اذهب الي المحتوي
أحلى نادي لأحلى أعضاء
البحث في
  • المزيد من الخيارات...
عرض النتائج التي تحتوي على:
إيجاد النتائج في:

مجموعة عامة  ·  24130 اعضاء

حفظ
نادي جامعة القاهرة للتعليم المفتوح
Hamdy Tawfik-manar9

سقراط: فيلسوف المحاورة والتعجب ....د. بركات محمد مراد

Recommended Posts

)(Socrates) المؤسس الحقيقي للفلسفة عند اليونان، حيث يعتبر أستاذاً للحكيم أفلاطون والذي هو بدوره أستاذ لأعظم الفلاسفة اليونانيين أرسطو.

كان المبدأ الرئيس في فلسفة سقراط هو البحث عن المعرفة، لأنه كان يرى أن المعرفة لا يمكن أن تقوم على أساس صحيح إلا بعد دراسة طرق الوصول إليها. ثم إن الأخلاق نفسها لا يمكن أن تقوم إذا لم تسبق بالعلم، لأن الفضيلة تقوم على العلم. وهو بذلك قد غير وجهة نظر الفلاسفة لأنه وجه نظر الفلسفة إلى معرفة الماهيات أو المدركات، بدلاً من توجهها إلى معرفة الموضوعات الخارجية؛ ويعتقد سقراط أن الكرامة الحقيقية للنفس إنما تنبثق من العلم الذي هو ميراثها الحق. لكن العلم الذي يعتقد به لم يكن يرتكز، كما هي حالنا اليوم، على ظواهر العالم الخارجي؛ فقد اتخذ سقراط، منذ البداية، موقفًا معارضًا من منظِّري الطبيعة لافتقارهم إلى الحسَّ الإنساني؛ واتخذ أيضًا، في الوقت نفسه، موقفًا معارضًا من مذهب السفسطائيين، الذين لا يمتلكون موهبة الحسِّ العلمي.

فقد جمع سقراط بين المبادئ المقبولة للفيزياء وبين إتقان الجدل –جمع ما بين الشكل العلمي للمذهب الأول وبين الهمِّ الإنساني للثاني– جاعلاً من علم الأخلاق في القلب من مسعاه الفلسفي. لأنه، وفق مفهومه، بات يجب على الروح، التي تخلَّت عن محاولة فهم الكون، أن تهبط إلى أعماق نفسها، كي تستنبط الحقائق الأساسية الكامنة في تلك الأعماق على شكل حالات بالقوَّة (بالتذكُّر reminiscence)؛ الأمر الذي يجعل النفس قادرة على الإحاطة بالمعرفة، بدون أن تقع أسيرة للأشياء الخارجية (وهذا ما سيبرهن عليه لاحقًا كل من ديكارت وكانت).


إذ إنه أضحى من واجب العلم الرافض للانفعالات البشرية أن يركِّز على ماهية المعاني المجردة (أو الـconcepts)، التي كان سقراط أول من اكتشف مفهومها. فعن طريق السكينة والاستقرار الداخليين، نتوصل إلى استنباط جوهر الأشياء، ونتمكَّن من التعبير عنه بواسطة التعريفات. وكان هذا ما فعله سقراط -ممهدًا بذلك الطريق للنظرية الأفلاطونية التي ستليه– حين حاول، على سبيل المثال، تعريف مفهومي الشجاعة lachès والصداقة lysis.
وبما أن موهبة (فنّ) العيش السليم، كطريق إلى السعادة (والخير هو السعادة وفق المأثور القديم)؛ مرتبطة بمعرفة النفس؛ فإنها -متجاوزة حذاقة السفسطائيين- تكشف ضلال البشر الذين لا يهتمون، في معظم الأحوال، إلا بالأشياء التافهة الزائلة (كالثروة، والسمعة، إلخ)، ويتجاهلون ما هو أساسي، أي الحقيقة الكامنة في نفوسهم.

وتبدأ المعرفة، بحسب سقراط، بفعل تطهُّر (سبق أن دعا إليه الأورفيون والفيثاغوريون) يظهر من خلال التخلّص من الأفكار المسبقة بإظهار بطلانها، مختلف الخصال الحميدة (كالاعتدال، والعدالة، إلخ)؛ تلك التي، إن أحسن المرء استعمالها، تتحول إلى فضائل؛ إذ (لا أحد شرير باختياره)، وإنما بسبب الجهل. هذا وترفض طريقة سقراط لبلوغ المعرفة كل وحي يتجاوز العقل –فـ(شيطان) سقراط هو في المقدرة على الإقناع، وليس في الإبداع– وتعتمد الجدلية dialectique؛ لأن هذه الأخيرة، عبر مرحلتيها اللتين هما التهكم والتوليد (الذي هو، على طريقة سقراط، استيلاد الحقيقة من النفس maïeutique) تسمح –وسط أجواء من الصداقة– باستخلاص نقاط التلاقي بين المتحاورين، أي الحقائق الكونية المتعارف عليها وفق متطلبات المنطق.


