفة الرابعة: التعبير بأداة الشرط {إذا} والفعل {مسهم} في قوله سبحانه: {إذا مسهم طائف من الشيطان} إشارة إلى أن الفزع إلى الله من الشيطان، عند ابتداء إلمام الخواطر الشيطانية بالنفس؛ لأن تلك الخواطر إذا أُمهلت، لم تلبث أن تصير عزماً، ثم عملاً. الوقفة الخامسة: قوله تعالى: {تذكروا} المراد: تذكروا أوامر الله ووصاياه، كقوله: سبحانه: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} (آل عمران:135)، ويشمل التذكر تذكر الاستعاذة. فـ (التذكر) يعم سائر أحوال التذكر للمأمورات. الوقفة السادسة: قوله تعالى: {فإذا هم مبصرون} (الإبصار) هنا هو يقظة الضمير، وقوة الوجدان، وسيطرة النفس على أهوائها، وشبهت هذه الحال بالبصر الدائم المستمر، الحارس على النفس أن تنفعل لداعي الشيطان. قال ابن عاشور: "استعير (الإبصار) للاهتداء، كما يستعار ضده العمى للضلال، أي: فإذا هم مهتدون ناجون من تضليل الشيطان؛ لأن الشيطان أراد إضلالهم، فسَلِمُوا من ذلك. ووَصْفُهم باسم الفاعل {مبصرون} دون الفعل (يبصرون) للدلالة على أن (الإبصار) ثابت لهم من قبل، وليس شيئاً متجدداً، ولذلك أخبر عنهم بالجملة الاسمية {هم مبصرون} الدالة على الدوام والثبات. الوقفة السابعة: أفادت الآية الكريمة أن ذكر الله تعالى يُبَصِّر القلب بعماه إذا ضل، وما ضل الذين ضلوا إلا بتركهم لذكر الله، وأن المؤمنين الصادقين في إيمانهم لا تتمكن منهم وساوس الشيطان؛ لأنهم جعلوا وقاية لأنفسهم من خوف الله، والحرص على طاعته، فلا سبيل له إليهم، كما قال تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} فإذا ما نزغ الشيطان في قلوبهم، فوسوس لهم، أو سوَّل لهم فعل ما نهى الله عنه، فسرعان ما يستيقظ وجدانهم العامر بتقوى الله تعالى، فيتذكرون الله، ويرجون ثوابه، ويخافون عقابه، فإذا غشاوة الشيطان تزول عنهم، ويرجعون إلى ربهم، وينقلب الشيطان خاسئاً وهو حسير. الوقفة الثامنة: التعبير باسم الموصول {الذين} من قوله تعالى: {إن الذين اتقوا} يفيد أن الباعث على ذكر الله تعالى، وحضوره في القلب واستيلائه على الإحساس والشعور بالواجب منشؤه التقوى. ويفيد هذا التصدير في الآية أن أهل التقوى لا يكونون بعيدين من ربهم، بل هم على مقربة منه، قلوبهم عامرة بذكره، فإن أصابتهم غمزة، فغفلوا، فسرعان ما يتنبهون، وسرعان ما يبصرون، وسرعان ما يرجعون. الوقفة التاسعة: تفيد الآية الكريمة أن وسوسة الشيطان إنما تأخذ الغافلين عن أنفسهم، لا يحاسبونها على خواطرها، الغافلين عن ربهم، لا يراقبونه في أهوائها وأعمالها. وأنه لا شيء أقوى على طرد الشيطان ودحره من ذكر الله تعالى، ومراقبته في السر والجهر، فذكر الله تعالى بأي نوع من أنواعه يقوي في النفس حب الحق ودواعي الخير، ويضعف فيها الميل إلى الباطل والشر، حتى لا يكون للشيطان مدخل إليها، فهو إنما يزين لها بالباطل والشر بقدر استعدادها لأي نوع منهما. فإن وجد بالغفلة مدخلاً إلى قلب المؤمن المتقي، لا يلبث أن يشعر به; لأنه غريب عن نفسه، ومتى شعر ذكر فأبصر، فخنس الشيطان، وابتعد عنه، وإن أصاب منه غرة قبل تذكره، تاب من قريب. الوقفة العاشرة: أن مثل المؤمن في عدم تمكن الشيطان من إغوائه، وإن تمكن من مسه، كمثل المرء الصحيح المزاج، القوي الجسم، النظيف الثوب، والبدن، والمكان، لا تجد الأمراض المفسدة للصحة استعداداً لإفساد مزاجه، وإصابته بالأمراض، فهي تظل بعيدة عنه، فإن مسه شيء منها بدخوله في معدته، أو دمه، كان ما لديه من أجهزة المناعة ما يكفي لصدها، وردها، ودحرها، والقضاء عليها. وكذلك يكون قوي الروح بالإيمان والتقوى غير مستعد لتأثير الشيطان في نفسه، فهو يطوف بها، يراقب غفلتها، فلا يلبث أن تتصدى له أجهزة المناعة لديه بالتذكر والأوبة والانتباه لهذا الدخيل. الوقفة الحادية عشرة: أن الإنسان يشعر بقدر علمه بتنازع دواعي الخير والشر والحق والباطل في نفسه، وأن لداعية الحق والخير مَلَكاً يقويها، ولداعية الباطل والشر شيطاناً يقويها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا: (إن للشيطان لِمَّة بابن آدم، وللمَلَك لِمَّة: فأما لِمَّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لِمَّة المَلَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى، فليتعوذ من الشيطان) ثم قرأ: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} (البقرة:268) رواه الترمذي، والنسائي في "السنن الكبرى".
-
في كلمة {مَالِكِ} قراءتان: 1) قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بالألف مداً {مَالِكِ}. 2) وقرأ الباقون من القراء العشرة بغير ألف قصراً {مَلِكِ}. المشهدان اللذان تصورانهما القراءتان تصور القراءتان المتواترتان هنا مشهدين جزئيين مختلفين ينسجان لنا صورة واحدة في الشكل الكلي: المشهد الأول: يتجلى من خلال قراءة (ملك يوم الدين) بالقصر: فملك مشتق من الملك، ويفهم منه الآتي: 1) معنى السلطان والقوة والتدبير والحكم والقهر. 2) الملك سبحانه هو المتصرف في أمور العقَلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء، ولهذا يقال: (مَلِكِ النَّاسِ) ولا يقال: (ملك الأشياء) كما روى الطبري عن عبد اللَّه بن عباسٍ: {مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ} يقول: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا. ثم قَال: {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} وقَال: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}، وقال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}، فهو يملك الحكم بينهم وفصل القَضاء متفردًا به دون سائر خلقه. ويبين الطبري وغيره من المفسرين جمال المعنى هنا؛ إذ يشهد المستمع لقراءة (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مشهد إخلاص الملك لله يوم الدين، فلا يوجد من ينازعه الملك أو يدعيه يومئذ كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}(الحج:56)، وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} (الفرقان:26)، وقال: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} (الأنعام:73)، فيكون لِلَّه الملك يوم الدين خالصا دونَ جميع خلقه الذين كانُوا قَبل ذلك في الدنيا ملوكًا جبابرة ينازعونه الملك ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية. فأيقنوا بلقاء اللَّه يوم الدين أَنهم الصغرة الأذلة، وأنَّ له من دونهم ودون غيرهم الملك والكبرياء والْعزَّة والبهاء كما قَال جل ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} قال الطبري: "فأخبر تعالى أَنه المنفرد يومئذ بالملك دون ملوك الدنيا الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلَى ذلة وصغار، ومن دنياهم في المعاد إلَى خسار". وفي البخاري أن أبا هريرة قَال: سمعت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض). وفي البخاري عن عبد الله بن أنيس قَال: سَمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوتٍ يسمعه من بعد كما يسمعه من قَرب أنا الملك أنا الديان). وفي مسلم عن عبد اللَّه بن عمر قَال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يطوى الله عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوى الأرضين بشماله