لقد كان سقراط بحق مؤسس فلسفة الأخلاق وأول منظر للعقلانية (الأمر الذي سيكسبه عداء نيتشه). كما كان داعية إلى حرية الرأي والتفكير الفردي؛ مما جعل منه، بالتالي، مثالاً يحتذى في كل موروث فلسفي لاحق.
والطريقة التي اتخذها في تحصيل الماهيات هي الحوار مع الآخرين لاستخراج ما في أذهانهم من مفهومات عن الأمور، خصوصاً عن الأمور الأخلاقية، وهي طريقة يقول سقراط إنه تلقنها من أمه التي كانت قابلة (داية)، والداية ليس فقط تستخرج الأولاد من أرحام أمهاتهم، بل وأيضاً تحكم هل الوليد حي أو قابل للحياة، أو العكس ولد ميتاً.

وسقراط هو الآخر يستخرج المعاني من عقول الناس ويحكم عليها بالصحة أو البطلان وهو بذلك يولد الحقيقة من عقول الناس. ولذا قال أرسطو إننا ندين لسقراط بشيئين، الأول تعريف المعاني تعريفاً جامعاً مانعاً، والثاني: عملية الاستقراء الذي يستخلص الماهيات بواسطة المقارنة بين الأمثلة والشواهد المعطاة.
وفي سبيل إجراء الحوار مع من يحاوره كان سقراط يعلن أنه لا يعرف شيئاً، وأنه يريد أن يتعلم ممن يحاوره ويأخذ في فحص ما يدلي به محاوره ويكشف زيفه أو قصوره، وهذه الطريقة عرفت بمنهج التهكم السقراطي، حيث يدعي سقراط الجهل، على الرغم من معرفته الكاملة للحقيقة، أو محاولته المنهجية لتأسيس هذه المعرفة.
وتعتبر محاورات سقراط مع محدثيه وسيلته الناجعة في الوصول بهم إلى الحقيقة، فقد كان يبدأ بطرح السؤال على محدثه مستفسراً منه عن معنى أو مفهوم للفظ مجرد كالتقوى أو الجمال أو العدالة. ويتظاهر بالتصديق على جوابه، مدعياً الغفلة عن نقطة أساسية تركها محدثه مبهمة دون إيضاح. ويشبه هذا السؤال الاستفهام أو الاستجواب elenchus.
ويمضي سقراط في سؤاله والتعقيب على إجاباته، مستوضحاً منه ما استبهم عليه. ثم يستدرجه من حيث لا يعلم فيسترسل في الكلام ويتمادى في الخطأ حتى يقع في تناقض ظاهر كأن يقول في النهاية عكس ما كان قد أكده، كأن تتناقض النتائج مع المقدمات في آلية منطقه.

وبذلك ينكشف جهله أو قصوره وعجزه عن المعرفة والفهم.
ولم يكن سقراط يقصد بذلك مجرد فضح أدعياء المعرفة أو إثبات تفوقه العقلي عليهم، وإنما كان هدفه البحث عن أمثل الطرق للتوصل إلى الحقيقة. وقد اتضح له أن الإدراك العقلي، لا الإدراك الحسي هو السبيل الوحيد للمعرفة اليقينية.
ورأى أن الاستجواب في التحاور هو أفضل السبل التي تمكنه من أن يستنبط من إجابات محاوريه، عن طريق الاستقراء، ما يفترض أن يكون تعريفاً جامعاً مانعاً لمفهوم مجرد معين يصلح لأن يكون أساساً لحقيقة ثابتة ومعرفة صحيحة. وكان سقراط مربياً أكثر منه معلماً، كان همه الأول حث مريديه على التفكير بأنفسهم ولأنفسهم وتنظيم حياتهم على ضوء أفكارهم الخاصة لا أفكار غيرهم.
لقد اقتصرت مهمته على مساعدتهم على الاستيلاد للأفكار الكامنة في عقولهم وبعثها من رقادها وإخراجها إلى الحياة والنور. وقد شبه سقراط نفسه بالقابلة التي تقوم بالتوليد -تأثرا منه بمهنة أمه القابلة- دون أن تكون هي نفسها قادرة على الولادة. كان يؤمن بالمعرفة الجوانية النابعة من البصيرة لا بالمعرفة البرانية المنقولة عن الآخرين.
وقد حث تلاميذه على إخضاع كل شيء للتفكير العقلاني دون التأثر بأي عوامل خارجية أو انفعالات عاطفية، والتحقق من صحة الفروض التي يبنون عليها أحكامهم، وكانت وسيلته إلى ذلك هي المناقشة بطريقة الحوار أو بالأحرى (الديالكيتيك) أي تقصي صحة الآراء والمعتقدات واختبارها عن طريق السؤال والجواب، والتصويب والتعقيب.

وبذلك يكون قد غرس في نفوس طلابه روح النقد والشك فيما يعرض لهم من أمور لا تستقيم مع العقل.
وقد كانت طريقة سقراط فلسفة حقيقية بسبب قدرته غير العادية على التعجب والدهشة، فالفلسفة تبدأ في الحقيقة نتيجة التعجب والدهشة، ولذلك يقول أرسطو في كتابه (ما بعد الطبيعة): «إن الناس بدأت التفلسف، سواء الآن أو في الماضي، انطلاقا من تعجبهم». فالإنسان «الذي يتعجب يعتقد أنه جاهل.. وهو عندما يتفلسف فإنما يفعل ذلك لينجو من الجهل، وليس لأي غاية نفعية». فأصل التفلسف إذن يحدد واحدة من أهم صفات الفلسفة: وهي أنها تدرس كغاية في ذاتها، وما دامت توجد كغاية في ذاتها، فهي علم حر ما دام تعريف الحرية هو «ما يوجد لذاته وليس لغيره». ويشرع أرسطو -بعد ذلك- في شرح طبيعة التعجب من الأشياء، كما يتعجبون أمام العرائس المتحركة، لأنها تبدو عجيبة لمن يدرك سبب تحركها.
التعجب إذن سؤال عن السبب، وجهد المعرفة هو جهد لمعرفة السبب، الأمر الذي ينقلنا إلى (الحالة الأفضل) أي إلى المعرفة.

فعندما يتعجب المرء أمام الكون، فهو يسأل عن السبب، والإجابة تكون بتعيين الأسباب وتلك الفلسفة. التعجب بدء الفلسفة إذن قدم لنا تعريف الفلسفة. فهو قد تجلى في السؤال عن الأسباب فحدد مسار العقل. وقدم لنا أيضاً الفلسفة بوصفها علماً نظرياً حراً ينشد لذاته لا لأي غاية نفعية أخرى.
لكن عرض المسألة على أنها حركة من التعجب نحو (الحالة الأفضل) يطرح علينا مفارقة، فإذا كانت المعرفة تبدأ تعجباً فهل ينتهي التعجب باكتساب المعرفة؟ هل يحمل التعجب في ذاته، وعلى نحو جدلي، بذور فنائه، هل تتحول الفلسفة في هذه الحركة المتوترة من التعجب إلى المعرفة لتنتهي بعد ذلك؟ بعبارة أخرى: هل تنتهي الفلسفة بتحقيقها؟
يقول و.د.روس Ross في كتابه (أرسطو): «تنبع الفلسفة من التعجب، وتتحرك نحو محو abolition التعجب، نحو فهم العالم فهماً عميقاً بحيث لا يبقى هناك مجال للتعجب حول كون الأشياء على ما هي عليه». ويكتب هنري جونستون H.Johnston في مقدمته لكتاب (ما الفلسفة؟) وهو مجموعة مختارات من كتابات فلاسفة معاصرين حاولوا الإجابة عن هذا السؤال: «لقد عبر أفلاطون وأرسطو عن العلاقة بين براءة الإنسان البدائية وبين الحكمة التي يسعى إليها بقولهما إن الفلسفة تبدأ من التعجب. فإذا كان الأمر كذلك فإنها تنتهي بإزالة extinction التعجب».