ثُم يقول أنا الْملك أين الجبارون أين المتكبرون»، وعند أحمد وابن حبان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات يوما على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، ورسول الله يقول هكذا بإصبعه يحركها يمجد الرب جل وعلا نفسه، (أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم أنا المتعال)، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرن به. وأما في الدنيا فهو الملك سبحانه يحكم ما يريد، ويرفع من تقرب إليه من العبيد، ولذا جاء في مسلم عن أبِى هريرةَ عن رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ينزل اللّه إلَى السماء الدنيا كل ليلةٍ حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذى يدعونى فَأستجِيب له من ذا الذى يسألنى فَأعطيه من ذا الذى يستغفرنى فَأغفر له فلا يزال كذلك حتى يضىء الفجر». ولذا فهو الملك الحق كما قال سبحانه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (المؤمنون: 116)، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (الحشر: 23)، لأن ملك ملوك الأرض إلى زوال عنهم ثم إلى زوال عمن ورثهم. المشهد الثاني: تدل عليه قراءة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة:4) بالمد مشتقة من الملك، وتدل على المعاني الآتية: 1) ملك الأعيان: سواء أكانوا بشرا أم غيرهم كالحيوان والأشياء الأخرى، فكلمة {مَلِكِ} لا تدل على أنه مالك دلالة مطلقة؛ إذ يقال: ملك العرب، وملك الروم، وإن كان لا يملكهم، بل يحكم بينهم، ويتولى أمرهم، ولكن مالك تدل على التصرف المطلق، فهو يملك أعيانهم، ولذا يقال: فلان مالك الدراهم، ولا يقال: ملك الدراهم، والله تعالى مالك كل شيء. 2) القدرة على التصرف في مملوكاته، فهو لا يحكم فقط بل يملك الأعيان والأشياء، والْملك هو الذي يدبر أعمال رعيته الْعامةَ ، ولا تصرف له بشيءٍ من شئونهم الخاصة ، والمالك سلطته أعم، فلا ريب أنَّ مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون سلطانه. فالملك مُلكه أعم وأقوى من المالك، والمالك تصرفه أقوى وأشمل. فاستفدنا من القراءة الأولى: {مَلِكِ} أنه الحاكم فلا يوجد من ينازعه أو حتى يدعي الملك في ذلك اليوم أما في الدنيا فاسم الملك قد يطلقه البشر على بعضهم، والله مكنهم من هذا ابتلاء واختبارا. واستفدنا من قراءة مالك أنه مع ملكه عليهم فإنه يملك التصرف بهم والتسلط عليهم... والسؤال: هل يمكن أن يكون أحدٌ ملكاً دون أن يكون مالكا؟ والجواب: نعم فالملك قد يكون ملكاً دون أن يكون مالكا –خلافا للطبري رحمه الله- فإن بعض ملوك الدنيا اليوم لهم الاسم الشرفي دون التصرف والحكم كملوك بريطانيا وغيرها، وكما كان عليه الحال في ملوك العباسيين حين ضعف أمرهم حتى قال فيهم القائل في أحد ملوك بني العباس الذي كان له اسم الخلافة (أي الملكية)، لكن دون قدرة على التصرف، لأن قائدي جيشه وصيف وبغا هما اللذان يتصرفان في حكمه-كما في الوافي بالوفيات-: خليفة في قفص ... بين وصيف وبغا يقول ما قالا له ... كمـا تقول البـبغا فـ (مالك) يفيد مملوكاً، و(ملك) لا يفيد ذلك، ولكنه يفيد الأمر وسعة المقدرة، وكلا اللفظين أوسع من الآخر في شيء: - فالملك بالفتح وكسر اللام أدل على التعظيم بالنسبة إلى المالك؛ لأن الملك يسوس العقلاء المأمورين بالأمر والنهي، وذلك أرفع وأشرف من التصرف في الأعيان المملوكة. - والملك أعلى شأنا من المالك من هذه الحيثية. - ولكن المالك أوسع لشموله لغير العقلاء أيضاً. - إلا أن الملك أبلغ لدلالته على القوة القاهرة والمالك أكثر إحاطة وتصرفاً من الملك. والله هو المالك الملك وهو الذي يملك الملك {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران:26)ولذا قال المباركفوري في تحفة الأحوذي في وصف {مَالِكَ الْمُلْكِ}: "أي الذي تنفذ مشيئته فِي ملكه يجري الأمور فيه على ما يشاء أو الذي له التصرف المطلق". اجتماع المشهدين لتكوين الصورة الكلية: يجتمع المشهدان معاً على تكوين المشهد الرائع العظيم الذي يظهر منه أن الله تعالى هو ملك ذلك اليوم الحاكم فيه القادر الذي غلبت قدرته كل شيء، القاهر الذي قهر بسلطانه كل شيء، المتكبر الذي خضع لكبريائه كل شيء فلا ينازعه أحد في ذلك ولو ادعاء كما كان الخلق يعطون هذا الخيار في الدنيا، كما أن الله تعالى أيضاً مالك ذلك اليوم المتصرف في أعيان عبيده من خلقه جميعاً {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا*لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا*وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (مريم:93-95). فهو يحكم بينهم حكم الملك ويتصرف فيهم تصرف المالك يصنع بهم ما شاء كيف شاء، لكن المؤمنين يرجون رحمته وفضله في ذلك اليوم، وهنا نستحضر قصة هارون الرشيد لما حضرته الوفاة وعاين السكرات صاح بقواده وحجابه:- اجمعوا جيوشي فجاؤوا بهم بسيوفهم، ودروعهم لا يكاد يحصي عددهم إلا الله كلهم تحت قيادته وأمْره فلما رآهم.. بكى ثم قال:- يا من لا يزول ملكه..ارحم من قد زال ملكه.. خاتمة في تكامل القراءتين: قال السخاوي في كتابه " فتح الوصيد في شرح القصيد" في باب (سورة أم القرآن "وأما من أخذ يفضل بين القراءتين فقال: المالك أعم من الملك لأنه يضاف إلى كل متملك من الدواب والثياب وغيرهما، بخلاف الملك فغلط لأن القراءتين صحيحتان، وليس هذا الاحتجاج بصحيح لأن الله تعالي قد وصف نفسه بالمالك والملك فما وجه هذا الترجيح؟؟ وليس لأحدٍ أن يقول: هذا ولا أن يقول أيضا: ملك أولى من مالك، ويحتج بأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، أو أن الملك من نفذ أمره واتسعت قدرته، والمالك ليس إلا الحائز لشيء، فالوصف بالملك أكمل، هذا كله غلط والكل جائز. وهذا الاحتجاج أيضاً واه في نفسه من جهة أن ذلك إنما يكون لبني آدم فأما الخالق تعالى فهو الملك والمالك، فوصفه بالملك لا يخرجه عن الملك، وملك معدول عن مالك للمبالغة". وانظر: تفسير الطبري، وتفسير القرطبي، وكتاب الكليات لأبى البقاء الكفوى، وتفسير المنار، وغيرها في هذا الموضوع. وتأسيساً على ما تقدم، نرى أنه لا وجه لتفضيل قراءة على أخرى -كما فعل بعض المفسرين-؛ إذ لا يظهر وجه للتفضيل هنا، وكل قراءة تدل على معنى جميل في ذاته. ونختم هذه التأملات الرائعة بما رواه الطبراني في المعجم الكبير عن معاذ بن جبل، أَن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم افتقده يوم الجمعة، فلما صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أتى معاذًا فَقال له: "يا معاذ، ما لي لم أرك؟"، قَال: يا رسول اللَّه، ليهودي علي أوقية من تبر، فخرجت إليك فحبسني عنك، فَقَال لَه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "يا معاذ، أَلا أعلمك دعاءً تدعو به؟ فلو كان عليك من الدين مثل جبل صبرٍ أداه اللَّه عنك وصبِر جبل بِاليمن، فادع به يا معاذ قل: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء بيدك الخير إنك عَلَى كل شيء قَدير، تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي، وَترزق من تشاء بغير حسابٍ رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي من تشاء منهما، وتمنع من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك".
-
هي قيمٌ ثائرةٌ حثّها الأنبياء في وجه الطغيان الشيطاني، والتعنّت البشري؛ ذلك الطغيان الذي حكى ربنا عنه من فوق سبع سماواتٍ، حين خاض فيها الأنبياء وتزعّموا ثوراتٍ بكل ما تحمل الكلمةُ من معنى، فالإسلام نفسه جاء لتحرير الإنسان والجماعاتِ والدُّول من سجن القوميات والديكتاتوريات الطاغوتية العَقدية، إلى عدل التوحيد والشريعة ورحابتهما . لقد سطّر الإسلام أسماءً خالدةً لزعماء هذه الثورات، بدأت بنوحٍ وانتهت بمحمّدٍ – صلوات الله عليهما - ، وبرزت أسماء عديدة بينهما من أمثال : هودٍ و صالحٍ، وإبراهيم، وداود، وسليمان، وشعيبٍ، وموسى، وعيسى ...– صلوات الله عليهم وسلامه-، وآخرون لم تذكرهم النصوص السماويّة، وإن كانت تشهد بآثارهم الأحاديث الشرعية، ومرويّات أقوامهم . وكلهم ولا شكّ لهم مواقفهم الخالدة، في معركة التحرير من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد. إن كلُّ قصّةٍ ثوريّة، تعرض وحدانيةَ الله مقابل تعدد الأصنام والطواغيت، الذين قهروا الناس وعبَّدوهم، واستغلُّوهم، وتُظهر –في المقابل- ما لاقوهُ من الصدود والعصيان، والهجوم والإعراض، فهذه قصّة نوحٍ حين قال تعالى : {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأعراف : 59)؛ وهذا هودٌ : {وإلى عادٍ أخاهم هوداً قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إلا تتقون} (الأعراف : 65) ؛ وهذا صالح قال : {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف : 73) ؛ وهذا شعيبٌ : {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف : 85)، وغيرهم من الأنبياء – صلوات الله عليهم ورحمته – كلهم يبدؤون بجانب العقيدة في ثورتهم على معتقدات القوم، ثم يقرنونها بالأخلاق والمكارم، لكنهم كانوا يعانون من الصدود، فتأمل قول نوح : {والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا * قال نوحٌ رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبّارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وَدّاً وسواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} (نوح : من 19 إلى 23) .فتلك إجابة قومه الذين اتبعوا سيدهم الغني، وفضّلوا عبادة الأصنام على عبادة الله الواحد، وكل نبيٍّ تصارع مع الملأ من قومه حجاجيّاً وفكريا؛ فأجابهُ قومه : {قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين} (الأعراف : 60). وفي قصة موسى قالوا : {قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم} (الأعراف: 109). وأجابوا نبيّ الله هوداً : {قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} (الأعراف : 66 ).. وردّوا على نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم – : {قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} (يونس : 2) . هذا الإعراضُ وهذه الاتهاماتُ عانى منها جميعُ الأنبياء دون استثناء، لأنهم أتوا بالإسلام؛ تلك الثورة التوحيدية التي تُدخل البشرية في عهدٍ جديد، وتنفض غبار الكفر والإلحاد عن أذهان الناس القريبِ منهم والبعيد . أما الصدود فمردُّه إلى عوامل اجتماعيّةٍ ونفسيةٍ، فالإنسان أساس هذا الطغيان؛ حيث أن أباطرة القوم كثيراً ما يرون الأنبياءَ أعداءً لهم، لأنهم مجموعةٌ من المتنوّرين والمصلحين الذين يريدون الخير للناس، وفي فتحِ العيونِ على الحقّ وإرشادهم إلى سبيل الرّشادِ تهديدٌ لأولئك، ولمراكزهم الاجتماعية القائمة على استغفال المستضعفين، ونشر الجهل والخرافاتِ بينهم، وربط الشعوب والأتباع بهم، إلى حد ادعاء الربوبية كما قال فرعونُ : {أنا ربكم الأعلى} (النازعات : 24). " فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: {أنا ربكم الأعلى} (النازعات : 24).. وما كان ليقولها أبدا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء. وإن يسلبه الذباب شيئاً لا يستنقذ من الذباب شيئاً! " (1) وهكذا كلُّ أعداء الأنبياء، يتراوحون ما بين فرض نظرتهم للكون على الناس، أو ادعاء الألوهية الصريحة أو المجازية، فيُبلورون آلياتٍ نفسيةٍ تبريريّةٍ Mécanismes psychologiques apologétiques، كي يرفضوا دعوة الخير، ويصدّون بذلك عن الحق من ربهم، ويفتنون العامة باتّباعهم، فهذا غنيٌّ لا يريد أن يعطي للفقراء من ماله، وذلك كاهنٌ يريد الحفاظ على منزلته الاجتماعية التي تكفلها الخرافات، وذاك ملكٌ يخاف على ملكه من نبيٍّ متَّبعٍ . و الإنسان في الإسلام، حُرّر وكُرّم في ظلّه من كلّ كهنوتٍ دينيٍّ وطاغوتيٍّ، أو سلطةِ الهوى البشري، فالإسلام ليس دعوةً تبشيريةً فحسب، بل إنه حركةٌ اجتماعية سياسيةٌ بها تتحدّدت معالمُ الثورة التاريخية الكبرى. وشمولُه هو الذي جعله يكتسحُ كل أشكال العبودية إلى وقتنا المعاصر . (2). إن الأمّة مطالبةٌ في كل وقتٍ وحينٍ، إلى التّعامل مع كل المذاهب الفكرية الوافدة، والأديان الأخرى القادمة، بمنطق الثورة الفكرية الدينية تلك، وأن تتمسّك في كل وقتٍ وحينٍ بتراث أولئك الأنبياء والمُرسلين، المحفوظ في القرآن والسُّنة جيلاً بعد جيل؛ فالشيطان لن يهنأ له بالٌ، ولن يغمض له جفنٌ مادام على الأرض أمةٌ موحِّدةٌ، وسيستمرُّ بإيفاد البعثات، وتصدير القيم والعادات، عبر الوسائل السمعية البصرية، والكتابات الفكرية، مستخدماً الأَدْلجة (3) كوسيلةٍ ناجعةٍ لغسل الأدمغة، وإخضاع الناس عقليًّا وجسديّاً. هوامش المقال 1- تفسير " في ظلال القرآن " لسيد قطب، تفسير الآية 24 من سورة النازعات. 2- انظر مقالنا الموسوم بـ " مزايا الإسلام على الأديان "، وكذا " الغاية من إبطال الوثنية " على الشبكة الإسلامية " إسلام ويب" . 3- الأدلجة هي مصطلحٌ مشتقٌّ عن الإيديولوجيا Idiologie، وتعني القيام بضخِّ مجموعة من القيم للناس مرتبطةً بمذهب فكريٍّ أو دينيٍّ معين، وهي مرادفةٌ لمصطلح التعبئة الإيديولوجية l'emballage idéologique.