التعجب إذن في رأي (روس) و(جنستون) مرحلة بدء وحسب تمحى أو تزال بتحقيق معرفة موضوع التعجب. والحق إن هذه النتيجة منطقية، إلا أنه ينبغي قبل التسليم بها معرفة رأي (هيدجر) Heidegger في هذا الموضوع في كتابه (ما الفلسفة؟) يقول: «التعجب بدء الفلسفة، وعلينا أن نفهم الكلمة اليونانية archein بمعناها الكامل، إنها تشير إلى ما منه يبدأ الشيء. ولكن هذه الـ(ما منه) لا تترك مكانها في عملية الانطلاق، ولكنها تصبح بالأحرى ما يعبر عنه فعل يبدأ archein أي (ما يسود)» .
إن التعجب على هذا النحو لا يتوقف ببساطة في بداية الفلسفة كالجّراح الذي يغسل يديه قبل البدء بعملية جراحية. التعجب يحمل الفلسفة ويسودها.. ويصف التعجب بأنه «ما منه يفيض التفلسف وما يحدد مجرى التفلسف تماماً».
يرى (هيدجر) الموضوع إذن من منظور مختلف، فالتعجب سؤال عن الأسباب، نزوع نحو معرفة هذه الأسباب. هل يبقى النزوع نزوعاً إذا لم يجد أمامه موضوعاً يحقق ذاته فيه؟ وإذا وجدنا كانت kant يقول في مقدمة كتابه (نقد العقل الخالص) ومن وجهة نظر نقدية حديثة: «كتب على الإنسان أن يسأل أسئلة لا يجد جواباً عليها», وهذه في نظر اليونان فضيحة فلسفية، فالنزوع أو الشوق لهما موضوع. فإننا نجد أرسطو يؤكد على أنه «للأشياء ابتداء، وأن علل الأشياء الموجودة ليست بلا نهاية لا من طريق الاستقامة ولا من طريق النوع». هناك إذن حد أخير هو موضوع العلم، وحقيقة الفلسفة ترضي التعجب، وتجيب على نزوع المعرفة.
وعامة كان التعجب هو مفتاح سقراط في تأسيس كل مباحث الفلسفة فقد بحث في الأخلاق بحثاً عاماً، بمعنى أنه نظر إلى الأخلاق من الناحية الصورية -على الرغم من أنه كان يعيش الحياة الأخلاقية التي يدعو إليها- فوضع المبدأ الرئيس الذي تقوم عليه، وبعد ذلك لم يعنَ بجزئيات الأخلاق.

وهذا المبدأ هو قوله إن الفضيلة هي العلم، وأنه بغير العلم لا يتم العمل، وحيث يوجد العلم يوجد العمل، ومن هنا فالإنسان في نظره لا يمكن أن يفعل الشر وهو عالم بأنه يفعل الشر، وأن الإنسان ليس شريراً بطبعه، وإنما الشر مصدره الجهل، ولهذا فإن الإنسان إذا علم بأن هذا الشيء نافع له ومفيد، فإنه لابد أن يعمله ولا يؤجله. وما دام مرجع الفضائل إلى العلم، فمن الممكن أن نقول بوجه عام أن كل فضيلة علم، وكذلك كل رذيلة جهل.
وكان سقراط أول من أعطى دفعة قوية لتطوير الفكر الفلسفي لا في علم الأخلاق فقط، بل في علم المنطق أيضاً.

وكثيراً ما كان سقراط يشبه نفسه بالنحلة التي لا تفتأ عن الدوران والرقص في أنحاء المدينة لجعل الناس في حالة يقظة دائمة وإدراك متواصل، خشية الوقوع في حالة خدر وغياب للوعي والفهم لما يحيط بهم. ولم يدعه الناقمون عليه حتى دفعوا به للمحاكمة والإعدام، وكان بإمكانه الهرب من الموت، ولكن احترامه لقوانين مدينته جعله يرفض ذلك، ولو قدم طلب عفو للمحكمة لرأفت به وأطلقت سراحه، لكنه الفيلسوف الأبي الشجاع، عزف عن طلب الغفران وتجرع السم في سجنه طائعاً مختاراً ضاحكاً، وهو يؤكد انتقاله لعالم أفضل في موته هذا.


ويعتبر سقراط، وبحق ليس المعلم، معلم الأخلاق ومبدع التحديد الأخلاقي وحسب، بل يعتبر أيضاً وقبل كل شيء الإنسان الأخلاقي. وكرجل دين مجدد، نظراً لتلك العلاقة القائمة بين الدين والدولة Polis، كما وأنه يعتبر كرجل مشاغب بالنسبة للنظام السياسي والاجتماعي الذي كان سائداً في ذلك الحين. لذلك نظراً لتطلعاته السياسية والاجتماعية حكم عليه بالإعدام موتاً.
ولذلك يجب أن نعالج القضية الأخلاقية من زاوية الوضع الاجتماعي والسياسي. فالعدالة تخص الإنسان من حيث كونه فرداً، ولكن انطلاقاً من علاقاته الاجتماعية مع الآخرين. فالأخلاق والسياسة لا ينفصلان، بل يؤلفان وحدة كاملة متكاملة.
فالأخلاق بالنسبة إلى سقراط هي علم الإنسان الفرد المتصل من خلال علاقاته مع المجتمع. يعني ذلك اتصال الإنسان مع السياسة. فقضية الأخلاق-السياسة، لا يمكن أن تنبثق من الإدراك العقلاني فقط. لقد توصل سقراط إلى التحديد التالي لمفهوم الفضيلة إذ يقول: إن العدالة هي الحكمة والفضيلة.
وإن حياة الإنسان العادل هي في حالة من السعادة تفوق كثيراً حياة الإنسان اللاعادل.