-
خلق الله تبارك وتعالى هذا الكون العظيم وسخره للإنسان لا ليقضى فيه شهواته أو ينعم بلذاته فحسب، ولكن ليعبد الله عز وجل، ويقيم شرع الله في الأرض، يقول تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون *فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} (المؤمنون: 115-116). يقول الطبري: "يقول تعالى ذكره: أفحسبتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم إذ خلقناكم، لعباً وباطلاً، وأنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا تصيرون أحياء، فتجزون بما كنتم في الدنيا تعملون؟" . ويقول الحافظ ابن كثير: "وقوله: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} أي: أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة منكم، ولا حكمة لنا، { وأنكم إلينا لا ترجعون} أي: لا تعودون في الدار الآخرة، كما قال: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } (القيامة: 36)، يعني هملاً. وقوله: {فتعالى الله الملك الحق} أي: تقدَّس أن يخلق شيئاً عبثاً، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك، {لا إله إلا هو رب العرش الكريم}، فذكر العرش؛ لأنه سقف جميع المخلوقات، ووصفه بأنه كريم، أي: حسن المنظر بهي الشكل، كما قال تعالى: {فأنبتنا فيها من كل زوج كريم} (لقمان: 10)" . فالله عزوجل لم يخلق الإنسان عبثاً، بل خلقه لحكمةٍ وغاية، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون*ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون*إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات: 56-58). يقول الشيخالسعدي في تفسيره: "هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم، فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطمعوه، تعالى الله الغني المغني عن الحاجة إلى أحد بوجهٍ من الوجوه، وإنما جميع الخلق، فقراء إليه، في جميع حوائجهم ومطالبهم، الضرورية وغيرها، ولهذا قال: {إن الله هو الرزاق} أي: كثير الرزق، الذي ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، {ذو القوة المتين} أي: الذي له القوة والقدرة كلها، الذي أوجد بها الأجرام العظيمة، السفلية والعلوية، وبها تصرف في الظواهر والبواطن، ونفذت مشيئته في جميع البريات، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يعجزه هارب، ولا يخرج عن سلطانه أحد، ومن قوته، أنه أوصل رزقه إلى جميع العالم، ومن قدرته وقوته، أنه يبعث الأموات بعد ما مزّقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرّقوا وتمزّقوا في مهامه القِفَار، ولجج البحار، فلا يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، فسبحان القوي المتين" . فالغاية من خلق الإنسان هو عبادة الله عز وجل، وهو ما يُعرف بالدين، وحاجة البشر إلى الدين أعظم من حاجتهم إلى ما سواه من ضرورات الحياة؛ لأن الإنسان لا بد له من معرفة مواقع رضى الله عز وجل ومواقع سخطه، ولا بد له من حركةٍ يجلب بها منفعته، وحركةٍ يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفع والتي تضر، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن للناس أن يعيشوا بلا شرعٍ يميزون به بين ما يفعلونه وما يتركونه. ولقد فطر الله تبارك وتعالى الناس منذ القديم على التوجّه إليه عز وجل بالعبادة، وإن انحرفت الفطرة في بعض فترات التاريخ فإنها لا تُنكر وجود الرب عز وجل، ولكنّها تتوجه بهذه العبادة إلى آلهة أخرى من اختراعها سواء أكانت الأصنام في الماضي، أو الطبيعة والعلم في الحاضر، يقول المؤرخ الإغريقي (بلوتارك "قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد". وقد تضافرت الدلائل الشرعية على أن التدين فطرة فطر الله الناس عليها، فمن أدلة الكتاب قول الحق سبحانه: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} (الأعراف:172). ومن أدلة السنة ما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} (الروم: 30) الآية ، فقد اتفقت أدلة الكتاب والسنة على أن التدين جِبِلَّةٌ إنسانية خُلقت مع الإنسان ووجدت بوجوده، إلا أن تنشئة الإنسان وتربيته تؤثر سلبا على جبلة التدين وتنحرف بها عن مسارها الصحيح. وحاجة الإنسان إلى الرب والدين تفوق كل حاجاته الحياتية، ولعل من الدلائل على أن التدين ضرورة إنسانية، ما يحسّه الإنسان في نفسه من ضعفٍ أمام بعض مظاهر قدرة الرب عز وجل، كالرياح العاتية، والبحار الهائجة، والزلازل، والبراكين، فإن الإنسان مهما عظمت قوته، وعظم ذكاؤه، فإنه يبقى ضعيفاً أمام هذه الظواهر التي ابتلى الله بها عباده، فيعلم الإنسان من نفسه أن لا قدرة له على دفعها، أو الاحتراز منها، فمن هنا عظمت حاجة الإنسان إلى إله يلجأ إليه ويتوكل عليه، يقول (أرنست رينان "إن من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبّه، وأن تبطل حريّة استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجّةً ناطقة على بطلان المذهب المادي، الذي يريد أن يحصر الإنسان في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية". ويقول محمد فريد وجدي: "يستحيل أن تتلاشى فكرة التدين، لأنها أرقى ميول النفس وأكرم عواطفها، ناهيك بميل يرفع رأس الإنسان، بل إن هذا الميل سيزداد، ففطرة التدين ستلاحق الإنسان مادام ذا عقل يعقل به الجمال والقبح، وستزداد فيه هذه الفطرة على نسبة علو مداركه ونمو معارفه". ومن الأمور التي لا يجد الإنسان الإجابة الصحيحة عليها إلا في الدين، هي تلك الأسئلة التي حيرت الفلاسفة منذ القديم: من أين؟ وإلى أين؟ ولم؟!. ومهما تشغله مطالب العيش عن هذا التساؤل، فإنه لابد وأن يقف يوماً ليسأل نفسه هذه الأسئلة الخالدة ؟، ولا إجابة شافية على هذه الأسئلة إلا في الإسلام، الذي يعرف الإنسان: إلى أين يسير بعد الحياة والموت؟ إنه يعرفه أن الموت ليس فناءً محضاً، ولا عدماً صرفاً، إنما هو انتقال إلى مرحلةٍ أخرى إلى حياة برزخيّة بعدها نشأةٌ أخرى، تُوفّى فيها كلّ نفس ما كسبت. والدين هو الذي يقول لماذا خُلق الإنسان؟، وما الغاية من وجوده؟