لقد جمع سقراط بقوله هذا قضية العدالة بقضية السياسة. غير أن الأخلاق والإدراك العقلاني يخلوان عنده من عمق وأساس ما ورائي-ميتافيزيقي. كما وأنهما يخلوان من عمق روحاني ديني.
فإذا كانت كل فلسفة هي بشكل من الأشكال (تأريخ حياتي معقلن) يمكن إذاً أن نعتبر فلسفة أفلاطون من هذا الطراز: هي تأويل لسقراط-الإنسان, وتأويل لهذه الشخصية مبدعة الفلسفة الأفلاطونية. لذلك كانت شخصية سقراط بالنسبة إلى تلميذه أفلاطون شخصية المعلم الخارقة.


إن محاورات أفلاطون هي في الواقع، تأويل وتفسير لأعمال سقراط. وهي كذلك بمثابة تاريخ لمجمل الأفكار والأخبار والأقوال التي قالها سقراط. إن أفلاطون يحاول من خلال هذه الوقائع قراءة ما يدور داخل هذه الأسطر واضعاً في داخلها شخصيته. لذلك يمكن أن نعتبر هذه الأقوال وهذه الأعمال، أقوال وأعمال أفلاطون وسقراط معاً.
يعتبر سقراط الصورة الحية للفلسفة الأفلاطونية دون أن تتخلى عن ذاتها كونها فلسفة سقراط بالذات، لأنه هو المعلم الأول والحجة الأولى للتأمل عند تلميذه أفلاطون. إن حياة سقراط الفاضلة، تبقى بدون تفسير وبدون حجة ثابتة إذا ما أنكرنا عليها وجود العالم الآخر وخلود النفس الإنسانية.


من هنا نقول إنه لا يمكن إطلاقاً أن نسلم بموت سقراط الهادئ والرصين لو كانت النفس نفساً متلاشية بعد مفارقتها الجسد. يعتبر سقراط أن «النظام وغاية الكون ليسا وليدة الصدفة ولا وليدة القوانين الآلية، إنما هي نتيجة للعقل الإلهي الأزلي، الذي ترجع إليه جميع القوانين والتغيرات اللامكتوبة», إذاً يمكننا أن نقول إن تفكير سقراط اللاهوتي يظهر لنا عن تحول وتطور في التفكير مختلف عن التفكير التقليدي.
فعندما يعلن سقراط عن وجود العالم الآخر وعن خلود النفس الإنسانية، فإنه يعلن بذات الوقت عن نشأة الأخلاق ذات النزعة الكونية، التي تهدف بحد ذاتها إلى أن تكون في الحقيقة فلسفة لها قوانينها ومبادئها الذاتية. إن محاولات سقراط، حسب التأويل الأفلاطوني ترتكز على مبدأ الخير المطلق، هذا الخير لا يخضع للأشياء الحسية. كالخير الذي نادى به السفسطائيون. بل يعتبره الخير المطلق الذي لا يخضع لأي شرط حسي، إنه هو علة وجود الإنسان.
رغم اقتناعنا الكلي بأن خير الفضيلة وخير السعادة لا يمكن التفكير بهما كونهما أشياء صعبة المنال. بل إن من واجبنا الوجودي التطلع دوماً إلى ما هو أعمق وأشمل. إن الإنسان في الواقع، هو أكمل المخلوقات الحية، وهو أيضا الكائن الأسمى بين جميع المخلوقات. ذلك لأنه يمتلك القدرة على الكلام والنطق، وأن باستطاعته بما أنه أسمى المخلوقات اكتساب العلم والمعرفة.
يعتبر الإنسان بين سائر المخلوقات الحية (كأعجوبة)، رغم حياته الجسدية، فطبيعتنا المؤلفة من الجسد والروح مدعوة للانطلاق من هذين العنصرين على أن تتحدا وتتجانسا في أعمالهما وحياتهما. لذلك لا يمكن إطلاقاً فصل الفضيلة عن السعادة، إذ لا تتحقق السعادة بدون وجود الفضيلة.


يوجد في كل منا فضائل وامتيازات وفرح وبعض الأعمال الكاملة. إن كل هذه الصفات والامتيازات تؤلف فيما بينها وحدة كاملة متجانسة. لذلك نقول إن هذه التصريحات والأقوال التي تدل بصورة قاطعة عن توازن في الحياة وعن استقرار نفسي، هي أقوال تنبع من صميم المبادئ السقراطية. فإذا كان هناك في الواقع علاقة متينة ودائمة بين الفضيلة والسعادة يكفي إظهارها وإعلانها للناس وحثهم على معرفتها والعمل بموجبها. حتى إذا ما أرادوا اكتساب الفضيلة كان لديهم الاستعداد الكافي والثابت على اكتساب السعادة.

لقد قضى سقراط حياته كلها في سبيل تدعيم مبادئه وآرائه. وفي سبيل تبيان مفهومه للفضيلة وللسعادة. يقول سقراط إن الفضيلة تعطى نتيجة لامتلاكها السعادة؛ لأن الفضيلة بالنسبة لسقراط تساعدنا على تحقيق غايتنا وأهدافنا الوجودية. الفضيلة هي ما نسميه (الأجمل) وما نسميه أيضاً (الخير). فالأجمل والخير معاً هما -يقول سقراط- الشيء الضروري لحياة الإنسان ولسعادته.
إن سقراط لا يعترف إطلاقاً بوجود (الأجمل والخير) دون أن يكون هذا الوجود معللاً، إن (الأجمل والخير) هما حقيقة واحدة. ولذلك نجد H.Maier في دراسته التي أتى بها عن سقراط Sokrates يتخذ موقفاً واضحاً وصريحاً حيال هذه النقطة: إن سقراط -يقول الكاتب- هو مثالي يتمتع باقتناع كلي بهذه المثالية. لذلك كرس لها حياته كلها واعتبرها رسالته الوحيدة الجديرة بأن تكون رسالة, وأن الفضيلة تؤّمن السعادة للإنسان لا محالة.
ومن هنا كانت الفلسفة عند سقراط هي علم الأخلاق والسياسة، وبعبارة أخرى هي الإنسان والدولة. ومدخله إليهما هو المنطق. وبالفعل فلقد أحدث في هذا المجال ثورة عنيفة وعميقة حين أكد أنه في مقدور الفلسفة أن تصوغ قانوناً أخلاقياً قوياً دنيوياً غير ديني، ومن غير الاعتقاد بخوارق الطبيعة، وأن هذا القانون كفيل بأن ينقذ الحضارة التي تهددها حركتها الفكرية بالانهيار والزوال، ونقطة البدء عنده أن الخير ليس فكرة دينية، بل هو فكرة دنيوية إلى حد يجعلها فكرة نفعية. فالخير
هو النافع، فليس الخير خيراً لأن الآلهة ترضى عنه، ولكن الآلهة على العكس، ترضى عن الخير لأنه خير.

وحيث أنه ليس من شيء يعادل المعرفة في نفعها، فإنها تكون جماع الخير وأسمى الفضائل، وأنه بالمعرفة الحقة يكون العمل الصالح أمراً محتوماً لا مفر منه. وبتطبيق هذه المبادئ في المجال السياسي؛ انتهى سقراط إلى عدد من الأفكار المهمة:
مادام الخير هو النافع، فإن المواطن لا يكون خيراً ولا صالحاً إلا إذا كان نافعاً، وهو لا يكون نافعاً إلا حيث يخضع لقوانين المدينة ويحترمها، ويسهم إيجابياً في كل ما هو ملقى عليه من واجبات تستهدف النفع العام.
وقوانين المدينة التي يلتزم بها المواطن الصالح، ليس هو ما تضعه المدينة من أوامر فحسب، ولكنها كذلك القوانين العليا غير المكتوبة التي لا يرجع مصدرها إلى عمل البشر، والتي تكون خيرة لأنها نافعة حين تساعد على تحقيق العدل في المجتمع، باعتبار أن العدل هو مقياس الفضيلة.


وإذا كانت المعرفة فضيلة، فإن الأرستقراطية هي خير أشكال الحكم، وكانت الديمقراطية سخفاً وعبثاً، فمن السخف عند سقراط أن نختار الحكام بالقرعة على حين أن أحد لا يفكر قط في أن يختار بالقرعة مرشد السفن أو البناء أو النافخ في الناي أو أي صانع على الإطلاق، مع أن عيوب هؤلاء أقل ضرراً من عيوب أولئك الذين يفسدون حكوماتنا.
لاشيء ينجي (أثينا) إلا حكم أصحاب المعرفة والكفاية، وليست السبيل إلى هذا الحكم هي الاقتراع، كذلك لا يجب أن يختار موظفو الدولة علي أساس جاههم أو ثرائهم، ذلك لأن الاستبداد وسلطان المال لا يقل شرهما عن شر الديمقراطية.
وأهم هذه الأفكار أهمية التمسك بالقانون، حيث تكمن العدالة في عدم انتهاك القوانين، لذلك فإن أفضل طرق تحقيق العدالة هو احترام القوانين.