، فالإنسان لم يخلق عبثاً، ولم يُترك سُدى، إنما خلق لعبادة الرب عز وجل وإعلاء شرعه الذي جاءت به الرسل. وبهذا الوضوح في الإجابة تستقيم حياة الإنسان وتصلح حال المجتمعات، فيعيش الإنسان في دنياه مطمئنًا مرتبطاً بالله عز وجل وباليوم الآخر، فيعلم أن المحسن سوف يكافأ على إحسانه، بينما يُعاقب المسيء على إساءته، أما الذي يعيش بدون هذه الأجوبة، ويفتقد لهذا الوضوح فهو إنسان شقي محروم، لا يخضع إلا لقوة العصا، ولا يعيش إلا لبريق المال ولذة الشهوة، بل إنه في نظر نفسه مخلوقٌ حيواني، ولا يفترق عن الحيوانات الكبيرة التي تدبّ على الأرض من حوله، إلا إنه "حيوان ناطق" فهو يعيش بدون أن يعرف للحياة هدفًا، إنه يرى في نفسه مخلوق صغير تافه لا وزن له ولا قيمة. وما أقسى حياة إنسانٍ يعيش في جحيم الشك والحيرة، أو في ظلمات العمى والجهل، في أخص ما يخصه: في حقيقة نفسه، وسر وجوده، وغاية حياته، إنه الشقي التعيس حقا، وإن غرق في الذهب والحرير، وأسباب الرفاهية والنعيم، وحمل أرقى الشهادات، وتسلم أعلى الدرجات. ومن الحاجات الهامة التي يلبيها الدين، حاجة الإنسان إلى الاطمئنان النفسي، فإن الإنسان في أشد الاحتياج إلى ركنٍ شديد يأوي إليه، وإلى سندٍ متين يعتمد عليه، فإذا ألمّت به الشدائد، وحلّت بساحته الكوارث، هنا تأتي العقيدة الدينية، لتمنحه القوة عند الضعف، والأمل في ساعة اليأس، والرجاء في لحظة الخوف، والصبر في البأساء والضراء، وحين البأس. ويجسّد هذا الأمر قول الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ يقول: "ما أصبت بمصيبة إلا كان لله علي فيها أربع نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن أكبر منها، وأنني لم أحرم الرضا عند نزولها، وأنني أرجو ثواب الله عليها". أما الذي يعيش في دنياه بغير دين، بغير إيمان، يرجع إليه في أموره كلها وبخاصة إذا ادلهمت الخطوب، وتتابعت الكروب، والتبست على الناس المسالك والدروب، فهو يعيش في نكد وهمّ، يقتله القلق وتدمر حياته الأخبار السيئة، وتمزقه أنباء البورصة وتحركات الأسهم. يقول المؤرخ البريطاني (آرنولد توينبي "الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئاً". ويقول (ديل كارنيجي) في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة": "إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين، كفيلان بأن يقهرا القلق، والتوتر العصبي، وأن يشفيا من هذه الأمراض". كذلك فإن الدين يحقّق للمجتمع التماسك والترابط والصلاح، فمن أهم حاجات المجتمعات حاجتها إلى بواعث وضوابط؛ بواعث تدفع أفراده إلى عمل الخير، وأداء الواجب، وإن لم يوجد من البشر من يراقبهم، أو يكافئهم، وضوابط تحكم علاقاتهم، وتُلزم كل واحد منهم أن يقف عند حدّه، ولا يعتدي على حق غيره أو يفرط في خير مجتمعه من أجل شهوات نفسه، أو منفعته المادية العاجلة، ولا تحقّق القوانين ذلك، بل ما أيسر خرق القوانين لمن لم يكن متدينًا، ولعل من الوقائع في هذا الأمر في القديم والحديث الشيء الكثير، ومن ذلك أن مدينة أمريكية انقطعت فيها الكهرباء لمدة ثماني ساعات فما ترك فيه محلٌّ إلا وسُرق، وما حدث إبان إعصار كاترينا الذي ضرب الساحل الشرقي لأمريكا ليس ببعيد، حيث انتشر النهب والسرقة والاغتصاب بشكلٍ لم يتصوره أحد، ولم يكن ذلك إلا بسبب غياب كاميرات المراقبة فظهرت الأخلاق الأمريكية على حقيقتها، وعن أهمية الدين في ضبط المجتمعات يقول (فولتير "لِمَ تشككون في وجود الله، ولولاه لخانتني زوجتي، وسرقني خادمي"، ويقول (بلوتارك "إن مدينة بلا أرض تقوم عليها، أسهل من قيام دولة بلا إله". لذلك فإنه لا يوجد على وجه الأرض قوةٌ تكافئ قوة التدين أو تدانيها في كفالة احترام القانون، وضمان تماسك المجتمع واستقرار نظامه، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه. ولذلك فإنه مهما استعلنت المذاهب المادية الإلحادية وتزخرفت، ومهما تعددت الأفكار والنظريات، فلن تُغني الأفراد والمجتمعات عن الأنبياء، ولن تستطيع أن تلبّي متطلبات الروح والجسد، بل كلما توغل الفرد فيها أيقن تمام اليقين أنها لا تمنحه آمنا ، ولا تروي له ظمأ ، وألا مهرب منها إلا إلى الدين الصحيح.
-
في ثنايا الكتاب العزيز تمرّ بك وأنت مطوّفٌ به لوامعُ من أسماء الأدلة أو تصاريف منها : برهان، حجة، بيّنة ،بينات، سلطان، آية، آيات، مَثَل ،..إلخ وتلوح فيه وأنت تغذُّ سيرَك في رحابه بوارقُ تحفّز الإنسان إلى إعمال هذا العقل!: تعقلون، يعقلون، تتفكرون، يتدبرون، تتذكرون، تبصرون، أولي النهى، أولو الألباب، إلخ إن القاري لهذا الكتاب وإن يكُ غريبًا عنه تأخذ بلبِّه روعة الجمال في صورةٍ بهيةٍ من الجلال يجد في نفسه منها شعورًا لا مدفع له أنه بين يدي بيانٍ إلهيٍّ آسِر مفعم بالحجاج فيّاض بلهجة الثقة المطلقة، فهو ليس أخبارًا محضةً وأقاصيص، ولا مقطوعةً أدبيةً فاخرة أريد لها أن تُطرِب، بل هو فوق ذلك بنيان من الحكمة مرصوص، ينبيك أن رسالة هذا الدين العظيم أسِّست على قواعد من الدلائل عصيّة على الفتّ، حتى بلغ في القوة شأوًا كان من شأنه أن يضمّن الله رسالته الخالدة هذا الإعلان: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}! (البقرة :111)!. لَبِنات هذا القصر المشيد :آياتُه، ومِلاطُها: بلاغتُه.. التي لا عِدل لها: {كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير} (هود : 1 ) لعل من الملائم أن نلتمس شيئا من الحِكَم من وراء اختيار الله جل ثناؤه لهذه المفردات المنتقاة أسماءً لوصف الأدلة، وإليك بعض المستَعمل في القرآن من معاني إقامة الدليل، على وجهٍ مفصّل، ولكنّ ثمرات التدبر منها باستقراء محالّها في القرآن ثم بحثها يطول تفصيله، وحسبي هنا إشارات خاطفة: الحجة: بعد أن بيّن عالم اللغة ابن فارس أن مادة الحج تعني فيما تعني :القصد، قال: "ممكن أن يكون الحُجة مشتقّةً من هذا؛ لأنها تُقْصَد، أو بها يُقْصَد الحقُّ المطلوب. يقال: حاججت فلاناً فحججْته، أي: غلبتُه بالحجة، وذلك الظّفرُ يكون عند الخصومة" (1)، وقال الراغب في مفرداته: "الحجّة: الدلالة المبينة للمحَجّة "(2) . ولنتأمل بعض مواردها في القرآن: {قل فلله الحجة البالغة} (الأنعام :149) مقابلًا به {حجتهم داحضة} (الشورى : 16) وقال جلّ ثناؤه في بيان قيام الحجّة الرساليّة القاطعة لأي عذر لمن بلغته: {رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء: 165)، وفي سياق الحديث عن تحويل القبلة استثنى الذين ظلموا: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا} (البقرة :150)، تحصّل من ذلك : أن الحجة في الاستعمال القرآني، الأصل فيها : الدلالة المبينة للطريق المستقيم: وسمّى ما يحتج بها الكافرون حجّة من جهة كونه مستدلًا به عندهم، فهو طريق محجوج: أي مقصود، وإن كان هذا الطريق فاسدًا، وأن موقعها في الغالب في موارد الخصومة بين