ومن هذا المنطلق فليس ثمة فكرة فلسفية كان لها التأثير في حياة سقراط ما كان لفكرة القانون، فقد كان السفسطائيون يعتقدون أن القانون من اختراع الإنسان، وأنه تعاقد وضعي مصطنع يتعارض مع قوانين الطبيعة ويرمي إلي حماية الضعفاء من سلطان الأقوياء، فلا بأس من الخروج عليه ما دام غير ذي قواعد راسخة في طبائع الأشياء، وإنما البأس كل البأس أن يخضع له وأن يضحى بحرية الفرد في سبيل أوهام أو عادات متوارثة لا حقيقة لها.
لكن سقراط الذي يؤمن بنظام الخير في الإنسان وفي الأشياء لم يقبل أن تترك الحياة الإنسانية للنزوات والأهواء، بل يجب أن تكون هناك قواعد ثابتة للعمل، كلية، عامة، مطلقة، وهذه القوانين يجب على العقل أن يكتشفها كما يجب على الإرادة أن تطبقها وتخضع لها، وهذه القوانين إذن ليست اصطناعية، وإنما هي تقوم على أصل ثابت وجذور راسخة في بناء الفرد والمجتمع والطبيعة.


ومن الجدير بالذكر معرفة أن كلمة (القانون) يتسع معناها -في نظر سقراط- بحيث يشمل جميع قواعد السلوك التي تنظم حياة الفرد والمجتمع، سواء كان مصدرها العقل أو العرف أو التشريع أو الأخلاق أو الدين. والحق أن سقراط عندما تناول قضية العدالة على هذا النحو لم يكن يعبر عن وجهة نظر فلسفية محضة، فقد كان هو نفسه أولاً وقبل كل شيء مواطناً ممتازاً، دائم الاستعداد للانصياع للقوانين، سواء أكان المطلوب منه أن يحافظ على موقعه في معركة (بوتيديوم) أم أن يناضل في مجلس الشيوخ، الذي وقعت عليه القرعة لدخوله، ضد الغزوات اللامشروعة للطاغية (أقرينياس) أم أخيراً أن يرفض، احتراماً منه لقوانين بلاده،

ما اقترحه (أقريطون) من فرار للنجاة بنفسه من الموت بعد صدور الحكم بإدانته.
ولكننا سنجد سقراط في محاورة الجمهورية يبين لنا -في بلاغة رائعة- لماذا يجب على المواطن في كل الأحوال أن يحترم قوانين بلاده، قوانين الدولة: فالقوانين إنما أريد بها تحقيق الصالح العام. والمواطن برضاه العيش في الدولة بعد أن عرف قوانينها ولم يعترض عليها يكون بذلك قد (تعاقد ضمناً) وقطع على نفسه عهداً أنه سيطيع هذه القوانين ويصدع بما تأمره به.
وعلى ذلك فإن صفة الإلزام في القوانين لا يجب البحث عنها في الإكراه الذي تفرضه قوة عليا خارجة عن الجماعة أو في الإكراه الذي تمارسه الدولة، وإنما في القبول الضمنى لهذه القوانين.
وخلاصة القول إذن هي أن العدالة -في نظر سقراط- تندمج مع القانون: فالعادل والمشروع شيء واحد، والعدالة هي ما تقرره القوانين، ومن ثم فإن الإنسان العادل هو الذي يراعي قوانين الدولة في جميع تصرفاته وأفعال. وقد ميز سقراط بين نوعين من القوانين المكتوبة وهي التي تنظم علاقات الناس اليومية وتحقق الوئام في المدينة، وهذه القوانين قد تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة. وما القوانين المكتوبة سوى صورة أو أنموذج من القوانين الإلهية غير المكتوبة، ولهذا استقت القوانين الشعبية عظمة وقدسية من عظمة نموذجها الإلهي وقدسيته، وعلى هذا يعيد سقراط قدسية القوانين إليها تلك القدسية التي هدمها السفسطائيون. ونتج عن إيمانه بالآلهة وحكمتها أن أعاد إلى القوانين قدسيتها.
كما أن هناك قوانين أخرى غير مكتوبة وهي القوانين الأخلاقية، وهذه ألزم للإنسان من القوانين المكتوبة، لأنها في الواقع أساسها، وهي في نظر سقراط مطلقة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال. ولذلك رأينا معارضة سقراط للسفسطائيين أنه يرفض نسبية القوانين الإنسانية وتغيرها، فقد أكد أن القوانين سواء كانت قوانين مكتوبة وضعها البشر، لتحقيق السلام والسعادة في المدينة أو كانت قوانين غير مكتوبة مستمدة من إرادة الآلهة، فهي حقائق ثابتة متوارثة ينبغي المحافظة عليها من أي تغيير أو تبديل. فالقانون في ثباته وكماله كالحقيقة الرياضية عند سقراط لا تتغير بتغير الزمان والمكان، لأن هناك قوانين غير مكتوبة مستمدة من الآلهة، وهي ليست خاصة بمدينة معينة أو بزمان معين فهي عامة ومعروفة للجميع منها بر الوالدين واحترام الآلهة وتقديسها وعدم الزواج من المحارم. ولذلك عاش سقراط حياته كلها طائعاً للقوانين رافضاً الخروج عليها، وحتى عندما حكمت عليه هذه القوانين ظلماً بالإعدام رفض خرقها بالهرب من السجن، واعتبر أن هذه خيانة لنظام المدينة الذي ولد وعاش فيه وخيانة الآلهة التي فرضت هذه القوانين، ولم يرتكب الظلم أبداً في حياته حتى ولو كان رداً على ظلم قد حل بساحته؛ إيماناً منه بأن الظلم سيظل في كل الحالات شراً وعاراً على صاحبه،

وتكشف الوقائع التاريخية عن شدة تمسك سقراط بالقوانين ومنها مقاومته لحكم الثلاثين. لذلك رأى سقراط أن الدولة نتيجة حتمية مرغوب فيها لاحتياجات الإنسان وضرورات معيشته ورغباته كما رأى أن القانون إذا اعتمد على الحكمة فإنه يتجاوب مع التفكير العام.
وقد طالب سقراط بالتعليم السياسي للجميع كما هاجم وانتقد الديمقراطية السائدة في اليونان القديمة واختيار من يتولون الوظائف العامة، ونادى بأنه يجب أن تحكم الدولة بواسطة الأرستقراطية الفكرية، وقد جاهد في إيجاد الروابط بين المقاييس الأخلاقية والأحوال والظروف السياسية.
ولقد كانت الفلسفة كلها عند سقراط معنى واحد ورسالة واحدة هي إقرار العدل بين الناس يقول سقراط: «العدل هو السعادة الحقة التي لا سعادة سواها وما من تعس غير الظالم». وهو يعلن أن «العدالة نافعة للدولة كما هي نافعة للأفراد أنها هي التي تحفظ للأمم قوتها وسعادتها وبها يكون الأفراد في مأمن من المهانة فيربحون قضاياهم في المحاكم ويصلون إلى المكارم كذلك, فالصداقة نافعة لنا لأنها تقدم لنا حلفاء يدافعون عنا عند الحاجة وهم على استعداد دائماً لتقديم الخدمات لنا، كذلك أيضاً فالشجاعة نافعة لأنها تتيح لنا أن نخرج منتصرين من المواقف الخطرة».


ويرى سقراط أنه ليس المهم هو أن نعيش، ولكن أن نحيا حياة أفضل هذا هو الشيء الأهم، فإن تحيا حياة أفضل هو أن تحيا شريفاً وعادلاً، ولذلك فالحياة الحسنة هي الحياة الفاضلة. وعلى الرغم من أن سقراط ذكر فضيلة واحدة هي العدالة، فإن الكلمة اليونانية الدالة على العدالة استخدمت كمرادف للصلاح والاستقامة بصفة عامة.
ويرى سقراط أن من لديه إحدى الفضائل فسيملك الفضائل كلها. وعلى حين نظر السفسطائيون إلى الإنسان لكي يحقق ما قدر له، ينبغي له أن يعيش وفقاً لنظام العالم، إذ أن العدالة وهي الصورة العليا للحكمة هي العقل الإنساني في توافقه مع العقل الأبدي، إن العدالة ورع أيضاً، حينما تظهر مشاركة الإنسان فيما هو إلهي، فما الورع في حقيقته إن لم يكن مراعاة للقوانين الإلهية؟


.د. بركات محمد مراد

شارك هذه المشاركه


رابط المشاركه
شارك

انشئ حساب جديد او قم بتسجيل دخولك لتتمكن من اضافه تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل ؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان

×
×
  • اضف...

Important Information

We have placed cookies on your device to help make this website better. You can adjust your cookie settings, otherwise we'll assume you're okay to continue.