الآراء، ثم قيام الحجة لا يشترط فيه أن يسلّم الخصم فقد يكون جاحدًا مكابرًا. البرهان: وهو الحُجّة الفاصلة البيّنة (3) وقال الليث : الحجة وإيضاحها (4) وذكر الله البرهان في موضع بيان ثبوت الحق، فقال {قد جاءكم برهان من ربكم} (النساء : 174) كما ذكره في سياق استنهاض الكفار أن يدللوا على دعاويهم بالدليل الصادق: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة : 111)، فالبرهان فيه معنى إقامة دليل الصدق أو الحق على وجه مسفر. البيّنة: ما يكون الشيء به مستبينًا، أي: منكشفًا ظاهرًا، {قال إني على بينة من ربي} (الأنعام : 57) {أولم تأتهم بيّنة مافي الصحف الأولى} (طه : 133) , {وجاءتهم رسلهم بالبينات} (يونس: 13) ومادة البيّنة وما إليها أكثر شيء في كتاب الله يتعلق ببيان الحق والاستدلال عليه، كثيراً ما يأتي فيما اصطُلح عليه بالمعجزات الحسية، وقد يأتي في غيرها. السلطان: من التسلّط والسلطة، وهو يتضمن غلبةً وقوة، والمراد به في كتاب الله: سلطان الحجة؛ فإن الحجّة الحقة لها على النفس سلطان، وذلك أن العاقل لا يدفع البرهان الثابت إلا بالمكابرة وهي وليدة الكبر، قال عزّ سلطانه: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر} (غافر : 56). الآية: وهي بمعنى العلامة الظاهرة، آيات القرآن، وقد وردت "الآية" في كتاب الله بالإفراد والجمع كثيرًا. المثَل: في قول الله تعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} (الإسراء : 89)، والمثل في الاستعمال القرآني يدخل فيه الأقيسة العقلية المبيّنة عن الحجّة الملزمة؛ وإنما سمي مثلًا لأن العقل يتخذ أصلاً معلوماً مقيسًا عليه ليُتوصّل به إلى حكم المقيس بجامع وصفٍ مؤثّرٍ بينهما، فدلّت هذه الآية ونظائرها على أن القرآن مشتملٌ على الدلائل العقلية الكافية التي من لم يكتف بها كان مكابرًا لا غير: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما انا نذير مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} (العنكبوت: 50،51)، يقول إمام المنقول والمعقول ابن تيميّة، معلقاً على قول الحق سبحانه: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} (الفرقان : 33) : "أخبر سبحانه أن الكفار لا يأتونه بقياسٍ عقلي لباطلهم، إلا جاءه الله بالحق وجاءه من البيان والدليل وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم "(5) ومما يلحظ المدّبّر أن لفظة "الدليل" نفسها لم تأت في كتاب الله إلا في موضع واحد ليس هو في باب بيان صحّة الرسالة المحمدية ولكن في سياق الحضّ على النظر وصولًا بناصية النفس إلى تدبر آية من آيات الله الكونية، فقال تعالى: {ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكنًا ثم جعلنا الشمس عليه دليلًا} (الفرقان : 45)، والدلالة كما يقول الراغب: ما يتوصل به إلى معرفة الشيء (6) ،كقوله تعالى: {ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته} وكأن من سرّ عدم استعمال لفظ الدليل –والله أعلم- أن الدلالة في ذاتها مفردة عامة، قد تدلّ أنت فلاناً إلى خير أو شر، إلى حق أو باطل، فلا تحمل في نفسها قوة تليق بحديث عن أم القضايا الكبرى وهي الإيمان، بخلاف الألفاظ السالفة (حجة، برهان، إلخ ). بعدما أبصرت هذه المفردات الدائرة حول الدليل ومتعلقاته، لعلك تبصّرت أن كل واحدة منها تشتمل على معنىً قوي في نفسه أو أكثر؛ ليفطن العقل إلى مراد الله منه، وإلى حقيقةٍ قوامُها أن هذا الدين مؤسس على: قصد الطريق المستقيم الموصل للغاية الصحيحة النافعة وتحرّيه، وعلى الوضوح والبيان والظهور والكشف، وعلى نصب البرهان المفضي إلى الغاية المطلوبة التي يورث سلطانها في النفس يقيناً وطمأنينةً مقابل ما يدّعيه الخصوم من حجج داحضة. ولما كان "العقل" هو الأداة المعوّل عليها في إدراك المعاني والحقائق، وهو مناط التكليف كما يقول الأصوليون، فقد نثر الباري ذكرَه -أعني العقل- في كتابه، وكذا ما يلحق به..وقل نحو ذلك عن مادة "علم" وما يتعلق بها. ولا عجب عندئذ أن يأنس العبد عند تطوافه في آيات الكتاب، بترداد تلك المفردات التي تدعوه إلى إعمال الفكر، لتُبصر كيف تفعل تلك الآيات فعلها في وجدانه، فتراه يقوم منتفضًا، يقول: وجدت الحق! كما شعر بذلك البروفيسور جفري لانج (Jeffrey Lang) –مثلًا-عالم الرياضيات الأمريكي المعروف الذي أسلم بعد إلحاد..قال يصف شعوره "إذا ما اتـّخذت القرآن بجدّية، فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة، فإما أن تكون لتوّك قد استسلمت له، أو أنك ستقاومه، فهو يحمل عليك وكأن له حقوقًا عليك بشكل مباشر وشخصي، وهو يجادلك وينتقدك ويُخجلك ويتحدّاك، ومن حيث الظاهر، يرسم خطوط المعركة. ولقد كنت على الطرف الآخر في المواجهة، ولم أكن في وضع أحسد عليه، إذ بدا واضحا أن مبدع القرآن كان يعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي" (7)، فلن يجد الباحث الجاد هذا الحق إلا في دين الإسلام مدلولًا عليه بسلطان البرهان الحق..والمعني بالبرهان هنا جنسٌ كليّ يندرج تحته من دلائل النبوة أصناف وأشكال بحسب تنوع معارف الناس واهتماماتهم واختلاف مداركهم واتجاهاتهم، سيجد ناشد ضالّته من الحق في آيات الآفاق والأنفس حتى يتبين له ما لو كان صادقا في طلبته: أنه الحق، ويظفر كل امرئ من هذه البيّنات بحسب تجرده في تطلبه وصدقه في قصده الصراطَ المستقيم . كم هو ضالٌ من ظن أن كتاب الله عز وجل أو دين الإسلام ليس غير أخبارٍ وقصص ومواعظ مجرّدة عن أصيل الدليل، فهذه نظرة كسولةٌ للغاية ملفوفةٌ بالكِبْر، توعّد الله صاحبَها بصرفه عن الهدى فقال: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} (الأعراف : 146)، وقال المولى يصف كتابه: {وإنه لكتاب عزيز} (فصلت : 41)، ومن معاني عزّته أن ما اشتمل عليه من حجج وتنبيهات إلى دلائل بينات لا تلقي بنفسها إليك لتقول :أرجوك آمن !، بل لا يقع لك الفتح الرباني حتى تُرِي الله من نفسك صدقًا في ابتغاء الحق والسعي إليه وقصده وتحريه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. هوامش المقال 1- معجم مقاييس اللغة –ج2،ص30. 2- كتاب الحاء ، مادة "حج " ص 107 ، وكتاب مفردات القرآن للراغب نفيس سوى وقوعه في تأويل الصفات على خلاف منهج أهل السنة والجماعة . 3- لسان العرب -ج13 ، ص51. 4- تهذيب اللغة للأزهري - ج6، ص 294. 5- مجموع الفتاوى- 4،ص106. 6- مفردات القران ،ط كيلاني- كتاب الدال ص 171. 7- الصراع من أجل الإيمان ، جيفري لانج ص 34.
-
إن الإنسان لا يستغني عن الدين، بل إنه لا حياة لمن لا دين له، وإن كانت الفطرة السليمة تتوجه بطبيعتها إلى الرب عز وجل وإذا كان العقل الصحيح يقر بالإله القدير، إلا إن معرفة الطريق الموصلة إلى رضا الرب الجليل ومعرفة النهج المحقق للغاية من خلق الإنسان لا تستطيع أن تقوم به الفطرة أو يقوم به العقل، بل لابد من رسلٍ يبلّغون الناس ما يُرضي ربهم، ويحذّرونهم مما يسخط الرحمن عز وجل. إن أعظم ما يجب على الإنسان أن يعلمه في هذه الحياة معرفة ربه الذي أوجده من عدم، وأسبغ عليه النعم، وإن أعظم غاية خلق الله الخلقَ لأجلها هي عبادته وحده سبحانه، فكيف يعرف الإنسان ربه حق معرفته وما يجب له من الحقوق والواجبات؟ وكيف يعبد ربه؟ هل يعرف ذلك عن طريق العقول؟ لا! لأن العقول لا يمكن أن تستقل بمعرفة مراد الله منها، إذ العقل البشري أضعف من أن يدرك مراد بشر مثله قبل أن يخبره بمراده، فكيف بمعرفة مراد الله؟. لذلك فإن هذه المهمة مقصورة على الرسل والأنبياء الذين يصطفيهم الله لإبلاغ الرسالة، وعلى من بعدهم من أئمة الهدى ورثة الأنبياء ، الذين يحملون منهاجهم ، ويقتفون آثارهم، ويبلغون عنهم رسالتهم. ولذلك فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام قاموا بأعظم دور في حياة البشرية، حيث كانوا هم الصلة بين البشر وبين ربهم تبارك وتعالى، ومن رحمة الله تبارك وتعالى أنه ما ترك قومًا إلا وأرسل لهم رسولا يبشّرهم وينذرهم، قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36)، فما من طائفةٍ من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة إلا وجاءها رسول أو نبي يأمره بعبادة الله، ويحذرها مما يغضب الرب تبارك وتعالى. ومن عظيم رحمته وعدله عز وجل أنه اشترط لوقوع العذاب بالناس أن يأتيهم الرسل وتأتيهم الحجة من عند الرب جل وعلا قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء: 15). يقول الإمام الطبري: "وقوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} يقول تعالى ذكره: وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}: إن الله تبارك وتعالى ليس يعذّب أحداً حتى يسبق إليه من الله خُبْراً، أو يأتيه من الله بيِّنة، وليس معذّبا أحداً إلا بذنبه" . لذلك فليس لأحد من البشر حجة على الله عز وجل بعد إرسال الرسل ونزول الشرائع، يقول تعالى:{رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما } (النساء: 165). ولقد كثر عدد الأنبياء والمرسلين وبلغوا عددًا عظيمًا، فها هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول له: يا نبي الله، فأي الأنبياء كان أول؟ قال: (آدم) . قال: قلت يا نبي الله: أو نبي كان آدم؟ قال:(نعم، نبيٌّ مكلّم خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه روحه، ثم قال له: يا آدم قٌبْلاً). قال: قلت: يا رسول الله، كم وفّى عدة الأنبياء؟ قال:(مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر جمّاً غفيراً). يقول الشيخ السعدي: "فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله الرسل تترى، يبينون لهم أمر دينهم ومراضي ربهم ومساخطه، وطرق الجنة وطرق النار، فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وهذا من كمال عزّته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وذلك أيضا من فضله وإحسانه، حيث كان الناس مضطرّين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر، فأزال هذا الاضطرار، فله الحمد وله الشكر، ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم ،أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم؛ إنه جواد كريم" . وبذلك يتضح لنا حاجة البشر الملحّة للرسل، ورحمة الله عز وجل وعدله بالبشرية، حيث أرسل لهم رسلاً وأنبياء يهدونهم إلى طريق الحق، ولعل من أعظم الشواهد الحسية على حاجة البشر للرسول، هو حاجة الإنسان إلى قوانين وأخلاق تنظم حياته، وتضبط سلوكه، ليتميز بذلك عن سائر الحيوان. فإن الناس إما أن يعيشوا من غير دين ينظم حياتهم، ويضبط سلوكهم. وإما أن يتخذوا لهم من يشرّع لهم دينا. وإما أن يكونوا على الدين الحق الذي جاءهم بالبينات والهدى، فيكونوا بذلك على وفاق مع فطرتهم التي فطروا عليها، فتنتظم أمور حياتهم خير انتظام. فإن اختاروا الأول عاشوا في بهيمية نكراء، يأكل الضعيف منهم القوي، وكان اختلافهم عن سائر الحيوان بالشكل والصورة فحسب. وإن اختاروا الثاني فقد اختاروا العبودية لطائفة من البشر، تتسلّط عليهم، وتذيقهم من ظلمها سوء العذاب، فلم يبق إلا أن يحتكموا إلى الدين الحق ليأخذوا منه شرائعهم، ويبين لهم ما يحل لهم فيأتوه، وما يحرم عليهم فيجتنبوه، وهنا تكمن قمة السعادة ، ولا سعادة حقيقية للإنسان - أي إنسان - إلا بإتباع الدين الذي ارتضاه الله لعباده، والذي أرسل به الرسل، وأنزل من أجله الشرائع، والله الموفق.
-
الأبناء غِراس حياة، وقطوفُ أمل، وقرة عين الإنسان، ونعمة تستحق الشكر، وفي الوقت نفسه هم مسؤولية يجب العناية بهم، فالطفل أمانة عند والِديه، وقلبه عبارة عن جوهرة قابلة لكل نقْش، فإن عوِّد الخير نشأ عليه، وإن عوِّد الشر نشأ عليه، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : ( ما مِنْ مولودٍ إلا يولَدُ على الفَطرَةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه ) رواه البخاري . وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه والآباء سيحاسبون على أولادهم، فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( كلكم راع فمسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) رواه البخاري، ومن هذه المسئولية تربية الأبناء وتنشئتهم من صغرهم على الدين والأخلاق . وفي سيرة وأحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معيناً لا ينضب من المواقف والوصايا التي لو استخدمت في الحقل التربوي للصغار، لكانت كفيلة بترسيخ أروع القيم والمثل العليا في نفس الطفل، ولجعلت منه شخصية سويّة قادرة على القيام بدورها في بناء المجتمع وإصلاحه، لأن صغار اليوم هم بُناة الغد ورجال المستقبل . ومن هذه المواقف والوصايا النبوية في معاملة الصغار وتربيتهم : تنشئتهم على العقيدة : عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنت خلف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوما فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف ) رواه أحمد . السلام عليهم، ومسح رؤوسهم وتقبيلهم : السلام على الصغار ومسح رؤوسهم وتقبيلهم، أمر نغفل عنه كثيرًا، ومما لا شك فيه أن الصغار يحتاجون إلى الكثير من الاهتمام والحنان، وإشباع هذه الحاجة لا يكون إلا من قِبَل الوالدين أو من هو قريب منهما، وعلماء النفس والتربية يوصون بأهمية مسح رأس الطفل وتقبيله كأحد أهم وسائل الاهتمام العاطفي لإظهار الحب والتعبير عن الود، ومن ثم تكرر في مواقف كثيرة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الأولاد مسحه على رؤوسهم وتقبيله لهم، كما حدث مع محمد بن حاطب، وعمرو بن حريث، وغضيف بن الحارث، ويوسف بن عبد الله بن سلام، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن بسر وغيرهم ـ رضوان الله عليهم ـ . ولم يكُن اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصغار والسلام عليهم وتقبيلهم موقفا عارضًا، بل كان منهجًا دائمًا في حياته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، فعن أنس - رضي الله عنْه - قال: ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور الأنصار، ويسلم على صبيانِهم، ويَمسح رؤوسهم ) رواه ابن حبان . وعن ثابت البناني قال: كُنتُ مع أنسٍ، فمرَّ على صبيانٍ فسلَّمَ عليهم، وقالَ أنس ـ رضي الله عنه ـ: ( كنتُ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمرَّ على صبيانٍ فسلَّمَ عليهم ) رواه الترمذي . مداعبتهم وتكنيتهم : التلطف مع الصبي والسؤال عن حاله ومداعبته وتكنيته يدخل السرور والحب عليه وعلى أهله، ويعتبر ذلك سلوكاً تربوياً ودعوياً، ويساعد في تكوين شخصيته تكوينا سليما، والتكنية - وهي ما صُدِّرِت بأمٍ أو بأبٍ - تجوز ولو لم يولد لِمَنْ كُنِّيَّ ولد، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: كتاب الأدب باب " الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل " . وعن أنس - رضي الله عنه - قال: ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلُقًا، وكان لي أخٌ يُقال له أبو عمير - أحسبه فطيمًا ـ وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير ما فعل النُّغَير ( طائر صغير كالعصفور ) ) رواه مسلم . أمرهم بالصلاة : مع اهتمامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالناحية النفسية للأولاد ومداعبته لهم، كان لا يترك فرصة أو موقفا يحتاج الطفل فيه إلى تعليم أو تأديب إلا أرشده ووجهه برفق وحب، فعن عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنت غلاماً في حجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت طعمتي ( طريقة أكلي ) بعد ) رواه البخاري . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ) رواه أحمد . لقد توجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخطابَ للآباء والأمهات لحثهم على تعويد أولادهم المحافظة على الصلاة، حتى ينشأ الواحد منهم حسن الصلة بالله، ومَنْ لَمْ يَمْتثلِ الأمر ولَمْ يأمُر أولاده بالصلاة ويُتابعهم فيها، فقد عرِّض نفسه للعقوبة لأن أولاده أمانة عنده وسيحاسب عليهم . قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى: " يجب على كلِّ مطاعٍ أن يأمر مَن يطيعه بالصلاة، حتى الصغار الذين لم يبلغوا، ومَن كان عنده صغيرٌ، يتيمٌ أو ولد، فلم يأمره بالصلاة فإنه يعاقَبُ الكبير إذا لم يأمرِ الصغيرَ، ويُعَزَّرُ الكبير على ذلك تعزيرًا بليغًا، لأنه عصى الله ورسوله " . ولم يكن مِن هديه - صلى الله عليه وسلم - منع الصبيان من حضور المساجد، فقد كان يحضرهم ويقر حضورهم، فعن بريدة - رضيَ الله عنه - قال: ( بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يخطب، إذ أَقْبَلَ الحسن والحسين - عليهما السلام - عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل وحملهما، فقال: صدق الله { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ }(التغابن: 15)، رأيتُ هذين يمشيان ويعثران في قميصَيْهما، فلم أَصْبِرْ حتى نزلتُ فحملتهما ) رواه النسائي . فائدة : كما أن مِن هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الصغارِ بالطاعات ليعتادوا عليها، كان من هديه - صلوات الله وسلامه عليه ـ نهيهم عن الوقوع في المُحَرَّمات، فعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى صبيًّا قد حلق بعض شعره وترك بعضه، فَنَهَاهُم عن ذلك، وقال: ( احلقوه كله، أو اتركوه كله ) رواه أبو داود، فنهاهمُ عنِ القَزَع، وهو حَلْق بعض الشَّعْر، وتَرْك بعضه، وَوَجَّه الخطاب للمُكَلَّفين، ولَمْ يعتبرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الصغير غير مُكَلَّف وذلك حتى لا يعتاد الخطأ . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أخذ الحسن بن علي - رضي الله عنه - تمرةً مِن تَمْر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( كخ كخ، ارم بها، أَمَا علمْتَ أنَّا لا نأكُلُ الصدقةَ )، وفي رواية أخرى: ( إنا لا تَحِلُّ لنا الصدقة ) رواه مسلم . وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( حُرِّمَ لِبَاسُ الحرير والذَّهَب على ذكور أمتي، وَأُحِلَّ لإناثهم ) رواه الترمذي، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - التحريمَ متعلقًا بالذُّكوريَّة، ولم يجعلْه متعلقًا بالبلوغ والتكليف . قال ابن تيميَّة: " ما حُرِّمَ على الرجل فِعْلُه حُرِّمَ عليه أن يُمَكَّن منه الصغير، فإنه يأمُره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، ويضربه عليها إذا بلغ عشرًا، فكيف يحل له أن يُلبسه المحرمات " . لم يترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرصة ولا موقفا إلا وقدم النصح للصغار، وأرشد هم إلى السلوك الصحيح، وما سبق ما هو إلا غيض من فيض من هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومواقفه ووصاياه في تربية الصغار والاهتمام بهم، وإذا كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر الآباء بحسن تربية الأبناء، فإنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قد أعطى من نفسه القدوة الصالحة ليتأسى به الآباء والمربون في كل زمان ومكان، قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا }(الأحزاب:21) .
-
طلب كود اظهار استيلات
قام alfahloy-alfahloy بالرد على موضوع لـ larayane في نادي الفهلوى ديزاين للإبداع's ارشيف الموقع
-
مرحبا بكم جميعا اخوانى واخواتى الاعزاء يسعدنى ان اقدم لكم استايل الفهلوى ديزاين + سما العرب الازرق التطويرى بتقنيةcss وبالتومبيلات من تصميم ابوكريم وتحويل alfahloy استايل رائع جدا اتمنى ان الجميع يستفيد منه الحمد لله الاستايل خفيف ويعمل بكفاءة عالية واى استفسار انا جاهز ويسعدنى تلبية طلباتكم واستفسارتكم لتحميل الاستايل بالمرفقات باسورد فك الضغط www.alfahloy.net والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
-
طلب كود اظهار استيلات
قام alfahloy-alfahloy بالرد على موضوع لـ larayane في نادي الفهلوى ديزاين للإبداع's ارشيف الموقع
السلام عليكم اهلا اخى الغالى المقابل حضرتك بتحدد نوعه وانحن بنحددج الكم او العدد على حسب نوع المقابل بمعنى ان حضرتك بتححدد المقابل مشاركات فنحن نحدد العدد المطلوب من المشاركات على حسب حجم العمل المطلوب ولو حضرتك اخترت المقابل اعتمادات فنحن نحدد الكمية المطلوبة وهكذا يمكنك عمل طلب فى قسم الطلبات المدفوعة بعد الاطلاع على قوانين القسم بالتوفيق اخى الغالى -
طلب كود اظهار استيلات
قام alfahloy-alfahloy بالرد على موضوع لـ larayane في نادي الفهلوى ديزاين للإبداع's ارشيف الموقع
السلام عليكم اخى الغالى لو عاجبك الكود ال عند الاخ حسن ال فى ديفى نت اطلب من الاخ حسن انه يعدل لك عليه اما اذا اردت كود خاص "برمجة خاصة "يعنى فهذا ليس مجانى يمكن ان شاء الله برمجة كود احترافى كما تريد ويكون خاص بموقعك ملحوظة هامة يجب ان تكون مفعل التومبيلات بموقعك لكى يعمل الكود بنجاح لان الكود يحتوى على ثلاثة انواع من الاكواد 1- كود جافا سكربت JAVA 2- كود هتمل HTML 3- كود سى اس اس CSS منتظر ردك ان شاء الله بالتوفيق اخى الغالى -
طلب كود من تصميمكم الخاص
قام alfahloy-alfahloy بالرد على موضوع لـ larayane في نادي الفهلوى ديزاين للإبداع's ارشيف الموقع
-
طلب كود من تصميمكم الخاص
قام alfahloy-alfahloy بالرد على موضوع لـ larayane في نادي الفهلوى ديزاين للإبداع's ارشيف الموقع
-
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اهلا ومرحبا بكم اخوانى واخواتى اعضاء وزوار موقع الفهلوى ديزاين بناءً على طلب اخى الغالى larayane http://www.alfahloy.com/t28520-topic#135044 اقدم لكم كود الاقسام الفرعية بطريقة احترافية اولا طريقة التركيب ندخل على لوحة الادارة / ادارة عامة / المنتديات والفئات / نختار القسم الذى نريد التعديل عليه ثم نقوم بوضع الكود بعد التعديل على الكود بما يتناسب مع منتدياتنا الكود الكود:<p><span class="genmed">اكتب وصف للقسم<br> <br> <span style="color: Navy; text-decoration: underline"><br> الأقسام الفرعية :</span></font></strong><br> <img src="http://forum.islamstory.com/images/hexcell/misc/multipage.gif"> <a href="رابط القسم1"> <span style="font-weight: 700" lang="ar-eg">اسم القسم 1</span></a> <img src="http://forum.islamstory.com/images/hexcell/misc/multipage.gif"> <a href="رابط القسم2"><span style="font-weight: bold;"> اسم القسم 2</span></a><br> <img src="http://forum.islamstory.com/images/hexcell/misc/multipage.gif"> <a href="رابط القسم3"><span style="font-weight: bold;"> اسم القسم 3</span></a> <img src="http://forum.islamstory.com/images/hexcell/misc/multipage.gif"> <a href="رابط القسم4"><span style="font-weight: bold;"> اسم القسم 4</span></a><br> </span></p> صورة للكود من منتدى الفهلوى للتجارب بالتوفيق للجميع ان شاء الله
-
شروط طلب 5 مواضيع مجانية لمنتداك
قام alfahloy-alfahloy بالرد على موضوع لـ alfahloy-alfahloy في نادي الفهلوى ديزاين للإبداع's ارشيف الموقع
-
شهود عيان: قصف جوى لأهداف بمناطق شرقى "العريش"
قام alfahloy-alfahloy بالرد على موضوع لـ Light Life في نادي الفهلوى ديزاين للإبداع's ارشيف الموقع
-
عودة الاتصالات بشمال سيناء بعد انقطاع 5 ساعات
قام alfahloy-alfahloy بالرد على موضوع لـ Light Life في نادي الفهلوى ديزاين للإبداع's ارشيف الموقع